Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 8-20)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى في أول السورة صفات المؤمنين ، وأعقبها بذكر صفات الكافرين ، ذكر هنا " المنافقين " وهم الصنف الثالث ، الذين يُظهرون الإِيمان ويُبطنون الكفر ، وأطنب بذكرهم في ثلاث عشرة آية لينبه إِلى عظيم خطرهم ، وكبير ضررهم ، ثم عقَّب ذلك بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان ، وتوضيحاً لما تنطوي عليه نفوسهم من ظلمة الضلال والنفاق ، وما يئول إِليه حالهم من الهلاك والدمار . اللغَة : { يُخَادِعُونَ } الخِداع : المكر والاحتيال وإِظهار خلاف الباطن ، وأصله الإِخفاء ومنه سُمي الدهرُ خادعاً لما يخفي من غوائله ، وسُمي المِخْدع مِخْدعاً لتستر أصحاب المنزل فيه { مَّرَضٌ } المرض : السُّقْم وهو ضد الصحة وقد يكون حسياً كمرض الجسم ، أو معنوياً كمرض النفاق ومرض الحسد والرياء ، قال ابن فارس : المرضُ كلُّ ما خرج به الإِنسان عن حد الصحة من علةٍ ، أو نفاق ، أو تقصير في أمر { تُفْسِدُواْ } الفساد : العدول عن الاستقامة وهو ضد الصلاح { ٱلسُّفَهَآءُ } جمع سفيه وهو الجاهل ، الضعيف الرأي ، القليل المعرفة ، بمواضع المنافع والمضار ، وأصل السَّفه ، الخِفَّة ، والسفيه : الخفيف العقل قال علماء اللغة : السَّفه خفةٌ وسخافة رأي يقتضيان نقصان العقل ، والحِلْمُ يقابله { طُغْيَانِهِمْ } الطغيان : مجاوزة الحد في كل شيء ومنه { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ } [ الحاقة : 11 ] أي ارتفع وعلا وجاوز حده ، والطاغية : الجبار العنيد { يَعْمَهُونَ } العَمَه : التحير والتردُّد في الشيء يقال : عَمِهَ يَعْمه فهو عَمِه قال رؤبة : " أعمى الهدى بالحائرين العُمَّه " قال الفخر الرازي : العَمَهُ مثل العمى ، إِلا أَن العَمَى عام في البصر والرأي ، والعَمَه في الرأي خاصة ، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه { ٱشْتَرَوُاْ } حقيقة الاشتراء : الاستبدال ، وأصله بذل الثمن لتحصيل الشيء المطلوب ، والعرب تقول لمن استبدل شيئاً بشيء اشتراه قال الشاعر : @ فإِن تزعميني كنتُ أجهلُ فيكم فإِني اشتريتُ الحلمَ بعدِك بالجهل @@ { صُمٌّ } جمع أصم وهو الذي لا يسمع { بُكْمٌ } جمع أبكم وهو الأخرس الذي لا ينطق { عُمْيٌ } جمع أعمى وهو الذي فقد بصره { صَيِّبٍ } الصَيّبُ : المطر الغزير مأخوذ من الصَّوْب وهو النزول بشدة قال الشاعر " سقتكِ روايا المُزْن حيثُ تصوب " { ٱلصَّوَاعِقِ } جمع صاعقة وهي نارٌ محرقة لا تمر بشيء إِلا أتت عليه ، مشتقة من الصَّعْق وهو شدة الصوت { ٱلسَّمَآءِ } السماء في اللغة : كلُّ ما علاكَ فأظلَّك ، ومنه قيل لسقف البيت سماء ، ويسمى المطر سماءً لنزوله من السماء قال الشاعر : @ إِذا سقط السماء بأرضِ قومٍ رعيناه وإِن كانوا غِضابا @@ { يَخْطَفُ } الخَطْفُ : الأخذ بسرعة ومنه { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ } [ الصافات : 10 ] وسُمِي الطير خُطّافاً لسرعته ، والخاطف الذي يأخذ الشيء بسرعة شديدة . سَبَبُ النّزول : قال ابن عباس : نزلت هذه الآيات في منافقي أهل الكتاب منهم " عبد الله بن أُبي ابن سلول ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس " كانوا إِذا لقوا المؤمنين يظهرون الإِيمان والتصديق ويقولون : إِنّا لنجد في كتابنا نعته وصفته . التفسِير : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ } أي ومن الناس فريق يقولون بألسنتهم صدَّقنا بالله وبما أنزل على رسوله من الآيات البينات { وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي وصدَّقنا بالبعث والنشور { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } أي وما هم على الحقيقة بمصدقين ولا مؤمنين ، لأنهم يقولون ذلك قولاً دون اعتقاد ، وكلاماً دون تصديق قال البيضاوي : هذا هو القسم الثالث المذبذب بين القسمين ، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إِلى الله ، لأنّهم موَّهوا الكفر وخلطوا به خداعاً واستهزاءً ، ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم ، واستهزأ بهم وتهكَّم بأفعالهم ، وسجَّل عليهم الضلال والطغيان ، وضرب لهم الأمثال { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا } أي يعملون عمل المخادِع بإِظهار ما أظهروه من الإِيمان مع إِصرارهم على الكفر ، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين ، وما علموا أن الله لا يُخدع لأنه لا تخفى عليه خافية قال ابن كثير : النفاق هو إِظهار الخير ، وإِسرارُ الشر وهو أنواع : اعتقادي وهو الذي يخلّد صاحبه في النار ، وعملي وهو من أكبر الذنوب والأوزار ، لأن المنافق يخالف قولُه فعلَه ، وسرُّه علانيته ، وإِنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن بها نفاق بل كان خلافه { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } أي وما يخدعون في الحقيقة إِلا أَنفسَهم لأن وبال فعلهم راجع عليهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي ولا يُحسّون بذلك ولا يفطنون إِليه ، لتمادي غفلتهم ، وتكامل حماقتهم { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } أي في قلوبهم شك ونفاق فزادهم الله رجساً فوق رجسهم ، وضلالاً فوق ضلالهم ، والجملةُ دعائية قال ابن أَسلم : هذا مرضٌ في الدين ، وليس مرضاً في الجسد ، وهو الشك الذي دخلهم في الإِسلام فزادهم الله رجساً وشكاً { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } أي ولهم عذابٌ مؤلمٌ بسبب كذبهم في دعوى الإِيمان ، واستهزائهم بآيات الرحمن … ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم ، وأحوالهم الشنيعة فقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي وإِذا قال لهم بعض المؤمنين : لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن ، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله قال ابن مسعود : الفسادُ في الأرض هو الكفرُ ، والعملُ بالمعصية ، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي ليس شأننا الإِفسادُ أبداً ، وإِنما نحن أناسٌ مصلحون ، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك قال البيضاوي : تصوُّروا الفساد بصورة الصلاح ، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله فيهم { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [ فاطر : 8 ] ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد { أَلا } المنبهة و { إِنَّ } المقررة ، وتعريف الخبر ، وتوسيط الفصل ، والاستدراك بعدم الشعور فقال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } أي أَلاَ فانتبهوا أيها الناس ، إِنهم هم المفسدون حقاً لا غيرهم ، ولكنْ لا يفطنون ولا يُحسون ، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } أي وإِذا قيل للمنافقين : آمنوا إِيماناً صادقاً لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء ، كما آمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، وأخلصوا في إِيمانكم وطاعتكم لله { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } الهمزة للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال " صهيب ، وعمار ، وبلال " ناقصى العقل والتفكير ؟ ! قال البيضاوي : وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم فسادَ رأيهم ، أو لتحقير شأنهم ، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } أي أَلا إِنهم هم السفهاء حقاً ، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهاً بلا امتراء ، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل ، وذلك أبلغ في العمى ، والبعد عن الهدى . أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم ، ثم قال تعالى منبهاً إِلى مصانعتهم ونفاقهم { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } أي وإِذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقاً ومصانعة { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم ، أهلِ الضلالِ والنفاق { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد ، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان ، قال تعالى رداً عليهم { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال قال ابن عباس : يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ الأعراف : 183 ] قال ابن كثير : هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ، ومعاقبهم عقوبة الخداع ، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه ، فاللفظ متفق والمعنى مختلف ، وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ومثل { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] فالأول ظلم والثاني عدل { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي ويزيدهم - بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردّدون حيارى ، لا يجدون إِلى المخرج منه سبيلاً لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم ، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } أي استبدلوا الكفر بالإِيمان ، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها الهُدى { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } أي ما ربحت صفقتُهم في هذه المعارضةِ والبيع { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك ، لأنهم خسروا سعادة الدارين ، ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم الفادحة فقال { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } أي مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد ناراً ليستدفئ بها ويستضيء ، فما اتقدت حتى انطفأت ، وتركته في ظلام دامس وخوفٍ شديد { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن ، واستأنس بتلك النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأها الله بالكلية ، فتلاشت النار وعُدم النور { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } أي وأبقاهم في ظلماتٍ كثيفة وخوف شديد ، يتخبطون فلا يهتدون قال ابن كثير : ضرب الله للمنافقين هذا المثل ، فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى ، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها ، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله . . فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي ، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى ، واستحبابهم الغيَّ على الرشد ، وفي هذا المثل دلالةٌ على أنهم آمنوا ثم كفروا ، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل خير ، ولا يعرفون طريق النجاة { صُمٌّ } أي هم كالصُمِّ لا يسمعون خيراً { بُكْمٌ } أي كالخرس لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْيٌ } أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي لا يرجعون عمَّا هم فيه من الغي والضلال ، ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادةً في الكشف والإِيضاح فقال { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد ، أظلمت له الأرض ، وأرعدت له السماء ، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية ، ورعدٌ قاصف ، وبرقٌ خاطف { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ } أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق ، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَافِرِينَ } جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته ، وهم تحت إِرادته ومشيئته لا يفوتونه ، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي وإِذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم … وفي هذا تصويرٌ لما هم فيه من غاية التحير والجهل ، فإِذا صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة ، وإِذا خفي وفتر لمعانه وقفوا عن السير ، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم ، وفي ضوء البرق فأعماهم وذهب بأبصارهم { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي إِنه تعالى قادر على كل شيء ، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء ، قال ابن جرير : إِنما وصف تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته ، وأخبرهم أنه بهم محيط ، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي : أولاً : المبالغة في التكذيب لهم { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } كان الأصل أن يقول : " وما آمنو " ليطابق قوله " من يقول آمنا " ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم لإِخراج ذواتهم من عداد المؤمنين وأكده بالباء للمبالغة في نفي الإِيمان عنهم . ثانياً : الاستعارة التمثيلية { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } شبَّه حالهم مع ربهم في إِظهار الإِيمان وإِخفاء الكفر بحال رعيةٍ تخادع سلطانها واستعير اسم المشبَّه به للمشبه بطريق الاستعارة . ثالثاً : صيغة القصر { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } وهذا من نوع " قصر الموصوف على الصفة " أي نحن مصلحون ليس إِلاَّ . رابعاً : الكناية اللطيفة { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } المرضُ في الأجسام حقيقة وقد كنى به عن النفاق لأن المرض فسادٌ للبدن ، والنفاق فساد للقلب . خامساً : تنويع التأكيد { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } جاءت الجملة مؤكدة بأربع تأكيدات { أَلاۤ } التي تفيد التنبيه ، و { إِنَّ } التي هي للتأكيد ، وضمير الفصل { هُمُ } ثم تعريف الخبر { ٱلْمُفْسِدُونَ } ومثلها في التأكيد { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } وهذا ردٌّ من الله تعالى عليهم بأبلغ ردٍّ وأحكمه . سادساً : المشاكلة { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } سمَّى الجزاء على الاستهزاء استهزاءً بطريق المشاكلة وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى . سابعاً : الاستعارة التصريحية { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } المراد استبدلوا الغيَّ بالرشاد ، والكفر بالإِيمان فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم فاستعار لفظ الشراء للاستبدال ثم زاده توضيحاً بقوله { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } وهذا هو الترشيح الذي يبلغ بالاستعارة الذروة العليا . ثامناً : التشبيه التمثيلي { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } وكذلك في { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ } شبه في المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار ، وإِظهاره الإِيمان بالإِضاءة ، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار ، وفي المثال الثاني شبَّه الإِسلام بالمطر لأن القلوب تحيا به كحياة الأرض بالماء ، وشبَّه شبهات الكفار بالظلمات ، وما في القرآن من الوعد والوعيد بالرعد والبرق … الخ . تاسعاً : التشبيه البليغ { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أي هم كالصم البكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً . عاشراً : المجاز المرسل { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم } وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء أي رؤوس أصابعهم لأن دخول الأصبع كلها في الأذن لا يمكن . الحادي عشر : توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات ، وهذا له وقع في الأذن حسن ، وأثر في النفس رائع مثل { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } الخ وهو من المحسنات البديعية . الفوَائِد : الأولى : الغاية من ضرب المثل : تقريب البعيد ، وتوضيح الغامض حتى يصبح كالأمر المشاهد المحسوس ، وللأمثال تأثير عجيب في النفس { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] . الثانية : وصف تعالى المنافقين في هذه الآيات بعشرة أوصاف كلها شنيعة وقبيحة تدل على رسوخهم في الضلال وهي ( الكذب ، الخداع ، المكر ، السَّفه ، الاستهزاء ، الإِفساد في الأرض ، الجهل ، الضلال ، التذبذب ، السخرية بالمؤمنين ) أعاذنا الله من صفات المنافقين . الثالثة : حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع أنهم كفار وعلمه صلى الله عليه وسلم بأعيان بعضهم ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : " أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه " . لطيفَة : قال العلامة ابن القيم : تأمل قوله تعالى { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } ولم يقل : " ذهب الله بنارهم " مع أنه مقتضى السياق ليطابق أول الآية { ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } فإِِن النار فيها إِشراقٌ وإِحراق ، فذهب الله بما فيها من الإِشراق وهو " النور " وأبقى ما فيها من الإِحراق وهو " النارية " ! ! وتأمل كيف قال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بضوئهم ، لأن الضوء زيادةٌ في النور ، فلو قيل : ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل ! ! وتأمل كيف قال { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } فوحَّد النور ثم قال { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } فجمعها ، فإِن الحقَّ واحد هو صراط الله المستقيم ، الذي لا صراط يوصل سواه ، بخلاف طُرُق الباطل فإِنها متعددة ومتشعبة ، ولهذا أفرد سبحانه " الحقَّ " وجمع " الباطل " في آيات عديدة مثل قوله تعالى { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ المائدة : 16 ] وقوله { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] وقوله { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] فجمع سبل الباطل ووحَّد سبيل الحق .