Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 169-180)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنََاسَبَة : لا تزال الآيات الكريمة تتابع أحداث أُحد ، وتكشف عن أسرار المنافقين ومواقفهم المخزية ، وتوضّح الدروس والعبر من تلك الغزوة المجيدة . اللغَة : { يَسْتَبْشِرُونَ } يفرحون وأصله من البشرة لأن الإِنسان إِذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه قال ابن عطية : وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة وإِنما هي بمعنى الفعل المجرد كقوله تعالى { وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } [ التغابن : 6 ] { ٱلْقَرْحُ } بالفتح الجرح وبالضم ألم الجرح وقد تقدم { حَسْبُنَا } كافينا مأخوذ من الإِحساب بمعنى الكفاية قال الشاعر : @ فتملأُ بيتنا أقْطاً وسَمْناً وحسبُك من غنىً شِبَعٌ ورِيُّ @@ { حَظّاً } الحظ : النصيب ويستعمل في الخير والشر وإِذا لم يقيّد يكون للخير { نُمْلِي } الإِملاء : التأخير والإِمهال قال القرطبي : والمراد بالإِملاء هنا طول العمر ورغد العيش { يَمِيزَ } يُميِّز يقال : ماز وميّز أي فصل الشيء من الشيء ومنه { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] { يَجْتَبِي } يختار { سَيُطَوَّقُونَ } من الطّوق وهو القلادة أي يلزمون به لزوم الطوق في العنق . سَبَبُ النّزول : أ - عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لمّا أصيب إِخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طيرٍ خضرٍ ، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إِلى قناديل من ذهب معلقةً في ظلّ العرش ، فلما وجدوا طيب مأْكلهم ومَشْربهم ومَقِيلهم قالوا : من يبلّغ إِخواننا عنا أنّا أحياءٌ في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكُلوا عند الحرب فقال الله سبحانه : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً } " الآية . ب - عن جابر بن عبد الله قال : " لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا جابر : ما لي أراك منكساً مُهتماً ؟ قلت يا رسول الله : استُشْهد أبي وترك عيالاً وعليه دين فقال : ألا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : إِن الله أحيا أباك وكلّمه كفاحاً - وما كلّم أحداً قط إِلا من وراء حجاب - فقال له : يا عبد الله تمنَّ أعطك قال يا رب : أسألك أن تردني الى الدنيا فأُقتل فيك ثانية فقال الرب تبارك وتعالى : إِنه قد سبق مني أنهم إِليها لا يرجعون ، قال يا رب : فأبلغ من ورائي فأنزل الله { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً } " . التفسِير : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً } أي لا تظنَّن الذين استشهدوا في سبيل الله لإِعلاء دينه أمواتاً لا يُحسّون ولا يتنعمون { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } أي بل هم أحياء متنعمون في جنان الخلد يرزقون من نعيمها غدواً وعشياً قال الواحدي : الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم يُرزقون ويأكلون ويتنعمون { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي هم منعّمون في الجنة فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } أي يستبشرون بإِخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا في الجهاد بما سيكونون عليه بعد الموت إِن استشهدوا فهم لذلك فرحون مستبشرون { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي بأنْ لا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا لأنهم في جنات النعيم { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِين } أكّد استبشارهم ليذكر ما تعلّق به من النعمة والفضل والمعنى : يفرحون بما حباهم الله تعالى من عظيم كرامته وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب ، فالنعمة ما استحقوه بطاعتهم ، والفضلُ ما زادهم من المضاعفة في الأجر { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ } أي الذين أطاعوا الله وأطاعوا الرسول من بعد ما نالهم الجراح يوم أُحد قال ابن كثير : وهذا كان يوم " حمراء الأسد " وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرّوا راجعين إِلى بلادهم ثم ندموا لم لا تمّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إِلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أنّ بهم قوة وجَلَداً ، ولم يأذن لأحدٍ سوى من حضر أحداً فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإِثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم . { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي لمن أطاع منهم أمر الرسول وأجابه إِلى الغزو - على ما به من جراح وشدائد - الأجرُ العظيم والثوابُ الجزيل { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } أي الذين أرجف لهم المرجفون من أنصار المشركين فقالوا لهم : إِن قريشاً قد جمعت لكم جموعاً لا تحصى فخافوا على أنفسكم فما زادهم هذا التخويف إِلا إِيماناً { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } أي قال المؤمنون الله كافينا وحافظنا ومتولي أمرنا ونعم الملجأ والنصير لمن توكل عليه جل وعلا { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ } أي فرجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر والثواب { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } أي لم ينلهم مكروه أو أذى { وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ٱللَّهِ } أي نالوا رضوان الله الذي هو سبيل السعادة في الدارين { وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } أي ذو إِحسان عظيم على العباد { إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أي إِنما ذلكم القائل { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } بقصد تثبيط العزائم هو الشيطان يخوفكم أولياءه وهم الكفار لترهبوهم { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي فلا تخافوهم ولا ترهبوهم فإِني متكفل لكم بالنصر عليهم ، ولكن خافوا إن كنتم مؤمنين حقاً أن تعصوا أمري فتهلكوا ، والمراد بالشيطان " نعيم ابن مسعود الأَشجعي " الذي أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين ، قال أبو حيان : وإِنما نسب إِلى الشيطان لأنه ناشيء عن وسوسته وإِغوائه وإِلقائه { وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن ولا تتألم يا محمد لأولئك المنافقين الذين يبادرون نحو الكفر بأقوالهم وأفعالهم ، ولا تبال بما يظهر منهم من آثار الكيد للإِسلام وأهله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً } أي إِنهم بكفرهم لن يضروا الله شيئاً وإِنما يضرون أنفسهم { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ } أي يريد تعالى بحكمته ومشيئته ألاّ يجعل لهم نصيباً من الثواب في الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي ولهم فوق الحرمان من الثواب عذاب عظيم في نار جهنم { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي الذين استبدلوا الكفر بالإِيمان وهم المنافقون المذكورون قبل ، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم ولهم عذاب مؤلم { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } أي لا يظنَّن الكافرون أن إِمهالنا لهم بدون جزاء وعذاب ، وإِطالتنا لأعمارهم خير لهم { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } أي إِنما نمهلهم ونؤخر آجالهم ليكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي ولهم في الآخرة عذاب يهينهم { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } هذا وعدٌ من الله لرسوله بأنه سيميّز له المؤمن من المنافق والمعنى لن يترك الله المؤمنين مختلطين بالمنافقين حتى يبتليهم فيفصل بين هؤلاء وهؤلاء ، كما فعل في غزوة أُحد حيث ظهر أهل الإِيمان وأهل النفاق قال ابن كثير " أي لا بدّ أن يعقد شيئاً من المحنة يظهر فيها وليُّه ويُفضح بها عدوه ، يُعرف به المؤمن الصابر من المنافق الفاجر ، كما ميّز بينهم يوم أُحد " . { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } قال الطبري : وأولى الأقوال بتأويله : أي وما كان الله ليطلعكم على قلوب عباده فتعرفوا المؤمن من المنافق والكافر ، ولكنه يميز بينهم بالمحن والإِبتلاء كما ميّز بينهم يوم أُحد بالبأساء وجهاد عدوه { وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } أي يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على غيبه كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على حال المنافقين { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي آمنوا إِيماناً صحيحاً بأن الله وحده المطلع على الغيب وأن ما يخبر به الرسول من أمور الغيب إِنما هو بوحي من الله { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي وإِن تصدّقوا رسلي وتتقوا ربكم بطاعته فلكم ثواب عظيم { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } لما بالغ تعالى في التحريض على بذل النفس في الجهاد شرع هنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله ، وذكر الوعيد الشديد لمن يبخل بماله والمعنى لا يحسبنَّ البخيلُ أن جمعه المال وبخله بإِنفاقه ينفعه ، بل هو مضرّة عليه في دينه ودنياه { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } أي ليس كما يظنون بل ذلك البخلُ شرٌّ لهم { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي سيجعل الله ما بخلوا به طوقاً في أعناقهم يعذبون به يوم القيامة كما جاء في صحيح البخاري " من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع - أي ثعباناً عظيماً - له زبيبتان فيأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ثم تلا صلى الله عليه وسلم { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية { وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } " أي جميع ما في الكون ملك له يعود إِليه بعد فناء خلقه { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي مطلع على أعمالكم . البَلاغَة : قال في البحر : تضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع : الإِطنابُ في { يَسْتَبْشِرُونَ } وفي { لَن يَضُرُّواْ } وفي اسم الجلالة في مواضع ، والطباق في { أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ } وفي { ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ } والاستعارة في { ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ } وفي { يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } وفي { ٱلْخَبِيثَ وَٱلطَّيِّبِ } إِذ يراد به المؤمن والمنافق والحذف في مواضع . فَائِدَة : قوله تعالى { حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } هي الكلمة التي قالها إِبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار قال السيوطي في الإِكليل : يستحب قول هذه الكلمة عند الغمّ والأمور العظيمة .