Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-27)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { فِتْنَةَ } الفتنة : الابتلاء والاختبار { أَثْقَالَهُمْ } جمع ثقل وهو الحمل الثقيل الذي ينوء به الإِنسان ، والمراد بالأثقال هنا الذنوب والأوزار { لَبِثَ } أقام ومكث { إِفْكاً } كذباً وزوراً { تُقْلَبُونَ } تُرجعون وتُردون . سَبَبُ النّزول : عن سعد بن أبي وقاص قال : " كنت رجلاً باراً بأمي فلما أسلمتُ ، قالت : ما هذا الدين الذي أحدثت يا سعد ؟ لتدَعن دينك هذا أو لا آكلُ ولا أشربُ حتى أموت فتعيَّر بي فيقال : يا قاتل أمه ، قلتُ : لا تفعلي يا أماه ، فإِني لا أدع ديني هذا لشيءٍ أبداً ، قال : فمكثتْ يوماً وليلةً لا تأكل ، فأصبحت قد جُهدت ، ثم مكثت يوماً آخر وليلةً لا تأكل ، فلما رأيتُ ذلك قلت : تعلمين واللهِ يا أُمَّاه لو كانت لكِ مائةُ نفسٍ فخرجت نفساً نفْساً ما تركتُ ديني هذا لشيءٍ أبداً ، فإِن شئت فكلي ، وإِن شئتِ فَدعي ، فلم رأتْ ذلك أكلت فأنزل الله هذه الآية { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ … } الآية . التفسِير : { الۤـمۤ } الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } ؟ الهمزة للاستفهام الإِنكاري أي أظنَّ الناسُ أن يُتركوا من غير افتتان لمجرد قولهم باللسان آمنا ؟ لا ليس كما ظنوا بل لا بدَّ من امتحانهم ليتميز الصادق من المنافق قال ابن جزي : نزلت في قومٍ من المؤمنين كانوا بمكة مستضعفين ، منهم " عمار بن ياسر " وغيره ، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام ، فضاقت صدورهم بذلك فآنسهم الله بهذه الآية ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار ، ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى ، والثبات على الإِيمان ، وأعلمهم أن تلك سيرته في عباده يسلّط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك ، ويظهر الصادق في إِيمانه من الكاذب { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي ولقد اختبرنا وامتحنا من سبقهم بأنواع التكاليف والمصائب والمحن قال البيضاوي : والمعنى أن ذلك سنة قديمة ، جارية في الأمم كلها ، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } أي فليميزنَ الله بين الصادقين في دعوى الإِيمان ، وبين الكاذبين فيه ، وعبَّر عن الصادقين بلفظ الفعل { ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } وعن الكاذبين باسم الفاعل { ٱلْكَاذِبِينَ } للإِشارة إِلى أن الكاذبين وصفهم مستمر وأن الكذب راسخ فيهم بخلاف الصادقين فإِن الفعل يفيد التجدد ، قال الإِمام الفخر : إِن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر ورسوخه فيه ، والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال : فلانٌ شرب الخمر ، وفلانٌ شاربُ الخمر ، فإِنه لا يفهم من صيغة الفعل الثبوتُ والرسوخ { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا } أي أيظن المجرمون الذين يرتكبون المعاصي والموبقات أنهم يفوتون من عقابنا ويعجزوننا ؟ { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي بئس ما يظنون قال الصاوي : والآية انتقال من توبيخ إلى توبيخ أشد ، فالأول توبيخ للناس على ظنهم أنهم يفوتون عذاب الله ويفرون منه مع دوامهم على كفرهم { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ } لما بيَّن تعالى أن العبد لا يترك في الدنيا سُدى ، بيَّن هنا أن من اعترف بالآخرة وعمل لها لا يضيع عمله ، ولا يخيب أمله والمعنى من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله فيجازيه ، فإِن لقاء الله قريب الإِتيان ، وكلُّ ما هو آتٍ قريب ، والآية تسلية للمؤمنين ووعدٌ لهم بالخير في دار النعيم { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي هو تعالى السميع لأقوال العباد ، العليم بأحوالهم الظاهرة والباطنة { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات ، والكف عن الشهوات ، فمنفعة جهاده إِنما هي لنفسه { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } أي مستغنٍ عن العباد ، لا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضره معصية العاصين { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي لنمحونَّ عنهم سيئاتهم التي سلفت منهم بسبب إِيمانهم وعملهم الصالح { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ونجزيهم بأحسن أعمالهم الصالحة وهي الطاعات { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } أي أمرناه أمراً مؤكداً بالإِحسان إِلى والديه غاية الإِحسان ، لأنهما سبب وجوده ولهما عليه غاية الفضل والإِحسان ، الوالد بالإِنفاق والوالدة بالإِشفاق قال الصاوي : وإِنما أمر الله الأولاد ببر الوالدين دون العكس ، لأن الأولاد جُبلوا على القسوة وعدم طاعة الوالدين ، فكلفهم الله بما يخالف طبعهم ، والآباء مجبولون على الرحمة والشفقة بالأولاد فوكلهم لما جُبلوا عليه { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } أي