Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 1-9)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { ٱلْحَيُّ } الباقي الدائم الذي لا يفنى ولا يموت { ٱلْقَيُّومُ } القائم على تدبير شئون العباد { يُصَوِّرُكُمْ } التصوير : جعل الشيء على صورة معينة أي يخلقكم كما يريد { ٱلأَرْحَامِ } جمع رحم وهو محل تكوّن الجنين { مُّحْكَمَاتٌ } المحكم : ما كان واضح المعنى قال القرطبي : " المحكم ما عُرف تأويله وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه : ما لم يكن لأحدٍ إِلى علمه سبيل مما استأثر تعالى بعلمه دون خلقه مثل الحروف المقطعة في أوائل السور ، هذا أحسن ما قيل فيه " { أُمُّ ٱلْكِتَابِ } أصل الكتاب وأساسه وعموده { زَيْغٌ } ميلٌ عن الحق يقال : زاغ زيغاً أي مال ميلاً { تَأْوِيلِهِ } التأويل : التفسير وأصله المرجع والمصير من قولهم آل الأمر إِلى كذا إذا صار إِليه { وَٱلرَّاسِخُونَ } الرسوخ : الثبوت في الشيء والتمكن منه قال الشاعر : @ لقد رسخت في القلب مني مودّة لليلى أبت أيامُها أن تغَيّرا @@ سَبَبُ النّزول : نزلت هذه الآيات في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثةً منهم أكابرهم " عبد المسيح " أميرهم و " الأيهم " مشيرهم و " أبو حارثة بن علقمة " حبرُهم ، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه فقالوا تارةً عيسى هو " الله " لأنه كان يحيي الموتى ، وتارةً هو " ابن الله " إِذ لم يكن له أب ، وتارة إِنه " ثالث ثلاثة " لقوله تعالى " فعلنا وقلنا " ولو كان واحداً لقال " فعلتُ وقلتُ " فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت وأن عيسى يموت ! ! قالوا : بلى ، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إِلا ويشبه أباه ! ! قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك ؟ قالوا : لا ، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إِلا ما علم ؟ قالوا : لا ، قال ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وأن عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ! ! قالوا بلى فقال صلى الله عليه وسلم فكيف يكون كما زعمتم ؟ فسكتوا وأبوا إِلا الجحود فأنزل الله من أول السورة إِلى نيفٍ وثمانين آية . التفسِير : { الۤمۤ } إِشارة إِلى إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية وقد تقدّم في أول البقرة { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا ربَّ سواه ولا معبود بحقٍ غيره { ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } أي الباقي الدائم الذي لا يموت ، القائم على تدبير شئون عباده { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } أي نزّل عليك يا محمد القرآن بالحجج والبراهين القاطعة { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المنزّلة قبله المطابقة لما جاء به القرآن { وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ } أي أنزل الكتابين العظيمين " التوراة " و " الإِنجيل " من قبل إِنزال هذا القرآن هداية لبني إِسرائيل { وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ } أي جنس الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وقيل : المراد بالفرقان القرآنُ وكرّر تعظيماً لشأنه { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي جحدوا بها وأنكروها وردّوها بالباطل { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي عظيم أليم في الآخرة { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } أي غالب على أمره لا يُغلب ، منتقم ممن عصاه { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } أي لا يغيب ولا يغرب عن علمه أمرٌ من الأمور ، فهو مطَّلع على كل ما في الكون لا تخفى عليه خافية { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } أي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكرٍ وأنثى ، وحَسن وقبيح { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي لا ربّ سواه ، متفردٌ بالوحدانية والألوهية ، العزيز في ملكه الحكيم في صنعه ، وفي الآية ردٌّ على النصارى حيث ادعوا ألوهية عيسى فنبّه تعالى بكونه مصوّراً في الرحم ، وأنه لا يعلم الغيب على أنه عبد كغيره من العباد { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } أي أنزل عليك يا محمد القرآن العظيم { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } أي فيه آيات بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها ولا غموض كآيات الحلال والحرام ، هنَّ أصل الكتاب وأساسه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أي وفيه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس ، فمن ردّ المتشابه إِلى الواضح المحكم فقد اهتدى ، وإِن عكس فقد ضلّ ولهذا قال تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } أي فأمّا من كان في قلبه ميلٌ عن الهدى إِلى الضلال فيتبع المتشابه منه ويفسّره على حسب هواه { ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } أي طلباً لفتنة الناس في دينهم ، وإِيهاماً للأتباع بأنهم يبتغون تفسير كلام الله ، كما فعل النصارى الضالون حيث احتجوا بقوله تعالى في شأن عيسى { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ النساء : 171 ] على أن عيسى ابن الله أو هو جزء من الله فادعوا ألوهيته وتركوا المحكم وهو قوله تعالى { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [ الزخرف : 59 ] الدالّ على أنه عبد من عباد الله ورسول من رسله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي لا يعلم تفسير المتشابه ومعناه الحقيقي إِلا الله وحده { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي الثابتون المتمكنون من العلم يؤمنون