Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 20-42)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى ، وقد تناولت الآيات السابقة قصة ولادته وإرضاعه ، وتربيته في بيت فرعون إلى أن شبَّ وبلغ سنَّ الرشد والكمال ، ثم قتله للفرعوني ، وتتحدث الآيات هنا عن هجرته إلى أرض مدين وتزوجه بابنة شعيب ، ثم عودته إلى مصر ، ونزول النبوة عليه ، وهلاك فرعون على يديه . اللغَة : { يَأْتَمِرُونَ } يتشاورون قال الأزهري : ائتمر القوم وتآمروا أي أمر بعضهم بعضاً { تَذُودَانِ } ذاد يذود إذا حبس ومنع ، طرد قال الشاعر : @ لقد سلبت عصاك بنو تميم فما تدري بأي عصى تذود @@ { خَطْبُكُمَا } الخطب : الشأن قال رؤية : " يا عجباً ما خطبه وخطبي " { ٱلرِّعَآءُ } جمع راعٍ مثل صاحب وصحاب وهو الذي يرعى الغنم { حِجَجٍ } جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة { جَذْوَةٍ } الجذوة : الجمرة الملتهبة { رِدْءاً } عوناً قال الجوهري : أردأتُه أعنته ، وكنتُ له ردءاً أي عوناً { ٱلْمَقْبُوحِينَ } الهالكين المبعدين أو القبيحين في الصورة يقال : قَبَحه الله وقَبَّحه إذا جعله قبيحاً . التفسِير : { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ } أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه من أبعد أطراف المدينة يشتد ويسرع في مشيه قال ابن عباس : هذا الرجل هو مؤمن من آل فرعون { قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أي قال له يا موسى : إن أشراف فرعون ، ووجوه دولته يتشاورون فيك بقصد قتلك { فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } أي فاخرج قبل أن يدركوك فأنا ناصحٌ لك من الناصحين { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } أي فخرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب وينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه ، ثم التجأ إلى الله سبحانه بالدعاء لعلمه بأنه لا ملجأ سواه { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي خلصني من الكافرين واحفظني من شرهم - والمراد بهم فرعون وملؤُه - { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي بلدة شعيب عليه السلام { قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } أي لعل الله يرشدني إلى الطريق السوي الذي يوصلني إلى مقصودي قال المفسرون : خرج خائفاً بغير زاد ولا ظهر - مركب - وكان بين مصر ومدين مسيرةُ ثمانية أيام ، ولم يكن له علمٌ بالطريق سوى حسن ظنه بربه ، فبعث الله إليه ملكاً فأرشده إلى الطريق ، ويروى أنه لما وصل مدين كانت خضرةُ البقل تتراءى من بطنه من الهزال ، لأنه كان في الطريق يتقوت ورق الشجر { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ } أي ولما وصل إلى مدين بلدة شعيب وجد على البئر الذي يستقي منه الرعاة جمعاً كثيفاً من الناس يسقون مواشيهم { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } أي ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفَّان غنمهما عن الماء { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } ؟ أي ما شأنكما تمنعان الغنم عن ورود الماء ؟ ولم لا تسقيان مع السقاة ؟ { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاةُ مع أغنامهم عن الماء ، ولا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء ، ولا نريد مخالطة الرجال ، وأبونا رجل مُسنٌّ لا يستطيع لضعفه أن يباشر سقاية الغنم ، ولذلك اضطررنا إلى أن نسقي بأنفسنا قال أبو حيان : فيه اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما ، وتنبيهٌ على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره ، واستعطافٌ لموسى في إعانتهما { فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ } أي فسقى لهما غنمهما رحمة بهما ، ثم تنحى جانباً فجلس تحت ظل شجرة { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي إني يا ربّ محتاجٌ إلى فضلك وإحسانك ، وإلى الطعام الذي أسُدُّ به جوعي ، طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتد عليه الجوع قال الضحاك : مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وقال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى " مدين " ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافياً فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه ، وجلس في الظل - وهو صفوة الله من خلقه - وإن بطنه للاصقٌ بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه ، وإنه لمحتاجٌ إلى شق تمره { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ } في الكلام اختصار تقديره : فذهبتا إلى أبيهما سريعتين ، وكان من عادتهما الإِبطاء فحدثتاه بما كان من أمر الرجل ، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته تمشي . . الخ أي جاءته حال كونها تمشي مشية الحرائر بحياء وخجل قد سترت وجهها بثوبها قال عمر : لم تكن بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي إنَّ أبي يطلبك ليعوضك عن أجر السقاية لغنمنا قال ابن كثير : وهذا تأدبٌ في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي فلما جاءه موسى وذكر له ما كان من أمره وسبب هربه من مصر قال له شعيب : لا تخف فأنت في بلدٍ آمن لا سلطان لفرعون عليه وقد نجاك الله من كيد المجرمين { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ } أي استأجره لرعي أغنامنا وسقايتها { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } أي إنَّ أفضل من تستأجره من كان قوياً أميناً قال أبو حيان : وقولها كلام حكيم جامع لأنه إذ اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمرٍ من الأمور فقد تمَّ المقصود ، روي أن شعيباً قال لها : وما أعلمك بقوته وأمانته ؟ فقالت : إنه رفع الصخرةالتي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وإني لما جئتُ معه تقدمتُ أمامه فقال لي : كوني من ورائي ودليني على الطريق ، ولما أتيته خفض بصره فلم ينظر إليَّ ، فرغب شعيب في مصاهرته وتزويجه بإحدى بناته { قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } أي إني أريد أن أزوجك إحدى بنتيَّ هاتين الصغرى أو الكبرى { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أي بشرط أن تكون أجيراً لي ثماني سنين ترعى فيها غنمي { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } أي فإن أكملتها عشر سنين فذلك تفضل منك ، وليس بواجب عليك { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } أي وما أُريد أن أوقعك في المشقة باشتراط العشر { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي ستجدني إن شاء الله حسن المعاملة ، ليِّن الجانب ، وفيأ بالعهد قال القرطبي : في الآية عرضُ الوليّ ابنته على الرجل ، وهذه سُنة قائمة ، عرض شعيب ابنته على موسى ، وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن الحُسْن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح ، اقتداءً بالسلف الصالح { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي قال موسى : إنَّ ما قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا نخرج عنه ، وأيَّ المدتين الثماني أو العشر أديتها لك فلا إثم ولا حرج عليَّ { وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي والله شاهد على ما تعاهدنا وتواثقنا عليه { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ } أي فلما أتم موسى المدة التي اتفقا عليها قال ابن عباس : قضى أتم الأجلين وأكملهما وأوفاهما وهو عشر سنين { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } أي ومشى بزوجته مسافراً بها إلى مصر { آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً } أي أبصر من بعيد ناراً تتوهج من جانب جبل الطور { قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً } أي قال لزوجته امكثي هنا فقد أبصرت ناراً عن بعد قال المفسرون : كانت ليلةً باردة وقد أضلوا الطريق ، وهبَّت ريح شديدة فرقت ماشيته ، وأخذ أهله الطلق فعند ذلك أبصر ناراً بعيدة فسار إليها لعله يجد من يدله على الطريق فذلك قوله تعالى { لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } أي لعلي آتيكم بخبر الطريق وأرى من يدلني عليه { أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ } أي فلما وصل إلى مكان النار لم يجدها ناراً وإنما وجدها نوراً ، وجاءه النداء من جانب الوادي الأيمن في ذلك المكان المبارك من ناحية الشجرة { أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } اي نودي يا موسى إن الذي يخاطبك ويكلمك هو أنا الله العظيم الكبير ، المنزه عن صفات النقص ، ربُّ الإِنس والجن والخلائق أجمعين { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } أي ونودي بأن اطرح عصاك التي في يدك { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي فألقاها فانقلبت إلى حيّة فلما رآها تتحرك كأنها ثعبان خفيف سريع الحركة انهزم هارباً منها ولم يلتفت إليها قال ابن كثير : انقلبت العصى إلى حية وكانت كأنها جانٌّ في حركتها السَريعة مع عِظَم خلقتها ، واتساع فمها ، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها تنحدر في فمها تتقعقع كأنها حادرة في واد ، فعند ذلك ولَّى مدبراً ولم يلتفت ، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك { يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } أي فنودي يا موسى : إرجع إلى حيث كنت ولا تخف فأنت آمنٌ من المخاوف ، فرجع وأدخل يده في فم الحية فعادت عصا { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } أي أدخل يدك في جيب قميصك - وهو فتحة الثوب مكان دخول الرأس - ثم أخرجها تخرج مضيئةً منيرة تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق من غير أذى ولا برص { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ } قال ابن عباس : اضمم يدك إلى صدرك من الخوف يذهب عنك الرعب قال المفسرون : المراد بالجناح اليد لأن يدي الإِنسان بمنزلة جناحي الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه وبذلك يذهب عنه الخوف من الحية ومن كل شيء { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي فهذان - العصا واليد - دليلان قاطعان ، وحجتان نيرتان واضحتان من الله تعالى تدلان على صدقك ، وهما آيتان إلى فرعون وأشراف قومه الطُغاة المتجبرين { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أي خارجين عن طاعتنا ، مخالفين لأمرنا { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } أي قال موسى يا رب إني قتلت قبطياً من آل فرعون وأخشى إن أتيتهم أن يقتلوني به قال المفسرون : هو القبطي الذي وكزه فمات ، فطلب من ربه ما يزداد به قوة على مجابهة فرعون بإرسال أخيه هارون معه فقال { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } أي هو أوضح بياناً ، وأطلق لساناً ، لأن موسى كان في لسانه حُبْسة من أثر الجمرة التي تناولها في صغره { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي } أي فأرسلْهُ معي معيناً يبيّن لهم عني ما أكلمهم به بتوضيح الحجج