Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 104-110)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى قبائح اليهود ، وما اختصوا به من ضروب السحر والشعوذة ، أعقبه ببيان نوع آخر من السوء والشر ، الذي يضمرونه للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، من الطعن والحقد والحسد ، وتمني زوال النعمة عن المؤمنين ، واتخاذهم الشريعة الغراء هدفاً للطعن والتجريح بسبب النسخ لبعض الأحكام الشرعية . اللغَة : { رَاعِنَا } من المراعاة وهي الإِنظار والإِمهال ، وأصلها من الرعاية وهي النظر في مصالح الإِنسان ، وقد حرفها اليهود فجعلوها كلمة مسبة مشتقة من الرعونة وهي الحُمْق ولذلك نهي عنها المؤمنون { ٱنْظُرْنَا } من النظر والانتظار تقول : نظرتُ الرجل إِذا انتظرته وارتقبته أي انتظرنا وتأنَّ بنا { يَوَدُّ } يتمنى ويحب { نَنسَخْ } النسخ في اللغة : الإِبطال والإِزالة يقال : نسخت الشمس الظل أي أزالته وفي الشرع : رفع حكم شرعي وتبديله بحكم آخر { نُنسِهَا } من أنسى الشيءَ جعله منسياً فهو من النسيان الذي هو ضد الذكر أي نمحها من القلوب { وَلِيٍّ } الولي : من يتولى أمور الإِنسان ومصالحه { نَصِير } النصير : المعين مأخوذ من قولهم نصره إِذا أعانه { أَمْ } بمعنى بل وهي تفيد الانتقال من جملة إِلى جملة كقوله تعالى { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } [ يونس : 38 ] أي بل يقولون { يَتَبَدَّلِ } يقال : بدّل وتبدل واستبدل أي جعل شيئاً موضع آخر ، وتبدل الكفر بالإِيمان معناه أخذه بدل الإِيمان { سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } أي وسط الطريق ، والسواء من كل شيء : الوسط ، والسبيل معناه الطريق { فَٱعْفُواْ } العفو : ترك المؤاخذة على الذنب { وَٱصْفَحُواْ } والصفح : ترك التأنيب عنه . سَبَبُ النّزول : روي أن اليهود قالوا : ألا تعجبون لأمر محمد ؟ ! يأمر أصحابه بأمرٍ ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ، فما هذا القرآن إِلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه ، يناقض بعضه بعضاً فنزلت { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } . التفسِير : { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } هذا نداء من الله جل شأنه للمؤمنين يخاطبهم فيه فيقول { لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا } أي راقبنا وأمهلنا حتى نتمكن من حفظ ما تلقيه علينا { وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا } أي انتظرنا وارتقبنا { وَٱسْمَعُواْ } أي أطيعوا أوامر الله ولا تكونوا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا { وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي ولليهود الذين نالوا من الرسول وسبّوه ، عذاب أليم موجع { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي ما يحب الكافرون من اليهود والنصارى ولا المشركون أن ينزّل عليكم شيء من الخير ، بغضاً فيكم وحسداً لكم { وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي يختص بالنبوة والوحي والفضل والإِحسان من شاء من عباده { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } والله واسع الفضل والإِحسان ثم قال تعالى رداً على اليهود حين طعنوا في القرآن بسبب النسخ { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي ما نبدّل من حكم آية فنغيره بآخر أو ننسها يا محمد أي نمحها من قلبك { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي نأت بخير لكم منها أيها المؤمنون بما هو أنفع لكم في العاجل أو الآجل ، إِما برفع المشقة عنكم ، أو بزيادة الأجر والثواب لكم { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله عليم حكيم قدير ، لا يصدر منه إِلا كل خير وإِحسان للعباد ! ! { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي ألم تعلم أن الله هو المالك المتصرف في شئون الخلق يحكم بما شاء ويأمر بما شاء ؟ { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي ما لكم وليٌّ يرعى شئونكم أو ناصر ينصركم غير الله تعالى فهو نعم الناصر والمعين { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } أي بل أتريدون يا معشر المؤمنين أن تسألوا نبيكم كما سأل قوم موسى نبيهم من قبل ويكون مثلكم مثل اليهود الذين قالوا لنبيهم { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] فتضلوا كما ضلوا { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ } أي يستبدل الضلالة بالهدى ويأخذ الكفر بدل الإِيمان { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } أي فقد حاد عن الجادة وخرج عن الصراط السوي { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي تمنى كثير من اليهود والنصارى { لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً } أي لو يصيّرونكم كفاراً بعد أن آمنتم { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } أي حسداً منهم لكم حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } أي من بعد ما ظهر لهم بالبراهين الساطعة أن دينكم هو الحق { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ } أي اتركوهم وأعرضوا عنهم فلا تؤاخذوهم { حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } أي حتى يأذن الله لكم بقتالهم { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي قادر على كل شيء فينتقم منهم إِذا حان الأوان { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } أي حافظوا على عمودي الإِسلام وهما " الصلاة والزكاة " وتقربوا إِليه بالعبادة البدنية والمالية { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } أي ما تتقربوا إِلى الله من صلاة أو صدقة أو عمل صالح فرضاً كان أو تطوعاً تجدوا ثوابه عند الله { إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي رقيب عليكم مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها يوم الدين . البَلاَغَة : 1 - الإِضافة في قوله { مِّن رَّبِّكُمْ } للتشريف . وفيها تذكير للعباد بتربيته لهم . 2 - تصدير الجملتين بلفظ الجلالة { وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ } { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ } للإِيذان بفخامة الأمر . 3 - { أَلَمْ تَعْلَمْ } الاستفهام للتقرير والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته بدليل قوله تعالى { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } . 4 - وضع الاسم الجليل موضع الضمير { إِنَّ ٱللَّهَ } و { مِّن دُونِ ٱللَّهِ } لتربية الروعة والمهابة في النفوس . 5 - { ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } من إضافة الصفة للموصوف أي الطريق المستوي ، وفي التعبير به نهاية التبكيت والتشنيع لمن ظهر له الحق فعدل عنه إِلى الباطل . الفوَائِد : الأولى : خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن ، وهذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإِقبال عليهم ، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكّرهم بأن الإِيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة والامتثال . الثانية : نهي المسلمون أن يقولوا في خطاب النبي عليه السلام { رَاعِنَا } وأمروا بأن يقولوا مكانها { ٱنْظُرْنَا } وفي ذلك تنبيه لأدبٍ جميل هو أن الإِنسان يتجنب في مخاطباته الألفاظ التي توهم الجفاء أو التنقيص في مقام يقتضي إِظهار المودة أو التعظيم . الثالثة : كانت اليهود تستعمل كلمة { رَاعِنَا } يعنون بها المسبة والشتيمة وروى أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال يا أعداء الله : عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربنَّ عنقه فقالوا : أولستم تقولونها ؟ فنزلت هذه الآية { لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا } .