Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 21-25)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة " المؤمنين ، والكافرين ، والمنافقين " وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة ، أو إِيمان أو نفاق ، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على وحدانية ربِّ العالمين ، وعَرَّف الناس بنعمه ليشكروه عليها ، وأقبل عليهم بالخطاب { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } وهو خطاب لجميع الفئات ممتناً عليهم بما خلق ورزق ، وأبرز لهم " معجزة القرآن " بأنصع بيان وأوضح برهان ، ليقتلع من القلوب جذور الشك والارتياب . اللغَة : { خَلَقَكُمْ } الخلق : الإِيجاد والاختراع بلا مثال ، وأصله في اللغة التقدير يقال : خَلَق النعل إِذا قدَّرها وسوَّاها بالمقياس ، وخلق الأديمَ للسقاء إِذا قدَّره قال الحجاج " ما خلقتُ إِلا فريتُ ، ولا وعدتُ إِلا وفيتُ " أي ما قدرت شيئاً إِلا أمضيته ، ولا وعدت بشيء إِلا وفيت به . { فِرَاشاً } الفراش : الوطاءُ والمهاد الذي يقعد عليه الإِنسان وينام { بِنَآءً } البناء : ما يُبنى من قبةٍ أو خباءٍ أو بيت { أَندَاداً } جمع نِدّ وهو الكفء والمثيل والنظير ومنه قول علماء التوحيد " ليس للهِ نِدٌّ ولا ضِدّ " قال حسان : @ أتهجوه ولستَ له بندٍّ فشرُّكما لخيركما الفِداء @@ وقال الزمخشري : " النِدُّ : المثل ولا يقال إلا للمخالف المناوئ قال جرير : أتيماً تجعلون إلىَّ نداً ؟ { وَقُودُهَا } الوَقُود : الحطب الذي توقد به النار قال القرطبي : الوَقود بالفتح الحطب ، وبالضم مصدر بمعنى التوقد { أُعِدَّتْ } هيئت ، وأعددنا هيأنا قال البيضاوي : { أُعِدَّتْ } هُيّئت لهم وجُعلت عُدَّة لعذابهم { وَبَشِّرِ } البشارة : الخبر السارُّ الذي يتغير به بشرة الوجه من السرور ، وإِذا استعمل في الشر فهو تهكم مثل { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الانشقاق : 24 ] { أَزْوَاجٌ } جمع زوج ويطلق على الذكر والأنثى { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [ البقرة : 35 ] فالمرأة زوج الرجل ، والرجل زوج المرأة قال الأصمعي : لا تكاد العرب تقول زوجة { خَالِدُونَ } باقون دائمون . التفسِير : يقول تعالى منبهاً العبادَ إِلى دلائل القدرة والوحدانية { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } أي يا معشر بني آدم اذكروا نِعَم الله الجليلة عليكم ، واعبدوا الله ربكم الذي ربَّاكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً ، اعبدوه بتوحيده ، وشكره ، وطاعته { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي الذي أوجدكم بقدرته من العدم ، وخلق من قبلكم من الأمم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي لتكونوا في زمرة المتقين ، الفائزين بالهدى والفلاح قال البيضاوي : لما عدَّد تعالى فِرَق المكلفين ، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات ، هزاً للسامع ، وتنشيطاً له ، واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها ، وإِنما كثر النداء في القرآن بـ { يَاأَيُّهَا } لاستقلاله بأوجهٍ من التأكيد ، وكلُّ ما نادى الله له عباده من حيث إِنها أمور عظام من حقها أن يتفطنوا لها ، ويقبلوا بقلوبهم عليها وأكثرهم عنها غافلون حقيقٌ بأن يُنادى له بالآكد الأبلغ ، ثمَّ عدَّد تعالى نِعَمه عليهم فقال { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } أي جعلها مهاداً وقراراً ، تستقرون عليها وتفترشونها كالبساط المفروش مع كرويتها ، وإِلا ما أمكنكم العيش والاستقرار عليها قال البيضاوي : جعلها مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط ، وذلك لا يستدعي كونها مسطَّحة لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها { وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } أي سقفاً للأرض مرفوعاً فوقها كهيئة القبة { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } أي مطراً عذباً فراتاً أنزله بقدرته من السحاب { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } أي فأخرج بذلك المطر أنواع الثمار والفواكه والخضار غذاءً لكم { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي فلا تتخذوا معه شركاء من الأصنام والبشر تشركونهم مع الله في العبادة ، وأنتم تعلمون أنها لا تَخْلُق شيئاً ولا تَرْزق ، وأَنَّ الله هو الخالق الرازق وحده ، ذو القوة المتين قال ابن كثير : شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيده بإِخراجهم من العدم ، وإِسباغه عليهم النِّعَم ، والمرادُ بالسَّماء هنا السحاب ، فهو تعالى الذي أنزل المطر من السحاب في وقته عند احتياجهم إِليه ، فأخرج لهم به أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم ، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالكُ الدار وساكنيها ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يُعبد وحده ولا يُشرك به غيره . ثم ذكر تعالى بعد أدلة التوحيد الحجة على النبوة ، وأقام البرهان على إِعجاز القرآن فقال { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } أي وإِذا كنتم أيها الناسُ في شك وارتياب من صدق هذا القرآن ، المعجز في بيانه ، وتشريعه ، ونظمه ، الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } أي فأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثل هذا القرآن ، في