وإِن بذلا كلَّ ما في وسعهما ، وحرصا كلَّ الحرص على أن تكفر بالله وتشرك به شيئاً لا يصح أن يكون إِلهاً ولا يستقيم ، فلا تطعهما في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي إِليَّ مرجع الخلائق جميعاً ، مؤمنهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، فأجازي كلاً بما عمل ، وفيه وعدٌ حسن لمن برَّ والديه واتبع الهدى ، ووعيدٌ لمن عقَّ والديه واتبع سبيل الرَّدى { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } أي لندخلنَّهم في زمرة الصالحين في الجنة قال القرطبي : كرَّر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحريك النفوس إلى نيل مراتبهم ، وفي { ٱلصَّالِحِينَ } مبالغة أي الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته ، ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلَّص ذكر حال المنافقين المذبذبين فقال { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } أي ومن الناس فريقٌ يقولون بألسنتهم آمنا بالله ، فإِذا أُوذي أحدهم بسبب إِيمانه ارتد عن الدين وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإِيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإِنسان عن الكفر قال المفسرون : والتشبيه { كَعَذَابِ ٱللَّهِ } من حيث إِن عذاب الله مانع للمؤمنين من الكفر ، فكذلك المنافقون جعلوا أذاهم مانعاً لهم من الإِيمان ، وكان مقتضى إِيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا ، ويروا في العذاب عذوبة ، وفي المحنة منحة ، فإِن العاقبة للمتقين قال الإِمام الفخر : أقسام المكلفين ثلاثة : مؤمنٌ ظاهر بحسن اعتقاده ، وكافرٌ مجاهر بكفره وعناده ، ومذبذبٌ بينهما يظهر الإِيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده ، فلما ذكر تعالى القسمين بقوله { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } ذكر القسم الثالث هنا { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ } واللطيفة في الآية أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر ، وخسَّة المنافق الكافر ، فقال هناك : أُوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه ، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه ، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم ويكون قلبه مطمئناً بالإِيمان ، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي ولئن جاء نصر قريب للمؤمنين ، وفتح ومغانم قال أولئك المذبذبون : إِنا كنا معكم ننصركم على أعدائكم ، فقاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم قال تعالى رداً عليهم { أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ } ؟ استفهام تقرير أي أوليس الله هو العالم بما انطوت عليه الضمائر من خير وشر ، وبما في قلوب الناس من إِيمان ونفاق ؟ بلى إِنه بكل شيء عليم ، ثم أكد تعالى ذلك بقوله { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } أي وليُظهرنَّ الله لعباده حال المؤمنين وحال المنافقين حتى يتميزوا فيفتضح المنافق ، ويظهر شرف المؤمن الصادق قال المفسرون : والمراد { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ } إِظهار علمه للناس حتى يصبح معلوماً لديهم ، وإِلا فالله عالم بما كان ، وما يكون ، وما هو كائن لا تخفى عليه خافية ، فهو إِذاً علمُ إِظهار وإِبداء ، لا علمُ غيبٍ وخفاء بالنسبة للّه تعالى ، وقد فسَّر ابن عباس العلم بمعنى الرؤية { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } أي قال الكفار للمؤمنين اكفروا كما كفرنا ، واتَّبعوا ديننا ونحن نحمل عنكم الإِثم والعقاب ، إِن كان هناك عقاب قال ابن كثير : كما يقول القائل : افعلْ هذا وخطيئتك في عنقي ، فإِن قيل { وَلْنَحْمِلْ } صيغة أمر ، فكيف يصح أمر النفس من الشخص ؟ فنقول : الصيغةُ أمرٌ والمعنى شرطٌ وجزاء أي إِن اتبعتمونا حملنا خطاياكم { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ } أي وما هم حاملين شيئاً من خطاياهم ، لأنه لا يحمل أحدٌ وزر أحد { إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي وإِنهم لكاذبون في ذلك ، ثم قال تعالى { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } أي وليحملُنَّ أوزارهم وأوزار من أضلوهم دون أن ينقص من أوزار أولئك شيء كما في الحديث " ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من اتّبعه من غير أن يَنْقص من آثامهم شيء " { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي وليسألنَّ سؤال توبيخ وتقريع { عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي عما كانوا يختلقونه من الكذب على الله عز وجل ، ثم ذكر تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قصة نوح تسليةً له عما يلقاه من أذى المشركين فقال { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } أي ولقد بعثنا نوحاً إلى قومه فمكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى توحيد الله