Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 1-51)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { بَاخِعٌ } مهلك وقاتل وأصل البخع : أن يبلغ بالمذبوح البخاع وهو الخرم النافذ في ثقب الفقرات وهو أقصى حدِّ الذبح { فَعْلَتَكَ } الفَعْلة بفتح الفاء المرة من الفعل { تَلْقَفُ } تبتلع { يَأْفِكُونَ } من الإِفك وهو الكذب { لاَ ضَيْرَ } لا ضرر ، والضرُّ والضير بمعنى واحد قال الجوهري : ضارة يضوره ضيْراً أي ضرَّه قال الشاعر : @ فإِنك لا يضورك بعد حولٍ أظبيٌ كان أمك أم حمار @@ { مُنقَلِبُونَ } راجعون { مِّنْ خِلاَفٍ } أي يخالف بين الأعضاء فيقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى . التفسِير : { طسۤمۤ } إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي ، الظاهر إعجازه لمن تأمله { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي لعلك يا محمد مهلكٌ نفسك لعدم إِيمان هؤلاء الكفار ، فيه تسلية للرسول عليه السلام حتى لا يحزن ولا يتأثر على عدم إيمانهم { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً } أي لو شئنا لأنزلنا آية من السماء تضطرهم إلى الإِيمان قهراً { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } أي فتظل أعناقهم منقادةً خاضعة للإِيمان قسراً وقهراً ، ولكنْ لا نفعل لأنا نريد أن يكون الإِيمان اختياراً لا اضطراراً قال الصاوي : المعنى لا تحزن على عدم إيمانهم فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهراً عليهم ، ولكنْ سبق في علمنا شقاؤهم فأرحْ نفسك من التعب { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي ما يأتي هؤلاء الكفار شيء من القرآن أو الوحي منزلٍ من عند الرحمن { مُحْدَثٍ } أي جديد في النزول ، ينزل وقتاً بعد وقت { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } أي إلاّ كذبوا به واستهزءوا ولم يتأملوا بما فيه من المواعظ والعِبَر { فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي فقد بلغوا النهاية في الإِعراض والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزءوا به ، ثم نبّه تعالى على عظمة سلطانه ، وجلالة قدره في مخلوقاته ومصنوعاته ، الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أي أولم ينظروا إلى عجائب الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنفٍ حسنٍ محمود ، كثير الخير والمنفعة ؟ والاستفهام للتوبيخ على تركهم الاعتبار { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي إِنَّ في ذلك الإِنبات لآيةً باهرة تدل على وحدانية الله وقدرته { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي وما كان أكثرهم يؤمن في علم الله تعالى ، فمع ظهور الدلائل الساطعة يستمر أكثرهم على كفرهم { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } أي هو سبحانه الغالب القاهر ، القادر على الانتقام ممن عصاه ، الرحيم بخلقه حيث أمهلهم ولم يعجّل لهم العقوبة مع قدرته عليهم قال أبو العالية : العزيز في نقمته ممن خالف أمره وعبَد غيره ، الرحيم بمن تاب إليه وأناب وقال الفخر الرازي : إنما قدم ذكر { ٱلْعَزِيزُ } على { ٱلرَّحِيمُ } لأنه ربما قيل : إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم ، فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر ، ومع ذلك فإِنه رحيم بعباده ، فإِن الرحمة إذا كانت مع القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً { وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ } أي واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين من قومك حين نادى ربك نبيَّه موسى من جانب الطور الأيمن آمراً له أن يذهب إلى فرعون وملئه { أَنِ ٱئْتِ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي بأن أئت هؤلاء الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ، واستعباد الضعفاء من بني إسرائيل { قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي هم قوم فرعون ، وهو عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون شيء واحد { أَلا يَتَّقُونَ } ؟ أي ألا يخافون عقاب الله ؟ وفيه تعجيب من غلوهم في الظلم وإِفراطهم في العدوان { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } أي قال موسى يا ربّ إني أخاف أن يكذبوني في أمر الرسالة { وَيَضِيقُ صَدْرِي } أي ويضيق صدري من تكذيبهم أياي { وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } أي ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة على الوجه الكامل { فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ } أي فأرسلْ إلى هارون ليعينني على تبليغ رسالتك قال المفسرون : التمس موسى العذر بطلب المعين بثلاثة أعذار كلُّ واحدٍ منها مرتب على ما قبله وهي : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وعدم انطلاق اللسان ، فالتكذيبُ سببٌ لضيق القلب ، وضيقُ القلب سببٌ لتعسر الكلام ، وبالأخص على من كان في لسانه حُبْسه كما في قوله { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي } [ طه : 27 - 28 ] ثم زاد اعتذاراً آخر بقوله { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } أي ولفرعون وقومه عليَّ دعوى ذنب وهو أني قتلت منهم قبطياً فأخاف أن يقتلوني به { قَالَ كَلاَّ } أي قال الله تعالى له : كلاّ لن يقتلوك قال القرطبي : وهو ردعٌ وزجر عن هذا الظن ، وأمرٌ بالثقة بالله تعالى أي ثقْ بالله وانزجر عن خوفك منهم فإِنهم لا يقدرون على قتلك { فَٱذْهَبَا بِآيَاتِنَآ } أي اذهب أنت وهارون بالبراهين والمعجزات الباهرة { إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } أي فأنا معكما بالعون والنصرة أسمع ما تقولان وما يجيبكما به ، وصيغةُ الجمع " معكم " أريد به التثنية فكأنهما لشرفهما عند الله عاملهما في الخطاب معاملة الجمع تشريفاً لهما وتعظيماً { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي فائتيا فرعو الطاغية وقولا له : إنا مرسلان من عند رب العالمين إليك لندعوك إلى الهدى { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي أطلقْ بني إسرائيل من إسارك واستعبادك وخلِّ سبيلهم حتى يذهبوا معنا إلى الشام { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } في الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره : فأتياه فبلغاه الرسالة فقال فرعون لموسى عندئذٍ : ألم نربك في منازلنا صبياً صغيراً ؟ قصد فرعون بهذا الكلام المنَّ على موسى والاحتقار له كأنه يقول : ألست أنت الذي ربيناك صغيراً وأحسنّا إليك فمتى كان هذا الأمر الذي تدّعيه ؟ { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } أي ومكثت بين ظهرانينا سنين عديدة نحسن إليك ونرعاك ؟ قال مقاتل : ثلاثين سنة { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ } أي فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا وقتلتَ منا نفساً ؟ والتعبيرُ بالفعلة لتهويل الواقعة وتعظيم الأمر ، ومرادُه قتل القبطي { وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } أي وأنت من الجاحدين لإِنعامنا الكافرين بإِحساننا قال ابن عباس : من الكافرين لنعمتي إذ لم يكن فرعون يعلم ما الكفر { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } أي قال موسى : فعلتُ تلك الفعلة وأنا من المخطئين لأنني لم أتعمد قتله ولكنْ أردت تأديبه ، ولم يقصد عليه السلام الضلال عن الهدى لأنه معصوم منذ الصغر وقال ابن عباس : { وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } أي الجاهلين { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } أي فهربتُ إلى أرض مدين حين خفت على نفسي أن تقتلوني وتؤاخذوني بما لا أستحقه { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً } أي فأعطاني الله النبوة والحكمة { وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي واختارني رسولاً إليك ، فإِن آمنتَ سلمتَ ، وإِن جحدتَ هلكتَ { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي كيف تمنُّ عليَّ بإِحسانك إليِّ وقد استعبدتَ قومي ؟ فما تعدُّه نعمة ما هو إلاّ نقمة قال ابن كثير : المعنى ما أحسنتَ إليَّ وربيتني مقابل ما أسأتَ إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً ، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم ؟ وقال الطبري : أي أتمنُّ عليَّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيداً ؟ { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } أي قال فرعون متعالياً متكبراً : من هو هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين ؟ هل هناك إلهٌ غيري ؟ لأنه كان يجحد الصانع ويقول لقومه { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] { قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي قال موسى : هو خالق السماواتِ والأرض ، والمتصرف فيهما بالإِحياء والإِعدام ، وهو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار ، وجبالٍ وأشجار ، ونباتٍ وثمار ، وغير ذلك من المخلوقات البديعة { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } أي إن كانت لكم قلوب موقنة ، وأبصارٌ نافذة ، فهذا أمر ظاهر جلي { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } أي قال فرعون لمن حوله من أشراف قومه على سبيل التهكم والاستهزاء : ألا تسمعون جوابه وتعجبون من أمره ؟ أسأله عن حقيقة الله فيجيبني عن صفاته ، فأجاب موسى وزاد في البيان والحجة { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم ، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم ، عدلٌ عن التعريف العام إلى التعريف الخاص لأنَّ دليل الأنفس أقرب من دليل الآفاق ، وأوضح عند التأمل { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] فعند ذلك غضب فرعون ونسب موسى إلى الجنون { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } سمَّاه رسولاً استهزاءً وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له ، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء ، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريفٍ ثالث أوضح من الثاني { قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب ، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل ولهذا قال { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي إن كان لكم عقول أدركتم أن هذا لا يقدر عليه إلا ربُّ العالمين ، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل كقول إبراهيم في مناظرة النمروذ { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] ولما انقطع فرعون وأُبلس في الحجة رجع إِلى الاستعلاء متوعداً بالبطش والعنف { قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } أي لئن اتخذت رباً غيري لألقينك في غياهب السجن قال المفسرون : وكان سجنه شديداً يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحداً حتى يموت ولهذا لم يقل " لأسجننَّك " وإِنما قال لأجعلنك من المسجونين لأن سجنه كان أشدَّ من القتل قال في التسهيل : لما أظهر فرعونُ الجهل بالله فقال { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } أجابه موسى بقوله { رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } فقال { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } ؟ تعجباً من جوابه ، فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } لأن وجود الإِنسان وآبائه أظهرُ الأدلة عند العقلاء ، وأعظم البراهين ، فإِن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها وجود خالقهم ، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطةً منه ، وأيّده بالازدراء والتهكم في قوله { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله { قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحداً جحدها ولا أن يدعيها لغير الله ، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدَّده بالسجن ، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعاً في إِيمانه { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي أتسجنني ولو جئتك بأمرٍ ظاهرٍ ، وبرهان قاطع تعرف به صدقى ؟ { قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أي فائت بما تقول إن كنت صادقاً في دعواك { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي رمى موسى عصاه فإِذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح ، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي وأخرج يده من جيبه فإِذا هي تتلألأ كالشمس الساطعة ، لها شعاع يكادُ يعشي الأبصار ويسدُّ الأفق { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي قال فرعون لأشراف قومه الذين كانوا حوله : إن هذا لساحرٌ عظيم بارعٌ في فنِّ السحر . . أراد أن يُعمِّي على قومه تلك المعجزة برميه بالسحر خشية أن يتأثروا بما رأوا { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } أي يريد أن يستولي على بلادكم بسحره العظيم { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي فبأي شيء تأمروني وبما تشيرون عليَّ أن أصنع به ؟ لما رأى فرعون تلك الآيات الباهرة خاف على قومه أن يتبعوه ، فتنزَّل إلى مشاورتهم بعد أن كان مستبدأ بالرأي والتدبير { قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي أخِّرْ أمرهما { وَٱبْعَثْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } أي وأرسل في أطراف مملكتك من يجمع لك السحرة من كل مكان { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } أي يجيئوك بكل ساحر ماهرٍ ، عليم بضروب السحر قال ابن كثير : وكان هذا من تسخير الله تعالى ليجتمع الناس في صعيد واحد ، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة { فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي فاجتمع السحرة للموعد المحدَّد وهو وقت الضحى من يوم الزينة ، وهو الوقت الذي حدَّده موسى ، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رءوس الأشهاد كما قال تعالى { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } [ طه : 59 ] { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلْغَالِبِينَ } أي قيل للناس : بادروا إلى الإِجتماع لكي نتبع السحرة في دينهم إن غلبوا موسى { فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } أي إن غلبنا بسحرنا موسى فهل تكرمنا بالمال والأجر الجزيل ؟ { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } أي قال لهم فرعون : نعم أعطيكم ما تريدون وأجعلكم من المقربين عندي ومن خاصة جلسائي { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } في الكلام إيجاز دلَّ عليه السياق تقديره : فقالوا لموسى عند ذلك إمَّا أن تُلقي وإِما أن نكون نحن الملقين كما ذكر في الأعراف فأجابهم موسى بقوله { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } أي ابدءوا بإِلقاء ما تريدون فأنا لا أخشاكم ، قاله ثقةً بنصرة الله له وتوسلاً لإِظهار الحقِّ { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ } أي فألقوا ما بأيديهم من الحبال والعصي وقالوا عند الإِلقاء نقسم بعظمة فرعون وسلطانه إنّا نحن الغالبون لموسى { فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } أي فألقى موسى العصى فانقلبت حية عظيمة فإِذا هي تبتلع وتزدرد الحبال والعصيّ التي اختلقوها باسم السحر حيث خيلوها للناس حياتٍ تسعى ، وسمّى تلك الأشياء إفكاً مبالغةً { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } أي سجدوا للهِ رب العالمين ، بعدما شاهدوا البرهان الساطع ، والمعجزة الباهرة { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } أي وقالوا عند سجودهم آمنا بالله العزيز الكبير الذي يدعونا إليه موسى وهارون قال الطبري : لما تبيّن للسحرة أن الذي جاءهم به موسى حقٌّ لا سحر ، وأنه مما لا يقدر عليه غيرُ الله الذي فطر السماوات والأرض ، خرّوا لوجوههم سجداً لله مذعنين له بالطاعة قائلين : آمنا برب العالمين الذي دعانا موسى لعبادته ، دون فرعون وملئه { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } أي قال فرعون للسحرة : آمنتم لموسى قبل أن تستأذنوني ؟ { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ } أي إنه رئيسكم الذي تعلمتم منه السحر وتواطأتم معه ليظهر أمره ، أراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا عن بصيرة وظهور حق قال ابن كثير : وهذه مكابرة يعلم كل أحدٍ بطلانها ، فإِنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم ، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل ، ثم توعَّدهم بقوله { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي سوف تعلمون عند عقابي وبال ما صنعتم من الإِيمان به { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } أي لأقطعنَّ يد كل واحد منكم اليمنى ورجله اليسرى { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } أي ولأصلبنَّ كل واحد منكم على جذع شجرة وأتركه حتى الموت { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } أي لا ضرر علينا في وقوع ما أوعدتنا به ، ولا نبالي به لأننا نرجع إلى ربنا مؤملين غفرانه { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ } أي إنا نرجو أن يغفر لنا الله ذنوبنا التي سلفت منا قبل إيماننا به فلا يعاقبنا بها { أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي بسبب أن بادرنا قومنا إلى الإِيمان وكنا أول من آمن بموسى . البَلاَغَة : تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الكناية اللطيفة { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } كنّى به عن الذل والهوان الذي يلحقهم بعد العز والكبرياء . 2 - الوعيد والتهديد { فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } . 3 - التوبيخ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلأَرْضِ } الاستفهام للتوبيخ على تركهم النظر بعين الاعتبار . 4 - المقابلة اللطيفة بين { وَيَضِيقُ صَدْرِي } { وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } . 5 - جناس الاشتقاق { رَسُولُ … أَرْسِلْ } . 6 - الجناس الناقص { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ } فقد اتفقت الحروف بين ( فعلتَ وبين فعْلة ) واختلف الشكل فأصبح جناساً غير تام . 7 - الإِيجاز بالحذف { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } دلَّ على هذا الحذف السياق تقديره فأتيا فرعون فقالا له ذلك فقال لموسى { أَلَمْ نُرَبِّكَ } وكذلك هناك إيجاز في { فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ } قال الزمخشري : أصلُه أرسلْ جبريل إلى هارون واجعله نبياً وآزرني به واشدد به عضدي فأحسن في الاختصار غاية الإِحسان . 8 - صيغة التعجيب { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } . 9 - التأكيد بإِنَّ واللام لأن السامع متشكك ومتردد { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ومثله قول السحرة في بدء المناظرة { إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ } وهذا من خصائص علم البيان . 10 - الطباق بين { ٱلْمَشْرِقِ … وَٱلْمَغْرِبِ } ثم توافق الفواصل وهو من السجع البديع . لطيفَة : إن قيل كيف قال موسى في بدء مناظرته لفرعون وقومه { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } ثم قال آخراً { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } فالجواب أنه تلطَّف ولاين أولاً طمعاً في إِيمانهم ، فلما رأى منهم العناد والمغالطة وبخهم بقوله { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ … لَمَجْنُونٌ } فسلك موسى طريق الحكمة .