Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 105-191)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من قومه ، وبيانٌ لسنة الله في عقاب المكذبين . اللغَة : { ٱلْمَشْحُونِ } المملوء يقال : شحنَ السفينةَ أي ملأها بالناس والدواب والطعام { رِيعٍ } الرِّيع : ما ارتفع من الأرض ، والرِّيعُ : الطريق { مَصَانِعَ } المراد بها الحصون المشيَّدة وهو قول ابن عباس قال الشاعر : @ تركنا ديارهم منهم قِفاراً وهدَّمنا المصانع والبروجا @@ { بَطَشْتُمْ } البطش : السطوةُ والأخذ بالعنف يقال : بطَش يبطِشُ إذا أخذه بشدة وعنف { ٱلْجِبِلَّةَ } الخليقة قال الهروي : الجبلَّة والجِبلُّ : الجمع ذو العدد الكثير من الناس ومنه قوله { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } [ يس : 62 ] أي ناساً كثيرين ويقال : جُبل فلانٌ على كذا أي خُلق { كِسَفاً } جمع كِسْفة وهي القطعة من الشيء . التفسِير : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي كذَّب قوم نوح رسولهم نوحاً ، وإِنما قال { ٱلْمُرْسَلِينَ } لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ } أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري : وهذا من قول العرب : يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ومنه بيت الحماسة " لا يسألون أخاهم حين يندبهم " { أَلاَ تَتَّقُونَ } أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام ؟ { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي إني لكم ناصح ، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي خافوا عذاب الله وأطيعوا أمري { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } كرره تأكيداً وتنبيهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ } أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول { وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء ؟ قال البيضاوي : وهذا من سخافة عقلهم ، وقصور رأيهم فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإِيمانهم بدعوة نوح { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم ، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً ؟ قال القرطبي : كأنهم قالوا : إِنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعاً في العزة والمال فقال في جوابهم : إني لم أقف على باطن أمرهم وإِنما إليَّ ظاهرهم { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني ، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان : وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله ، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءً كان شريفاً أو وضيعاً ، أو جليلاً أو حقيراً { قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة ، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } أي قال نوح يا ربّ إن قومي كذّبوني ولم يؤمنوا بي { فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء ، واقض بيننا بحكمك العادل { وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ } أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } أي وما أكثر الناس بمؤمنين { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر ، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة ، ثم شرع تعالى في ذكر قصة " هود " فقال { كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً ، ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره ! { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله ، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } ؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بكل موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث ؟ قال ابن كثير : الرَّيع المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهورة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة ، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضييعٌ للزمان ، وإِتعابٌ للأبدان ، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون ؟ { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة ، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر : وصفهم بثلاثة أمور : اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو ، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود ، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو ، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية ، وحاموا حول دعاء الربوبية ، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئه { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري ، ثم شرع يذكّرهم نعم الله فقال { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي ، والبنين ، والبساتين ، والأنهار ، وأغدق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم وأشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان . . دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب ، وبلغ في دعائهم بالوعظِ والتخويفِ النهاية القصوى في البيان فكان جوابهم { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ } أي يستوي عندنا تذكيرك لنا وعدُمه ، فلا نبالي بما تقول ، ولا نرعوي عمّا نحن عليه قال أبو حيان : جعلوا قوله وعْظاً على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوَّفهم به إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به ، وانه كاذبٌ فيما ادَّعاه { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ خُلُقُ ٱلأَوَّلِينَ } أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذبُ وخرافاتُ الأولين { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ } أي فكذبوا رسولهم هوداً فأهلكناهم بريحٍ صرصرٍ عاتية قال ابن كثير : وكان إهلاكهم بالريح الشديدة الهبوب ، ذاتِ البرد الشديد وهي الريح الصرصر العاتية ، وكان سبب إهلاكهم من جنسهم ، فإِنهم كانوا أعتى شيءٍ وأجبره ، فسلَّط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشدَّ ، فحصبت الريح كل شيء حتى كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه ، وترفعه في الهواء ثم تنكّسه على أم رأسه ، فتشدخ رأسه ودماغه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي إن في إهلاكهم لعظة وعبرة { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } أي وما آمن أكثر الناس مع رؤيتهم للآيات الباهرة { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } أي وإِن ربك يا محمد لهو العزيزُ في انتقامه من أعدائه ، الرحيمُ بعباده المؤمنين ، ثم شرع تعالى في ذكر قصة " صالح " فقال { كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي كذبت قبيلة ثمود نبيَّهم " صالحاً " ومن كذَّب رسولاً ققد كذب جميع المرسلين { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ } ؟ ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } كررت الآيات للتنبيه على أن دعوة الرسل واحدة ، فكل رسولٍ يذكِّر قومه بالغاية من بعثته ورسالته ، وأنها لصالح البشر { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَٰهُنَآ آمِنِينَ } أي أيترككم ربكم في هذه الدنيا آمنين ، مخلَّدين في النعيم ، كأنكم باقون في الدنيا بلا موت ؟ قال ابن عباس : كانوا معمَّرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم ، قال القرطبي : ودل على هذا قولُه تعالى { وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [ هود : 61 ] فقرَّعهم صالح ووبَّخهم وقال : أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي في بساتين وأنهار جاريات { وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } أي وسهولٍ فسيحة فيها من أنواع الزروع والنخيل الرطب اللين ؟ أتتركون في كل ذلك النعيم دون حساب ولا جزاء قال المفسرون : كانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل فذكّرهم صالحٌ بنعم الله الجليلة من إنبات البساتين والجنات ، وتفجير العيون الجاريات ، وإِخراج الزروع والثمرات ، ومعنى " الهضيم " اللطيف الدقيق وهو قول عكرمة ، وقال ابن عباس معناه : اليانع النضيج { وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } أي وتبنون بيوتاً في الجبال أشرين بطرين من غير حاجةٍ لسكناها قال الرازي : وظاهر هذه الآيات يدل على أنَّ الغالب على قوم " هود " هو اللذاتُ الخيالية وهي الاستعلاء ، والبقاء ، والتجبر ، والغالب على قوم " صالح " هو اللذاتُ الحسية وهي طلب المأكول ، والمشروب ، والمساكن الطيبة وقال الصاوي : كانت أعمارهم طويلة فإِن السقوف والأبينة كانت تبلى قبل فناء أعمارهم ، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي فاتقوا عقاب الله وأطيعوني في نصيحتي لكم { وَلاَ تُطِيعُوۤاْ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ } أي ولا تطيعوا أمر الكبراء المجرمين { ٱلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } أي الذين عادتهم الفساد في الأرض لا الإِصلاح قال الطبري : وهم الرهط التسعة الذين وصفهم الله بقوله { وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } [ النمل : 48 ] { قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } أي من المسحورين سُحرت حتى غُلب على عقلك قال المفسرون : والمُسحَّر مبالغةٌ من المسحور { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } أي لستَ يا صالح إلا رجلاً مثلنا ، فكيف تزعم أنك رسول الله { فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أي فائتنا بمعجزة تدل على صدقك { قَالَ هَـٰذِهِ نَاقَةٌ } أي هذه معجزتي إليكم وهي الناقة التي تخرج من الصخر الأصم بقدرة الله قال المفسرون : روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عُشراء - حامل - تخرج من صخرة معينة وتلد أمامهم ، فقعد صالح عليه السلام يتفكر فجاءه جبريل فقال : صلِّ ركعتين وسلْ ربك الناقة ففعل ، فخرجت الناقة وولدت أمامهم وبركت بين أيديهم فقال لهم هذه ناقة يا قوم { لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي تشرب ماءكم يوماً ، ويوماً تشربون أنتم الماء قال قتادة : إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلَّه ، وشربُهم في اليوم الذي لا تشرب هي فيه ، وتلك آيةٌ أخرى { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ } أي لا تنالوها بأيِّ ضرر بالعقر أو بالضرب { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي فيصيبكم عذاب من الله هائل لا يكاد يوصف قال ابن كثير : حذَّرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء ، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر ، تردُ الماء وتأكل الورق والمرعى ، وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً وريَّاً ، فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالئوا على قتلها وعقرها { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } أي فقتلوها رمياً بالسهام ، رماها أشقاهم - قُدار بن سالف - بأمرهم ورضاهم فأصبحوا نادمين على قتلها خوف العذاب قال الفخر : لم يكن ندمهم ندم التائبين ، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي العذاب الموعود ، وكان صيحةً خمدت لها أبدانهم ، وانشقت لها قلوبهم ، وزُلزلت الأرض تحتهم زلزالاً شديداً ، وصُبَّت عليهم حجارة من السماء فماتوا عن آخرهم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي لعظةً وعبرة لمن عقل وتدبَّر { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } تقدم تفسيرها فيما سبق ، ثم شرع تعالى في ذكر قصة " لوط " فقال { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي كذبوا رسولهم لوطاً { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ } أي ألا تخافون عقاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } نفسُ الكلمات والألفاظ التي قالها من قبلُ صالحٌ ، وهودٌ ، ونوح مما يؤكد أن دعوة الرسل واحدة ، وغايتها واحدة ، وأن منشأها هو الوحي السماوي ، ثم قال لهم لوط { أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ } استفهامُ إِنكارٍ وتوبيخٍ وتقريعٍ أي أَتنْكحون الذكور في أدبارهم ، وتنفردون بهذا الفعل الشنيع من بين سائر الخلق ؟ { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } أي وتتركون ما أباح لكم ربكم من الاستمتاع بالإِناث ؟ قال مجاهد : تركتم فروج النساء إلى أدبار الرجال { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } أي بل أنتم قوم مجاوزون الحدَّ في الإِجرام والفساد ، وبَّخهم على إتيانهم الذكور ، ثم أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في التوبيخ كأنه يقول خرجتم عن حدود الإِنسانية إلى مرتبة البهيمية بعدوانكم وارتكابكم هذه الجريمة الشنيعة ، فالذكر من الحيوان يأنف عن إتيان الذكر ، وأنتم فعلتم ما يتورع عنه الحيوان { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ } أي لئن لم تترك تقبيح ما نحن عليه لنخرجنك من بين أظهرنا وننفيك من بلدنا كما فعلنا بمن قبلك ، توعدوه بالنفي والطرد { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ ٱلْقَالِينَ } أي إني لعملكم القبيح من المبغضين غاية البغض وأنا بريء منكم { رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } أي نجني من العذاب الذي يستحقونه بعملهم القبيح أنا وأهلي قال تعالى { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَابِرِينَ } أي نجيناه مع أهله جميعاً إلا امرأته كانت من الهالكين ، الباقين في العذاب قال ابن كثير : والمراد بالعجوز امرأته فقد كانت عجوز سوء ، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها حين أمره الله أن يسريَ بأهله إلا امرأته { ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلآخَرِينَ } أي أهلكناهم أشد إهلاكٍ وأفظعه بالخسف والحَصْب { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } أي أمطرنا عليهم حجارة من السماء كالمطر الزاخر { فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ } أي بئس هذا المطر مطر القوم المُنْذرين الذين أنذرهم نبيهم فكذبوه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي إنَّ في ذلك لعبرة وعظة لأولي البصائر { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } تقدم تفسيره ، ثم شرع تعالى في ذكر قصة " شعيب " فقال : { كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي كذَّب أصحاب مدين نبيهم شعيباً قال الطبري : والأيكةُ : الشجرُ الملتف وهم أهل مدين { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } سبق تفسيره { أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ } أي أوفوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ } أي من المُنْقِصين المُطَفِّفين في المكيال والميزان { وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } أي زنوا بالميزان العدل السويّ { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } أي لا تُنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبن أو الغصب ونحو ذلك { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي ولا تُفسدوا في الأرض بأنواع الفساد من قطع الطريق ، والغارة ، والسلب والنهب { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ } أي خافوا الله الذي خلقكم وخلق الخليقة المتقدمين قال مجاهد : الجِبِلَّة : الخليقة ويعني بها الأمم السابقين { قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } أي ما أنت إلا من المسحورين ، سُحِرت كثيراً حتى غُلب على عقلك { وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } أي أنت إنسانٌ مثلنا ولست برسول { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } أي ما نظنك يا شعيب إلاّ كاذباً ، تكذب علينا فتقول أنا رسول الله { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي أنزلْ علينا العذاب قِطَعاً من السماء ، وهو مبالغة في التكذيب { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أي إن كنت صادقاً فيما تقول قال الرازي : وإِنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه ، فظنوا أنه إذا لم يقع ظهرَ كذبه فعندها أجابهم شعيب { قَالَ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي الله أعلم بأعمالكم ، فإِن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم ، وإِن كنتم تستحقون عقاباً آخر فإِليه الحكم والمشيئة ، قال تعالى { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ } أي فكذبوا شعيباً فأخذهم ذلك العذاب الرهيب عذابُ يوم الظُلَّة وهي السحابة التي أظلتهم قال المفسرون : بعث الله عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم ، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابةً أظلَّتهم من الشمس ، فوجدوا لها برداً ونادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً ، وكان ذلك من أعظم العذاب ولهذا قال { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي كان عذاب يوم هائل ، عظيم في الشدة والهَول { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } وإِلى هنا ينتهي آخر القصص السبع التي أوحيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه عن الحرص على إسلام قومه ، وقطع رجائه ودفع تحسره عليهم كما قال في أول السورة { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ففيها تسلية لرسول الله وتخفيفٌ عن أحزانه وآلامه ، وإِنما كرر في نهاية كل قصة قوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } ليكون ذلك أبلغ في الاعتبار ، وأشدَّ تنبيهاً لذوي القلوب والأبصار . البَلاَغَة : تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - إطلاق الكل وإِرادة البعض { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } أراد بالمرسلين نوحاً وإِنما ذكره بصيغة الجمع تعظيماً له وتنبيهاً على أن من كذب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين . 2 - الاستفهام الإِنكاري { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } ؟ 3 - الاستعارة اللطيفة { فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } أي احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل ، استعار الفتاح للحاكم والفتح للحكم لأنه يفتح المنغلق من الأمر ففيه استعارة تبعية . 4 - الطباق { يُفْسِدُونَ … وَلاَ يُصْلِحُونَ } . 5 - الجناس غير التام { قَالَ … ٱلْقَالِينَ } الأول من القول والثاني من قلى إذا أبغض . 6 - الإِطناب { أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ } لأن وفاء الكيل هو في نفسه نهي عن الخسران ، وفائدته زيادة التحذير من العدوان . 7 - المبالغة { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } والمسحَّر مبالغة عن المسحور . 8 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل { يُفْسِدُونَ } ، { يُصْلِحُونَ } ، { ٱلأَرْذَلُونَ } .