البلاغة والفصاحة والبيان { وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أي وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن غير الله سبحانه ، والمراد استعينوا بمن شئتم غيره تعالى قال البيضاوي : المعنى أدعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إِنسكم وجِنكم وآلهتكم غيرَ اللهِ سُبحانه وتعالى ، فإِنه لا يقدر أن يأتي بمثله إِلا الله { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي أنه مختلق وأنه من كلام البشر ، وجوابُه محذوف دلَّ عليه ما قبله { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي فإِن لم تقدروا على الإِتيان بمثل سورةٍ من سوره ، وعجزتم في الماضي عن الإِتيان بما يساويه أو يدانيه ، مع استعانتكم بالفصحاء والعباقرة والبلغاء { وَلَن تَفْعَلُواْ } أي ولن تقدروا في المستقبل أيضاً على الإِتيان بمثله ، والجملةُ اعتراضيةٌ للإِشارة إِلى عجز البشر في الحاضر والمستقبل كقوله { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] أي معيناً قال ابن كثير : تحداهم القرآن وهم أفصح الأمم ومع هذا عجزوا ، و { لَن } لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبداً ، وهذه أيضاً معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً ، غير خائفٍ ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يُعارضُ بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين ، وكذلك وقع الأمر لم يُعارض من لدنه إِلى زماننا هذا ، ومن تدبّر القرآن وجد فيه من وجوه الإِعجاز فنوناً ظاهرة وخفية ، من حيثُ اللفظ ومن حيثُ المعنى ، والقرآنُ جميعه فصيح في غاية نهايات الفصاحة والبيان عند من يعرف كلام العرب ، ويفهم تصاريف الكلام { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } أي فخافوا عذاب الله ، واحذروا نار الجحيم التي جعلها الله جزاء المكذبين { ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } أي اتقوا النار التي مادتُها التي تُشعل بها وتُضرم لإِيقادها هي الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله كقوله تعالى { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] قال مجاهد : حجارةٌ من كبريت أنتن من الجيفة يعذبون بها مع النار { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أي هُيّئت تلك النارُ وأُرصدت للكافرين الجاحدين ، ينالون فيها ألوان العذاب المهين . ثم لما ذكر ما أعدَّه لأعدائه ، عطف عليه بذكر ما أعدَّه لأوليائه ، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب ، للمقارنة بين حال الأبرار والفجار فقال { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي وبَشِّرْ يا محمد المؤمنين المتقين ، الذين كانوا في الدنيا محسنين ، والذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي بأن لهم حدائق وبساتين ذاتِ أشجار ومساكن ، تجري من تحت قصورها ومساكنها أنهار الجنة { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } أي كلما أعطوا عطاءً ورُزقوا رزقاً من ثمار الجنة { قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أي هذا مثلُ الطعام الذي قُدِّم إِلينا قبل هذه المرة قال المفسرون : إِن أهل الجنة يُرزقون من ثمارها ، تأتيهم به الملائكة ، فإِِذا قُدّم لهم مرة ثانية قالوا : هذا الذي أتيتمونا به من قبل فتقول الملائكة : كلْ يا عبد الله فاللونُ واحدٌ والطعم مختلف قال تعالى { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } أي متشابهاً في الشكل والمنظر ، لا في الطعم والمَخْبر قال ابن جرير : يعني في اللون والمرأى وليس يشبهه في الطعم قال ابن عباس : لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إِلا في الأسماء { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي ولهم في الجنة زوجاتٌ من الحور العين مطهَّرات من الأقذار والأدناس الحسية والمعنوية قال ابن عباس : مطهَّرة من القذر والأذى وقال مجاهد : مطهَّرة من الحيض والنفاس ، والغائط والبول والنخام ، وورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنَّ يوم القيامة أجمل من الحور العين كما قال تعالى { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً } [ الواقعة : 35 - 37 ] { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي دائمون ، وهذا هو تمام السعادة ، فإِنهم مع هذا النعيم في مقام أمين ، يعيشون مع زوجاتهم في هناءٍ خالد لا يعتريه انقطاع . البَلاَغَة : 1 - ذكر الربوبية { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } مع إِضافته إِلى المخاطبين للتفخيم والتعظيم . 2 - الإِضافة { عَلَىٰ عَبْدِنَا } للتشريف والتخصيص ، وهذا أشرف وصفٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم . 3 - التعجيز { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } خرج الأمر عن صيغته إِلى معنى التعجيز ، وتنكيرُ السورة لإِرادة العموم والشمول . 4 - المقابلة اللطيفة { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } فقد قابل بين الأرض والسماء ، والفراش والبناء ، وهذا من المحسنات البديعية . 5 - الجملة الاعتراضية { وَلَن تَفْعَلُواْ } لبيان التحدي في الماضي والمستقبل وبيان العجز التام في جميع العصور والأزمان . 6 - الإيجاز البديع بذكر الكناية { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بتصديقكم بالقرآن .