بالمتشابه وأنه من عند الله { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } أي كلٌ من المتشابه والمحكم حقٌ وصدق لأنه كلام الله ، قال تعالى { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي ما يتعظ ويتدبر إِلا أصحاب العقول السليمة المستنيرة { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } أي لا تُمِلْها عن الحق ولا تضلّنا { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } أي بعد أن هديتنا إِلى دينك القويم وشرعك المستقيم { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً } أي امنحنا من فضلك وكرمك رحمةً تثبتنا بها على دينك الحق { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } أي أنت يا رب المتفضل على عبادك بالعطاء والإِحسان { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي جامع الخلائق في ذلك اليوم الرهيب " يوم الحساب " الذي لا شك فيه { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } أي وعدك حق وأنت يا رب لا تخلف الموعد ، كقوله تعالى { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً } [ النساء : 87 ] ؟ ! البَلاَغَة : 1 - { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } عبّر عن القرآن بالكتاب الذي هو اسم جنس إِيذاناً بكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب . 2 - { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } كناية عمّا تقدمه وسبقه من الكتب السماوية فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره . 3 - { وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ } أي أنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل فهو من باب عطف العام على الخاص حيث ذكر أولاً الكتب الثلاثة ثم عمَّ الكتب كلها لإِفادة الشمول مع العناية بالخاص . 4 - { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } قال الشريف الرضي : هذه استعارة والمراد بها أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله فهي بمنزلة الأم له ، وكأنَّ سائر القرآن يتبعها أو يتعلق بها كما يتعلق الولد بأمه ويفزع إِليها في مهمه . 5 - { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } وهذه استعارة والمراد بها المتمكنون في العلم تشبيهاً برسوخ الشىء الثقيل في الأرض الخوَّارة وهو أبلغ من قوله والثابتون في العلم . الفوَائِد : الأولى : روى مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } الآية ثم قال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّاهم الله فاحذروهم " . الثانية : قال القرطبي : أحسن ما قيل في المتشابه والمحكم : أنَّ المحكم ما عُرف تأويله وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه ولم يكن لأحدٍ إِلى علمه سبيل ، قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج الدجال ، وعيسى ، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور . الثالثة : آيات القرآن قسمان : محكمات ومتشابهات كما دلت عليه الآية الكريمة ، فإِن قيل : كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية وبين ما جاء في سورة هود أن القرآن كلَّه محكمٌ { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ الآية : 1 ] وما جاء في الزمر أن القرآن كلَّه متشابهٌ { نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [ الآية : 23 ] ؟ ! فالجواب أنه لا تعارض بين الآيات إذ كل آية لها معنى خاص غير ما نحن في صدده فقوله { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] بمعنى أنه ليس به عيب ، وأنه كلامٌ حقٌ فصيح الألفاظ ، صحيح المعاني وقوله { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [ الزمر : 23 ] بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحُسن ويصدق بعضه بعضاً ، فلا تعارض بين الآيات . الرابعة : روى البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس : إِني أجد في القرآن أشياءَ تختلف عليَّ ، قال : ما هو ؟ قال قوله تعالى : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] وقال : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] وقال تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] وقال { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فقد كتموا في هذه الآية ، وفي النازعات ذكرَ خلق السماء قبل خلق الأرض ، وفي فصِّلت ذَكَر خلق الأرض قبل خلق السماء ، وقال : { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 158 ] { وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [ النساء : 134 ] فكأنه كان ثم مضى … فقال ابن عباس : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ } [ المؤمنون : 101 ] في النفخة الأولى { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [ الزمر : 68 ] فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، وأما قوله { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] فإٍِن الله يغفر لأهل الإِخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول : لم نكن مشركين ، فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك عُرف أن الله لا يكتم حديثاً وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، وخلق الله الأرض في يومين ثم استوى إِلى السماء فسواهنَّ سبع سماوات في يومين ، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين فذلك قوله { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] فخلقت الأرض وما فيها في أربعة ايام وخلقت السماء في يومين ، وقوله { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] فسمّى نفسه ذلك أي لم يزل ولا يزال كذلك ، ويحكَ فلا يختلف عليك القرآن فإِن كلاً من عند الله .