Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 46-69)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما بيَّن تعالى ضلال من اتخذ أولياء من دون الله ، وضرب المثل ببيت العنكبوت ، أمر هنا بالتلطف في دعوة أهل الكتاب إلى الإِيمان ، ثم ذكر البراهين القاطعة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة القرآن ، وختم السورة الكريمة ببيان المانع من التوحيد وهو اغترار الناس بالحياة الدنيا الفانية ، وبيَّن أن المشركين يوحدون الله وقت الشدة ، وينسونه وقت الرخاء . اللغَة : { بَغْتَةً } فجأة يقال : بَغَتَه إذا دهمه على حين غفلة { يَغْشَاهُمُ } يجللهم ويغطيهم من فوقهم ، والغشاء : الغطاء { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ } بوَّأه : أنزله في المكان على وجه الإِقامة { غُرَفَاً } منازل رفيعة عالية في الجنة { يُؤْفَكُونَ } يُصرفون عن الحق إلى الباطل { يَبْسُطُ } يوسّع { وَيَقْدِرُ } يضيق { مَثْوًى } المكان اليذي يقيم فيه الإِنسان . سَبَبُ النّزول : عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤمنين بالهجرة حين آذاهم المشركون فقال لهم : اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ، ولا تجاوروا الظلمة ، قالوا : ليس لنا بها دار ولا عقار ، ولا من يطعمنا ولا من يسقينا فنزلت { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ … } الآية . التفسِير : { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي لا تدعو أهل الكتاب إلى الإِسلام وتناقشوهم في أَمر الدين إلا بالطريقة الحسنى كالدعاء إلى الله بآياته ، والتنبيه على حججه وبيناته { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } أي إلا من كان ظالماً ، محارباً لكم ، مجاهداً في عداوتكم ، فجادلوهم بالغلظة والشدة قال الإِمام الفخر : إن المشرك لما جاء بالمنكر الفظيع كان اللائق أن يُجادل بالأخشن ، ويُبالغ في توهين شبهه وتهجين مذهبه ، وأما أهل الكتاب فإنهم آمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام ، فلمقابلة إحسانهم يُجادلون بالأحسن إلا الذين ظلموا منهم بإثبات الولد لله ، والقول بثالث ثلاثة فإنهم يُجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم ، وتبيين جهالتهم { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } أي وقولوا لهم : آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا وبالتوراة والإِنجيل التي أنزلت إليكم ، قال أبو هريرة : " كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } " { وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي ربنا وربكم واحد لا شريك له في الألوهية ، ونحن له مطيعون ، مستسلمون لحكمه وأمره { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } أي وكما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد أنزلناه عليك { فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي فالذين أعطيناهم الكتاب كعبد الله ابن سلام وأمثاله ممن أسلم من اليهود والنصارى يؤمنون بالقرآن { وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ } أي ومن أهل مكة من يؤمن بالقرآن كذلك { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ } أي وما يكذب بآياتنا وينكرها مع ظهورها وقيام الحجة عليها إلا المتوغلون في الكفر ، المصرّون على العناد قال قتادة : وإنما يكون الجحود بعد المعرفة { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } أي وما كنتَ يا محمد تعرف القراءة ولا الكتابة قبل نزول هذا القرآن لأنك أميٌ قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ شيئاً ولا يكتب { إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } أي لو كنت تقرأ أو تكتب إذاً لشك الكفار في القرآن وقالوا ؛ لعله التقطه من كتب الأوائل ونسبه إلى الله ، والآيةُ احتجاجٌ على أن القرآن من عند الله ، لأنه النبي أميّ وجاءهم بهذا الكتاب المعجز ، المتضمن لأخبار الأمم السابقة ، والأمور الغيبية ، وذلك أكبر برهان على صدقه صلى الله عليه وسلم قال ابن كثير : المعنى قد لبثت في قومك يا محمد - من قبل أن تأتي بهذا القرآن - عمراً لا تقرأ كتاباً ، ولا تحسن الكتابة ، بل كل أحد من قومك يعرف أنك أميٌ لا تقرأ ولا تكتب ، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة ، ولا يخط حرفاً ولا سطراً بيده ، بل كان له كتَّاب يكتبون له الوحي { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } { بَلْ } للإِضراب أي ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون بل هو آياتٌ واضحاتُ الإِعجاز ، ساطعات الدلالة على أنها من عند الله ، محفوظة في صدور العلماء ، قال المفسرون : من خصائص القرآن العظيم أنَّ الله حفظه من التبديل والتغيير بطريقين : الأول : الحفظُ في السطور ، والثاني : الحفظُ في الصدور ، بخلاف غيره من الكتب فإنها مسطّرة لديهم غير محفوظة في صدورهم ولهذا دخلها التحريف ، وقد جاء في صفة هذه الأمة " أناجيلُهم في صدروهم " وقال الحسن : أُعطيت هذه الأمة الحفظ ، وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم إلا نظراً ، فإذا أطبقوه لم يحفظ ما فيه إلا النبيّون { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ } أي وما يكذب بها إلا المتجاوزون الحد في الكفر والعناد { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ } أي وقال كفار مكة : هلاَّ أُنزل على محمد آيات خارقة من ربه تدل على صدقه مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى ! ! { قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِندَ ٱللَّهِ } أي قل لهم يا محمد : إنما أمر هذه الخوارق والمعجزات لله وليست بيدي ، إن شاء أرسلها ، وإن شاء منعها ، وليس لأحدٍ دخلٌ فيها { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي وإنما أنا منذر أخوفكم عذاب الله ، وليس من شأني أن آتي بالآيات { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } ؟ الاستفهام للتوبيخ أي أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي لا يزال يقرع أسماعهم ؟ وكيف يطلبون آيةً والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة نبوتك ؟ قال ابن كثير : بيَّن تعالى كثرة جهلهم ، وسخافة عقلهم ، حيث طلبوا آياتٍ تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الذي هو أعظم من كل معجزة ، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته ، بل عن معارضة سورة منه ، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وأنت رجلٌ أميٌ لا تقرأ ولا تكتب ، وجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ؟ ولهذا قال بعده { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي إن في إنزال هذا القرآن لنعمةً عظيمة على العباد بإنقاذهم من الضلالة ، وتذكرة بليغة لقوم غرضهم الإِيمان لا التعنت { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي قل لهم : كفى أن يكون الله جلَّ وعلا شاهداً على صدقي ، يشهد لي أني رسولُه { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد ، فلو كنتُ كاذباً عليه لانتقم مني { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي والذين آمنوا بالأوثان وكفروا بالرحمن ، أولئك هم الكاملون في الخسران حيث اشتروا الكفر بالإِيمان { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } أي يستعجلك يا محمد المشركون بالعذاب يقولون { أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الأنفال : 32 ] وهو استعجال على جهة التكذيب والاستهزاء { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي لولا أن الله قدَّر لعذابهم وهلاكهم وقتاً محدوداً لجاءهم العذاب حين طلبوه { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي وليأتينهم فجأة وهم ساهون لاهون لا يشعرون بوقت مجيئه { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } تعجبٌ من قلة فطنتهم ومن تعنتهم وعنادهم والمعنى : كيف يستعجلون العذاب والحال أن جهنم محيطةٌ بهم يوم القيامة كإحاطة السوار بالمعصم ، لا مفرَّ لهم منها ؟ ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم بهم فقال { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي يوم يجللهم العذاب ويحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم ، ومن جميع جهاتهم { وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي ويقول الله عز وجل لهم : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا من الاستهزاء والإِجرام ، وسيء الأعمال ، ثم لما بيَّن تعالى حال المكذبين الجاحدين ، أعقبه بذكر حال الأبرار المتقين فقال { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } خطابُ تشريفٍ للتحريض على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام أي يا من شرفكم الله بالعبودية له هاجروا من مكة إن كنتم في ضيق من إظهار الإِيمان فيها ، ولا تجاوروا الظلمة فأرضُ الله واسعة قال مقاتل : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة { فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ } أي فخصوني بالعبادة ولا تعبدوا أحداً سواي { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي أينما كنتم يدرككم الموتُ ، فكونوا دائماً وأبداً في طاعة الله ، وحيث أُمرتم فهاجروا فإن الموت لا بدَّ منه ولا محيد عنه ، ثم إلى الله المرجع والمآب { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين إخلاص العقيدة وإخلاص العمل { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً } أي لننزلنَّهم أعالي الجنة ولنسكننهم منازل رفيعة فيها { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهار الجنة { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها إلى غير نهاية لا يخرجون منها أبداً { نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } أي نعمت تلك المساكن العالية في جناتِ النعيم أجراً للعاملين { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } هذا بيانٌ للعاملين أي هم الذين صبروا على تحمل المشاقّ من الهجرة والأذى في سبيل الله ، وعلى ربهم يعتمدون في جميع أمورهم قال في البحر : وهذان جماع الخير كله : الصبر ، وتفويض الأمر إليه تعالى { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي كم من دابة ضعيفة لا تقدر على كسب رزقها ولكنَّ الله يرزقها مع ضعفها { ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي الله تعالى يرزقها كما يرزقكم ، وقد تكفل برزق جميع الخلق ، فلا تخافوا الفقر إن هاجرتم ، فالرازق هو الله قال في التسهيل : والقصدُ بالآية التقوية لقلوب المؤمنين إذا خافوا الفقر والجوع في الهجرة من أوطانهم ، فكما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا هاجرتم من بلدكم { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي هو السميع لأقوالكم ، العليمُ بأحوالكم ، ثم عاد الحديث إلى توبيخ المشركين في عبادة غير الله فقال { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } أي ولئن سألت المشركين من خلق العالم العلوي والسفلي وما فيهما من العجائب والغرائب ؟ ومن ذلَّل الشمس والقمر وسخرهما لمصالح العباد يجريان بنظام دقيق ؟ ليقولون : الله خالق ذلك { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي فكيف يُصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك ؟ { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي هو جلَّ وعلا الخالق وهو الرازق ، يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده امتحاناً ، ويضيّق الرزق على من يشاء ابتلاءً ، ليظهر الشاكر والصابر { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي إنه تعالى واسع العلم يفعل ما تقتضيه الحكمة والمصلحة { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } توبيخٌ آخر وإقامة حجة أخرى عليهم أي ولئن سألت المشركين من الذي أنزل المطر من السماء فأخرج به أنواع الزروع والثمار بعد جدب الأرض ويبسها ؟ ليقولون : الله فاعلُ ذلك { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي قل يا محمد : حمداً لله على ظهور الحجة ، بل أكثرهم لا يعقلون ، حيث يقرون بأن الله هو الخالق الرازق ويعبدون غيره { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } أي وما الحياة في هذه الدنيا إلا غرور ينقضي سريعاً ويزول ، كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ } أي وإن الآخرة لهي دار الحياة الحقيقية التي لا موت فيها ولا تنغيص { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لو كان عندهم علم لم يُؤْثروا دار الفناء على دار البقاء ، لأن الدنيا حقيرة لا تزن عند الله جناح بعوضه ، ولقد أحسن من قال @ تأملْ في الوجود بعين فكر ترى الدنيا الدنيَّة كالخيال ومَنْ فيها جميعاً سوف يفنى ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال @@ { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } إقامة حجة ثالثة على المشركين في دعائهم الله عند الشدائد ، ثم يشركون به في حال الرخاء والمعنى إذا ركبوا في السفن وخافوا الغرق دعوا الله مخلصين له الدعاء ، لعلمهم أنه لا يكشف الشدائد عنهم إلاّ هو ، وفي لفظ { مُخْلِصِينَ } ضربٌ من التهكم { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } أي فلما خلَّصهم من أهوال البحر ، ونجاهم إلى جانب البر إذا هم يعودون إلى كفرهم وإشراكهم ، ناسين ربهم الذي أنقذهم من الشدائد والأهوال { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } أمرٌ على وجه التهديد أي فليكفروا بما أعطيناهم من نعمة الإِنجاء من البحر ، وليتمتعوا في هذه الحياة الدنيا بباقي أعمارهم ، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } أي أولم ير هؤلاء الكفار ، رؤية تفكر واعتبار ، أنا جعلنا بلدهم " مكة " حرماً مصوناً عن السلب والنهب ، آمناً أهله من القتل والسبي ، والناسُ حولهم يُسبون ويقتلون ؟ قال الضحاك : { وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } أي يقتل بعضُهم بعضاً ، ويسبي بعضهم بعضاً { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي أفبعد هذه النعم الجليلة يؤمنون بالأوثان ويكفرون بالرحمن ؟ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ } أي لا أحد أظلم ممن عبد غير الله وكذَّب بالقرآن حين جاءه { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } ؟ أي أليس في جهنم مأوى وموضع إقامة للكافرين بآيات الله جزاء افترائهم وكفرهم ؟ { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي والذين جاهدوا النفس والشيطان والهوى والكفرة أعداء الدين ابتغاء مرضاتنا لنهدينهم طريق السير إلينا { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي مع المؤمنين بالنصر والعون . البّلاَغَة : تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التحضيض { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ } . 2 - الطباق { آمَنُواْ بِٱلْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ } . 3 - إفادة القصر { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي لا غيرهم . 4 - الإِطناب بذكر العذاب مراتٍ للتشنيع على المشركين { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ } { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ } الخ . 5 - الإِضافة للتشريف والتكريم { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } . 6 - الطباق { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ … وَيَقْدِرُ } ومثله { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } . 7 - المجاز العقلي { حَرَماً آمِناً } أي آمناً أهله . 8 - التشبيه البليغ { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } أي كاللهو وكاللعب حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً على حد قولهم : " زيدٌ أسد " . 9 - الإِيجاز بحذف جواب الشرط لدلالة السياق عليه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لو كانوا يعلمون لما آثروا الدنيا على الآخرة ، ولا الفانية على الباقية . 10 - مراعاة الفواصل لما لها من وقع عظيم على السمع يزيد الكلام رونقاً وجمالاً مثل { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } الخ . تنبيه : لا ينبغي لمسلمٍ أن يبقى بأرض لا يتيسر له فيها عبادة الله ، فأرض الله واسعة ، وقد أشارت الآيات إلى وجوب الهجرة إلى دار الإِسلام وكما قيل " وكل مكان يُنبت العزَّ طيّب " .