جلَّ وعلا ، وكانوا عبدة أصنام فكذبوه { فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } أي فأهلكهم الله بالطوفان وهم مصرّون على الكفر والضلال قال أبو السعود : والطوفان : كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة ، من السيل والريح والظلام ، وقد غلب على طوفان الماء قال الرازي : وفي قوله { وَهُمْ ظَالِمُونَ } إِشارة إلى لطيفة ، وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ، وإِنما يعذب على الإِصرار على الظلم ولهذا قال { وَهُمْ ظَالِمُونَ } يعني أهلكهم وهم على ظلمهم { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ } أي فأنجينا نوحاً من الغرق ومن ركب معه في السفينة من أهله وأولاده وأتباعه المؤمنين { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } أي وجعلنا تلك الحادثة الهائلة عظة وعبرة للناس بعدهم يتعظون بها { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } قال ابن كثير : يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله " إِبراهيم " إِمام الحنفاء ، أنه دعا قومه إِلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والإِخلاص له في التقوى ، وطلب الرزق منه وحده ، وتوحيده في الشكر فإِنه المشكور على النعم لا مُسدي لها غيره { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي عبادة الله وتقواه خير لكم من عبادة الله الأوثان إِن كنتم تعلمون الخير من الشر وتفرقون بينهما { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً } أي أنتم لا تعبدون شيئاً ينفع أو يضر ، وإِنما تعبدون أصناماً من حجارة صنعتموها بأيديكم { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي وتصنعون كذباً وباطلاً قال ابن عباس : تنحتون وتصورون إِفكاً { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } أي إِن هؤلاء الذين تعبدونهم لا يقدرون على أن يرزقوكم { فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ } أي فاطلبوا الرزق من الله وحده ، فإِنه القادر على ذلك { وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } أي وخصوه وحده بالعبادة واخشعوا واخضعوا له ، واشكروه على نعمه التي أنعم بها عليكم { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي إِليه لا إِلى غيره مرجعكم يوم القيامة فيجازي كل عاملٍ بعمله { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد أي وإِن تكذبوني فلن تضروني بتكذيبكم وإِنما تضرون بأنفسكم فقد سبق قبلكم أمم كذبوا رسلهم فحلَّ بهم عذاب الله ، وسيحل بكم ما حلَّ بهم { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } أي وليس على الرسول إِلا تبليغ أوامر الله ، وليس عليه هداية الناس قال الطبري : ومعنى { ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } أي الذي يبينُ لمن سمعه ما يُراد به ، ويفهم منه ما يعني به { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } الاستفهام للتوبيخ لمنكري الحشر أي أولم ير المكذبون بالدلائل الساطعة كيف خلق تعالى الخلق ابتداءً من العدم ، فيستدلون بالخلقة الأولى على الإِعادة في الحشر ؟ قال قتادة : المعنى أولم يروا بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت ؟ { إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي سهل عليه تعالى فكيف ينكرون البعث والنشور ؟ فإِن من قدر على البدء قدر على الإِعادة ، قال القرطبي : ومعنى الآية على ما قاله البعض : أولم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبداً ، وكذلك يبدأ خلق الإِنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً ، وخلق من الولد ولداً ، وكذلك سائر الحيوان ، فإِذا رأيتم قدرته على الإِبداء والإِيجاد ، فهو القادر على الإِعادة لأنه إِذا أراد أمراً قال له كن فيكون { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ } أي قل لهؤلاء المنكرين للبعث سيروا في أرجاء الأرض فانظروا كيف أن الله العظيم القدير خلق الخلق على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم ، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم ، وانظروا إِلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم الله ، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله عز وجل ! { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } أي ثم هو تعالى ينشئهم عند البعث نشأةً أخرى { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لا يعجزه تعالى شيء ومنه البدء والإِعادة { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله الخلق والأمر ، لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي وإِليه تُرجعون يوم القيامة { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } أي لا تفوتون من عذاب الله ، وليس لكم مهربٌ في الأرض ولا في السماء قال القرطبي : والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله كقوله { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي ليس لكم غير الله وليٌّ يحميكم من بلائه ، ولا نصير ينصركم من عذابه { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ } أي كفروا بالقرآن والبعث { أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } أي أولئك المنكرون الجاحدون قنطوا من رحمتي قال ابن جرير : وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي لهم عذاب موجع مؤلم { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } أي فما كان ردُّ قومه عليه حين دعاهم إلى الله ونهاهم عن الأصنام إِلا أن قال كبراؤهم المجرمون : اقتلوه لتستريحوا منه أو حرّقوه بالنار { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ } أي فألقوه في النار فجعلها برداً وسلاماً عليه { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي إِنَّ في إِنجائنا لإِبراهيم من النار لدلائل وبراهين ساطعة على قدرة الله لقوم يصدقون بوجود الله وكمال قدرته وجلاله { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً } أي قال إبراهيم لقومه توبيخاً لهم وتقريعاً : إِنما عبدتم هذه الأوثان والأصنام وجعلتموها آلهة مع الله { مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي من أجل أن تدوم المحبة والألفة بينكم في هذه الحياة باجتماعكم على عبادتها { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي ثم في الآخرة ينقلب الحال فتصبح هذه الصداقة والمودة عداوةً وبغضاء حيث يقع التناكر ويتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة ، لأن صداقتهم في الدنيا لم تكن من أجل الله { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي ومصيركم جميعاً جهنم وليس لكم ناصر أو معين يخلصكم منها { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } أي فآمن معه لوط وصدَّقه وهو ابن أخيه وأول من آمن به لما رأى من الآيات الباهرة { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ } أي وقال الخليل إِبراهيم ، إِني تاركٌ وطني ومهاجر من بلدي رغبة في رضى الله قال المفسرون : هاجر من سواد العراق إلى فلسطين والشام ابتغاء إِظهار الدين والتمكن من نشره { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي هو العزيز الذي لا يذل من اعتمد عليه ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } أي وهبنا لإِبراهيم - لما فارق قومه في الله - ولداً صالحاً هو إِسحاق وولد ولدٍ وهو يعقوب بن إسحاق { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } أي خصصناه بهذا الفضل العظيم حيث جعلنا كل الأنبياء بعد إِبراهيم من ذريته ، وجعلنا الكتب السماوية نازلةً على الأنبياء من بنيه قال ابن كثير : وهذه خصلة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إِياه خليلاً ، وجعله إِماماً للناس ، أن جعل الله في ذريته النبوة والكتاب ، فلم يوجد نبيٌ بعد إِبراهيم إِلا وهو من سلالته ، فجميع أنبياء بني إِسرائيل من سلالة ولده " يعقوب " ولم يوجد نبي من سلالة " إِسماعيل " سوى النبي العربي عليه أفضل الصلاة والتسليم { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا } أي وتركنا له الثناء الحسن في جميع الأديان { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي وهو في الآخرة في عداد الكاملين في الصلاح ، وهذا ثناءٌ عظيم على أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الاستفهام للتقريع والتوبيخ والإِنكار { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا } . 2 - الطباق بين { صَدَقُواْ … وٱلْكَاذِبِينَ } وبين { آمَنُواْ … وٱلْمُنَافِقِينَ } وبين { يُعَذِّبُ … وَيَرْحَمُ } وبين { يُبْدِئُ … يُعِيدُهُ } . 3 - التأكيد بإِنَّ واللام { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ } لأن المخاطب منكر . 4 - صيغة المبالغة { ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } . 5 - الجناس غير التام { يَسِيرٌ … وسِيرُواْ } . 6 - التشبيه المرسل المجمل { فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } حذف منه وجه الشبه فهو مجمل . 7 - التفنن في التعبير { أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } لم يقل إِلا خمسين سنة تفنناً لأن التكرار في الكلام الواحد مخالف للبلاغة إِلا إِذا كان لغرضٍ من تفخيم أو تهويل مثل { ٱلْقَارِعَةُ مَا ٱلْقَارِعَةُ } [ القارعة : 1 - 2 ] . 8 - أسلوب الإِطناب { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً … إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } لغرض التشنيع عليهم في عبادة الأوثان . 9 - أسلوب الإِيجاز { ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } أي حرقوه في النار ثم قال { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ } أي ففعلوا فأنجاه الله من النار . 10 - الاستعارة اللطيفة { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } شبّه الذنوب بالأثقال لأنها تثقل كاهل الإنسان .