Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 159-168)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لا تزال الآيات تتحدث عن غزوة أُحد ، فقد ذكر تعالى فيما سبق انهزام المسلمين وما أصيبوا به من غمّ واضطراب ، وأرشدهم إِلى موطن الداء ووصف لهم الدواء ، وفي هذه الآيات الكريمة اشادة بالقيادة الحكيمة ، فمع مخالفة بعض الصحابة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وسعهم عليه السلام بخلقه الكريم وقلبه الرحيم ، ولم يخاطبهم بالغلظة والشدة وإِنما خاطبهم باللطف واللين ، ولذلك اجتمعت القلوب حول دعوته ، وتوحّدت تحت قيادته ، والآيات تتحدث عن أخلاق النبوة ، وعن المنّة العظمى ببعثة الرسول الرحيم والقائد الحكيم وعن بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة . اللغَة : { فَظّاً } الفظُّ : الغليظ الجافي قال الواحدي هو الغليظ سيئ الخلق قال الشاعر : @ أخشى فظاظة عمٍّ أو جفاء أخٍ وكنتُ أخشى عليها من أذى الكلم @@ { غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ } هو الذي لا يتأثر قلبه ولا يرقّ ومن ذلك قول الشاعر : @ يُبكَى علينا ولا نبكي على أحدٍ ؟ لنحن أغلظُ أكباداً من الإِبل @@ { انْفَضُّواْ } تفرقوا وأصل الفضِّ الكسر ومنه قولهم : لا يفضض الله فاك { يَغُلَّ } الغُلول : الخيانة وأصله أخذ الشيء في الخفية يقال : غلّ فلان في الغنيمة أي أخذ شيئاً منها في خفية { بَآءَ } رجع { سَخَطٍ } السخط : الغضب الشديد { مَأْوَاهُ } منزله ومثواه { يُزَكِّيهِمْ } يطهرهم { مَنَّ } المِنَّة : الإِنعام والإِحسان { فَادْرَءُوا } الدرء : الدفع ومنه { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ } [ النور : 8 ] . سَبَبُ النّزول : فقدت قطيفة حمراء يوم بدر من المغنم فقال بعض الناس لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ … } الآية . التفسِيْر : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } أي فبسبب رحمةٍ من الله أودعها الله في قلبك يا محمد كنت هيناً ليّن الجانب مع أصحابك مع أنهم خالفوا أمرك وعصوك { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أي لو كنت جافي الطبع قاسي القلب ، تعاملهم بالغلظة والجفا ، لتفرقوا عنك ونفروا منك ، ولمّا كانت الفظاظة في الكلام نفى الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } أي فتجاوز عما نالك من أذاهم يا محمد ، واطلب لهم من الله المغفرة ، وشاورهم في جميع أمورك ليقتدي بك الناس قال الحسن " ما شاور قومٌ قط إلاّ هُدوا لأرشد أمورهم " وكان عليه السلام كثير المشاورة لأصحابه { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي إِذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاعتمد على الله وفوّض أمرك إِليه { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ } أي يحب المعتمدين عليه ، المفوضين أمورهم إِليه { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } أي إِن أراد الله نصركم فلا يمكن لأحدٍ أن يغلبكم { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } أي وإِن أراد خذلانكم وترك معونتكم فلا ناصر لكم ، فمهما وقع لكم من النصر كيوم بدر أو من الخذلان كيوم أُحد بمشيئته سبحانه فالأمر كله لله ، بيده العزة والنصرة والإِذلال والخذلان { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي وعلى الله وحده فليلجأ وليعتمد المؤمنون { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي ما صحَّ ولا استقام شرعاً ولا عقلاً لنبيٍّ من الأنبياء أن يخون في الغنيمة ، والنفيُ هنا نفيٌ للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل لأنَّ المراد أنه لا يتأتّى ولا يصحُّ أن يُتصوّر فضلاً عن أن يحصل ويقع { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي ومن يخُن من غنائم المسلمين شيئاً يأت حاملاً له على عنقه يوم القيامة فضيحةً له على رءوس الأشهاد { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي تعطى جزاء ما عملت وافياً غير منقوص { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي تنال جزاءها العادل دون زيادة أو نقص ، فلا يزاد في عقاب العاصي ، ولا ينقص من ثواب المطيع { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي لا يستوي من أطاع الله وطلب رضوانه ، ومن عصى الله فاستحق سخطه وباء بالخسران { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي مصيره ومرجعه جهنم وبئست النار مستقراً له { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ ٱللَّهِ } أي متفاوتون في المنازل قال الطبري : هم مختلفو المنازل عند الله ، فلمن اتبع رضوان الله الكرامةُ والثواب الجزيل ، ولمن باء بسخطٍ من الله المهانةُ والعقاب الأليم { وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي لا تخفى عليه أعمال العباد وسيجازيهم عليها ، ثمَّ ذكّر تعالى المؤمنين بالمنّة العظمى عليهم ببعثة خاتم المرسلين فقال { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي والله لقد أنعم الله على المؤمنين حين أرسل إِليهم رسولاً عربياً من جنسهم ، عرفوا أمره