والبراهين { إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } أي أخاف إن لم يكن لي وزير ولا معين أن يكذبوني لأنهم لا يكادون يفقهون عني ، قال الرازي : والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان ، وليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له : صدقتَ ، أو يقول للناس : صدقَ موسى ، وإنما هو أن يُلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ، ويجيب عن الشبهات ، ويجادل به الكفار { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } أي أجابه تعالى إلى طلبه وقال له : سنقوّيك بأخيك ونعينك به ، ونجعل لكما غلبةً وتسلطاً على فرعون وقومه { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ } أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب ما أيدتكما به من المعجزات الباهرات { أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ } أي العاقبة لكما ولأتباعكما في الدنيا والآخرة ، وأنتم الغالبون على القوم المجرمين كقوله تعالى { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] { فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ } أي فلما جاءهم موسى بالبراهين الساطعة ، والمعجزات القاطعة ، الدالة على صدقه وأنه رسولٌ من عند الله { قَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } أي ما هذا الذي جئتنا به من العصا واليد إلا سحرٌ مكذوب مختلق ، افتريته من قبل نفسك وتنسبه إلى الله { وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } أي وما سمعنا بمثل هذه الدعوى - دعوى التوحيد - في آبائنا وأجدادنا السابقين { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ } أجمل موسى في جوابهم تلطفاً في الخطاب ، وإيثاراً لأحسن الوجوه في المجادلة معهم والمعنى : إن ما جئتكم به حقٌ وهدى وليس بسحر ، وربي عالمٌ بذلك يعلم أني محقٌ وأنتم مبطلون ، ويعلم من تكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } أي لا يسعد ولا ينجح من كان ظالماً فاجراً ، كاذباً على الله { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } أي قال فرعون لأشراف قومه وسادتهم : ما علمتُ لكم إلهاً غيري قال ابن عباس : كان بين هذه القولة الفاجرة وبين قوله { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النازعات : 24 ] أربعون سنة ، وكذب عدوُّ الله بل علم أن له رباً هو خالقه وخالق قومه { فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّي صَرْحاً } أي فاطبخ لي يا هامان الآجر فاجعل لي منه قصراً شامخاً رفيعاً { لَّعَلِّيۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ } أي لعلي أرى وأشاهد إله موسى الذي زعم أنه أرسله ، قال ذلك على سبيل التهكم ولهذا قال بعده { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } أي وإني لأظن موسى كاذباً في ادعائه أن في السماء رباً قال تعالى { وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } أي وتكبر وتعظم فرعون وقومه عن الإِيمان بموسى في أرض مصر بالباطل والظلم { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } أي واعتقدوا أن لا بعث ولا نشور ، ولا حساب ولا جزاء { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ } أي فأخذناه مع جنوده فطرحناهم في البحر ، وأغرقناهم فلم يبق منهم أحد { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ } أي فانظر يا محمد بعين قلبك نظر اعتبار كيف كان مآل هؤلاء الظالمين الذين بلغوا من الكفر والطغيان أقصى الغايات ؟ { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ } أي وجعلناهم في الدنيا قادة وزعماء في الكفر يقتدي بهم أهلُ الضلال { وَيَوْمَ ٱلْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ } أي ويوم القيامة ليس لهم ناصر يدفع عنهم العذاب { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً } أي جعلنا اللغنة تلحقهم في هذه الحياة الدنيا من الله والملائكة والمؤمنين { وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ } أي وفي الآخرة هم من المبعدين المطرودين من رحمة الله عز وجل . البَلاَغَة : تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التأكيد بإِنَّ واللام { إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } مناسبةً لمقتضى الحال . 2 - الاستعطاف والترحم { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } . 3 - جناس الاشتقاق { وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ } . 4 - التشبيه المرسل المجمل { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } حذف وجه الشبه فأصبح مجملاً . 5 - الطباق بين { يُصَدِّقُنِي … ويُكَذِّبُونِ } . 6 - الكناية { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } كنى عن اليد بالجناح ، لأنها للإِنسان كالجناح للطائر . 7 - المجاز المرسل { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } من إطلاق السبب وإرادة المسبب لأن شد العضد يستلزم شد اليد ، وشد اليد مستلزم للقوة ، قال الشهاب ، ويمكن أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية ، شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بيد شديدة . لطيفَة : قال الزمخشري : إنما قال { فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ } أي أوقد لي النار فأتخذ منه آجراً ولم يقل " أطبخ لي الآجر " لأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلو طبقته ، وأشبه بكلام الجبابرة ، وهامان وزيره ومدبّر رعيته .