Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 41-76)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى نعمته على موسى باستجابة دعائه وإِعطائه سُؤْله ، ذكر هنا ما خصَّه به من الاصطفاء والاجتباء ، وأمره بالذهاب إِلى فرعون مع أخيه هارون لتبليغه دعوة الله ، ثم ذكر ما دار من الحوار بين موسى وفرعون وما كان من أمر السحرة وسجودهم لله ربْ العالمين . اللغَة : { ٱصْطَنَعْتُكَ } اصطفيتك واخترتك ، وأصل الاصطناع : اتخاذ الصَّنيعة وهو الخير تُسْديه إِلى إِنسان { تَنِيَا } الونى : الضَّعف والفتور قال العجَّاج : @ فما وَنى محمدٌ مُذْ أن غَفرْ له الإِلهُ ما مضَى وما غَبَر @@ { يَفْرُطَ } يتعجل ويبادر إِلى عقوبتنا ، ومنه الفارط الذي يتقدم القوم إِلى الماء { يُسْحِتَكُم } يستأصلكم ويبيدكم وأصله استقصاء الحلق للشَّعْر قال الفرزدق : @ وعضُّ زمانٍ يا ابن مروانَ لم يَدعْ من المال إِلا مُسْحتٌ أو مجُلَّف @@ ثم استعمل في الإِهلاك والإِذهاب ، والسُّحت : المال الحرام لأنه يهلك الإِنسان ويدمّره { ٱلنَّجْوَىٰ } التناجي وهو الإِسرار بالكلام { أَوْجَسَ } أضمر واستشعر الخوف في نفسه . التفسِير : { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } أي اخترتك لرسالتي ووحيي { ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } أي اذهب مع هارون بحججي وبراهيني ومعجزاتي قال المفسرون : المراد بالآيات هنا اليد والعصا التي أيّد الله بها موسى { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي لا تفترا وتقصِّرا في ذكر الله وتسبيحه قال ابن كثير : والمراد ألاّ يفترا عن ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ، ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه ، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له { ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } أي تجبَّر وتكبَّر وبلغ النهاية في العتُو والطغيان { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } أي قولا لفرعون قولاً لطيفاً رفيقاً { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } أي لعله يتذكر عظمة الله أو يخاف عقابه فيرتدع عن طغيانه { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } أي قال موسى وهارون : يا ربنا إِننا نخاف إِن دعوناه إِلى الإِيمان أن يعجِّل علينا العقوبة ، أو يجاوز الحدَّ في الإِساءة إِلينا { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } أي لا تخافا من سطوته إِنني معكما بالنصرة والعون أسمع جوابه لكما ، وأرى ما يفعل بكما { فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } أي إِنا رسولان من عند ربك أرسلنا إِليك ، وتخصيصُ الذكر بلفظ { رَبِّكَ } لإِعلامه أنه مربوبٌ وعبدٌ مملوك لله إِذْ كان يدَّعي الربوبية { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } أي أطلقْ سراح بين إِسرائيل ولا تعذبهم بتكليفهم بالأعمال الشاقة { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } أي قد جئناك بمعجزة تدل على صدقنا { وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } أي والسلامة من عذاب الله لمن اهتدى وآمن بالله قال المفسرون : لم يقصد به التحية لأنه ليس بابتداء الخطاب وإِنما قصد به السلام من عذاب الله وسخطه { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إِلينا أن العذاب الأليم على من كذَّب أنبياء الله وأعرض عن الإِيمان { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ } أي قال فرعون : ومنْ هذا الربُّ الذي تدعوني إِليه يا موسى ؟ فإِني لا أعرفه ؟ ولم يقل : من ربّي لغاية عتوّه ونهاية طغيانه بل أضافه إِلى موسى وهارون { مَن رَّبُّكُمَا } { قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } أي ربُّنا هو الذي أبدع كل شيءٍ خَلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه ، وهذا جوابٌ في غاية البلاغة والبيان لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها ، فقد أعطى العين الهيئة التي تطابق الإِبصار ، والأُذُن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك اليد والرجل والأنف واللسان قال الزمخشري : ولله درُّ هذا الجواب ما أخصره وأجمعه وأبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإِنصاف { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } أي ما حال من هلك من القرون الماضية ؟ لِم لَمْ يُبعثوا ولم يُحاسبوا إِن كان ما تقول حقاً ؟ قال ابن كثير : لما أخبر موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق ، وقدَّر فهدى ، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى كأنه يقول : ما بالهم إِذْ كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربَّك بل عبدوا غيره ؟ { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } أي قال موسى : علم أحوالها وأعمالها عند ربي مسطرٌ في اللوح المحفوظ { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } أي لا يخطئ ربي ولا يغيب عن علمه شيء منها . . ثم شرع موسى يبيّن له الدلائل على وجود الله وآثار قدرته الباهرة فقال { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً } أي جعل الأرض كالمهد تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي جعل لكم طُرقاً تسلكونها فها لقضاء مصالحكم { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } أي أنزل لكم من السحاب المطرَ عذباً فراتاً { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } أي فأخرج بذلك الماء أنواعاً من النباتات المختلفة الطعم والشكل والرائحة كلُّ صنف منها زوج ، وفيه التفاتٌ من الغيبة إِلى المتكلم تنبيهاً على عظمة الله { كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } أي كلوا من هذه النباتات والثمار واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي أخرجه الله ، والأمر للإِباحة تذكيراً لهم بالنِّعم { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } أي إِنَّ فيما ذُكر لعلامات واضحة لأصحاب العقول السليمة على وجود الله ووحدانيته { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي من الأرض خلقناكم أيها الناس وإِليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون تراباً { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } أي ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى للبعث والحساب … ثم أخبر تعالى عن عتوِّ فرعون وعناده فقال { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا } أي والله لقد بصَّرنْا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوّة موسى من العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، وسائر الآيات التسع { فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ } أي كذَّب بها مع وضوحها وزعم أنها سحر ، وأبى الإِيمان والطاعة لعتوِّه واستكباره { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ } أي قال فرعون : أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من أرض مصر ؟ { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } أي فلنعارضنَّك بسحرٍ مثل الذي جئت به ليظهر للناس أنك ساحر ولستَ برسول { فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } أي عيِّنْ لنا وقت اجتماع { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى } أي لا نخلف ذلك الوعد لا من جهتنا ولا من جهتك ويكون بمكان معيَّن ووقت معَّين { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } أي قال موسى : موعدنا للاجتماع يوم العيد - يومٌ من أيام أعيادهم - وأن يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار قال المفسرون : وإِنما عيَّن ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس { فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ } أي انصرف فرعون فجمع السَّحرة ثم أتى الموعد ومعه السَّحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر منهم حبال وعصيّ { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون : ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل { وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } أي خسر وهلك من كذب على الله . . قدَّم لهم النصح والإِنذار لعلَّهم يثوبون إِلى الهُدى ، ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعتْ في نفوسهم مهابته ولذلك تنازعوا في أمره { فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } أي أختلفوا في أمر موسى فقال بعضهم : ما هذا بقول ساحر وأخفوا ذلك عن الناس وأخذوا يتناجون سرّاً { قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } أي قالوا بعد التناظر والتشاور ما هذان إِلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإِخراجكم منها بهذا السحر { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ } أي غرضُهما إِفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان قال الزمخشري : والظاهر أنهم تشاوروا في السرِّ وتجاذبوا أهداب القول ثم قالوا { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون لهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً } أي أحْكموا أمركم وأعزموا عليه ولا تتنازعوا وارموا عن قوسٍ واحدة ، ثم ائتوا إِلى الميدان مصطفين ليكون أهيب في صدور الناظرين { وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ } أي فاز اليوم من علا وغلب قال المفسرون : أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإِنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة مع التقريب والتكريم كما قال تعالى { قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } [ الشعراء : 41 - 42 ] { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ } أي قال السحرة لموسى : إِمَّا أن تبدأ أنتَ بالإِلقاء أو نبدأ نحنُ ؟ خيَّروه ثقةً منهم بالغلبة لموسى لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ } أي قال لهم موسى : بل ابدءوا أنتم بالإِلقاء قال أبو السعود : قال ذلك مقابلةً للأدب بأحسنَ من أدبهم حيث بتَّ القول بإِلقائهم أولاً ، وإِظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم ليُبرزوا ما معهم ، ويستفرغوا أقصى جهدهم وقصارى وسعهم ، ثم يُظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } في الكلام حذفٌ دلَّ عليه المعنى أي فألقوا فإِذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ويظنُّها - من عظمة السحر - أنها حياتٍ تتحرك وتسعى على بطونها ، والتعبيرُ يوحي بعظمة السحر حتى إن موسى فزع منها واضطرب { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } أي أحسَّ موسى الخوف في نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية لأنه رأى شيئاً هائلاً { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } أي قلنا لموسى لا تخفْ ممّا توهمت فإِنك أنت الغالب المنتصر { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ } أي أَلقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ بفمها ما صنعوه من السحر { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } أي إِنَّ الذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } أي لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز بمطلوبه لأنه كاذب مضلِّل { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } أي فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا فخرَّ السحرة حينئذٍ سجداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآية الباهرة قال ابن كثير : لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً ، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق شيئاً إِلا ابتلعته ، والناس ينظرون إِلى ذلك عياناً نهاراً ، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حقٌّ لا مرية فيه ، فعند ذلك وقعوا سجداً لله ، فقامت المعجزة واتضح البرهان ، ووقع الحق وبطل السحر ، قال ابن عباس : كانوا أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } أي قال فرعون للسحرة : آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك وقبل أن تستأذنوني ؟ { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ } أي إِنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي قال القرطبي : وإِنما أراد فرعون بقوله أن يُلبِّس على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإِيمانهم ، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب فقال { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } أي فوالله لأقطعنَّ الأيدي والأرجل منكم مختلفات بقطع اليد اليمنى ، والرجل اليسرى أو بالعكس { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } أي لأعلقنكم على جذوع النخل وأقتلنكم شرَّ قِتْلة { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } أي ولتعلمُنَّ أيها السحرة من هو أشدُّ منا عذاباًَ وأدوم ، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ } أي قال السحرة : لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإِيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا { وَٱلَّذِي فَطَرَنَا } قسمُ بالله أي مقسمين بالله الذي خلقنا { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } أي فاصنع ما أنت صانع { إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ } أي إِنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة ورغبتنا في النعيم الخالد قال عكرمة : لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة فلذلك قالوا ما قالوا { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } أي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها وما صدر منا من الكفر والمعاصي { وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ } أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإِطفاء نور الله { وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } أي والله خيرٌ منك ثواباً وأبقى عذاباً ، وهذا جوابُ قوله { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ } هذا من تتمة كلام السحرة عظةً لفرعون أي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر ، فإِن له نار جهنم { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } أي لا يموت في جهنم فينقضي عذابه ، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ } أي ومن يلقى ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات { فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ } أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم المنازل الرفيعة عند الله { جَنَّاتُ عَدْنٍ } بيانٌ للدرجات العُلى أي جناتُ إِقامة ذات الدرجات العاليات ، والغُرف الآمنات ، والمساكن الطيبات { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي تجري من تحت غرفها وسُرُرها أنهار الجنة من الخمر والعسل ، واللَّبن ، والماء { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [ النساء : 57 ] أي ماكثين في الجنة دوماً لا يخرجون منها أبداً { وَذٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ } أي وذلك ثواب من تطهَّر من دنسْ الكفر والمعاصي ، وفي الحديث " الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة فإِذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الاستعارة { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } شبَّه ما خوَّله به من القرب والاصطفاء بحال من يراه الملك أهلاً للكرامة وقرب المنزلة لما فيه من الخلال الحميدة فيصطنعه لنفسه ، ويختاره لخلَّته ، ويصطفيه لأموره الجليلة واستعار لفظ اصطنع لذلك ، ففيه استعارةً تبعية . 2 - المقابلة اللطيفة { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } حيث قابل بين { مِنْهَا } و { وَفِيهَا } وبين الخلق والإِعادة وهذا من المحسنات البديعية . 3 - إيجاز حذف { بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ } أي فألقوا فإِذا حبالهم حذف لدلالة المعنى عله ومثله { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً } بعد قوله { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } حذف منه كلام طويل وهو فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا من السحر فاُلقي السحرة سجداً ، وإِنما حسن الحذف لدلالة المعنى عليه ويسمى إيجاز حذف . 4 - الطباق بين { يَمُوتُ … يَحْيَىٰ } وبين { نُعِيدُ … ونُخْرِجُ } . 5 - المقابلة بين { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } وبين { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ } الخ والمقابلة هي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل ذلك . 6 - السجع الحسن غير المتكلف في مثل { سُوًى } ، { ضُحًى } ، { ٱفْتَرَىٰ } ، { يَحْيَىٰ } ، { تَزَكَّىٰ } الخ . 7 - المؤكدات { إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } أكّد الخبر بعدة مؤكدات وهي { إِنَّ } المفيدة للتأكيد ، وتكرير الضمير { أَنتَ } وتعريف الخبر { ٱلأَعْلَىٰ } ولفظ العلو الدال على الغلبة ، وصيغة التفضيل { ٱلأَعْلَىٰ } ولله در التنزيل ما أبلغه وأروعه ، وهذا من خصائص علم المعاني . تنبيه : لم تذكر الآيات الكريمة أن فرعون فعل بالسحرة ما هدَّدهم به ، وقد ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم فماتوا على الإِيمان ولهذا قال ابن عباس : كانوا في أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بَرَرة .