وخبروا شأنه ، وخصَّ تعالى المؤمنين بالذكر وإِن كان رحمة للعالمين ، لأنهم هم المنتفعون ببعثته { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } أي يقرأ عليهم الوحي المنزل { وَيُزَكِّيهِمْ } أي يطهرهم من الذنوب ودنس الأعمال { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } أي يعلمهم القرآن المجيد والسنة المطهرة { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } أي وإِنه الحال والشأن كانوا قبل بعثته في ضلال ظاهر ، فنقلوا من الظلمات إِلى النور ، وصاروا أفضل الأمم { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } أي أو حين أصابتكم أيها المؤمنون كارثةٌ يوم أحد فقُتل منكم سبعون { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } أي في بدر حيث قتلتم سبعين وأسرتم سبعين { قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا } ؟ أي من أين هذا البلاء ، ومن أين جاءتنا الهزيمة وقد وعدنا بالنصر ، وموضع التقريع قولهم { أَنَّىٰ هَـٰذَا } ؟ مع أنهم سبب النكسة والهزيمة { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي قل لهم يا محمد : إِن سبب المصيبة منكم أنتم بمعصيتكم أمر الرسول وحرصكم على الغنيمة { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا رادّ لِقضائه { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي وما أصابكم يوم أُحد ، يوم التقى جمع المسلمين وجمع المشركين فبقضاء الله وقدره وبإِرادته الأزلية وتقديره الحكيم ، ليتميّز المؤمنون عن المنافقين { وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي ليعلم أهل الإِيمان الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ } أي وليعلم أهل النفاق كعبد الله بن أُبي ابن سلول وأصحابه الذين انخذلوا يوم أُحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا وكانوا نحواً من ثلاثمائة رجل فقال لهم المؤمنون : تعالوا قاتلوا المشركين معنا أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } أي قال المنافقون لو نعلم أنكم تلقون حرباً لقاتلنا معكم ، ولكن لا نظن أن يكون قتال { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } أي بإِظهارهم هذا القول صاروا أقرب إِلى الكفر منهم إِلى الإِيمان { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } أي يظهرون خلاف ما يضمرون { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } أي بما يخفونه من النفاق والشرك { ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ } أي وليعلم الله أيضاً المنافقين الذين قالوا لإِخوانهم الذين هم مثلهم وقد قعدوا عن القتال { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } أي لو أطاعنا المؤمنون وسمعوا نصيحتنا فرجعوا كما رجعنا ما قتلوا هنالك { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي قل يا محمد لأولئك المنافقين إن كان عدم الخروج ينجي من الموت فادفعوا الموت عن أنفسكم إِن كنتم صادقين في دعواكم ، والغرض منه التوبيخ والتبكيت وأن الموت آتٍ إِليكم ولو كنتم في بروج مشيدة . البَلاَغَة : 1 - { إِن يَنصُرْكُمُ … وَإِن يَخْذُلْكُمْ } بينهما مقابلة وهي من المحسنات البديعية . 2 - { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ } تقديم الجار والمجرور لإِفادة الحصر . 3 - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي ما صح ولا استقام والنفي هنا للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل . 4 - { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ } قال أبو حيان : " هذا من الاستعارة البديعة جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به ، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئاً فنكص عن اتباعه ورجع بدونه " . 5 - { بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ } التنكير للتهويل أي بسخط عظيم لا يكاد يوصف . 6 - { هُمْ دَرَجَاتٌ } على حذف مضاف أي ذوو درجات متفاوتة ، فالمؤمن درجته مرتفعة والكافر درجته متضعة . 7 - { لِلْكُفْرِ … ولِلإِيمَانِ } بينهما طباق وكذلك بين { يُبْدُونَ … ويُخْفُونَ } [ آل عمران : 154 ] . 8 - { أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } بينهما جناس الاشتقاق ، وهو من المحسنات البديعية . تنبيه : في هذه الآية { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق ، ومن عجيب أمره صلى الله عليه وسلم أنه كان أجمع الناس لدواعي العظمة ثم كان أدناهم إِلى التواضع ، فكان أشرف الناس نسباً وأوفرهم حسباً وأزكاهم عملاً وأسخاهم كرماً وأفصحهم بياناً وكلها من دواعي العظمة ، ثم كان من تواضعه عليه السلام أنه كان يرقع الثوب ويخصف النعل ويركب الحمار ويجلس على الأرض ويجيب دعوة العبد المملوك فصلوات الله وسلامه على السراج المنير بحر المكارم والفضائل . فَائِدَة : التوكل على الله من أعلى المقامات لوجهين : أحدهما محبة الله للعبد { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ } والثاني الضمان في كنف الرحمن { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ آل عمران : 3 ] .