Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 10-17)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما حكى تعالى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم أن يثبتهم الله على الإِيمان ، حكى عن الكافرين سبب كفرهم وهو اغترارهم في هذه الحياة بكثرة المال والبنين ، وبيّن أنها لن تدفع عنهم عذاب الله ، كما لن تغني عنهم شيئاً في الدنيا ، وضرب على ذلك الأمثال بغزوة بدر حيث التقى فيها جند الرحمن بجند الشيطان ، وكانت النتيجة اندحار الكافرين مع كثرتهم وانتصار المؤمنين مع قلتهم ، فلم تنفعهم الأموال ولا الأولاد ، ثم أعقب تعالى ذلك بذكر شهوات الدنيا ومُتَع الحياة التي يتنافس الناس فيها ، ثم ختمها بالتذكير بأن ما عند الله خيرٌ للأبرار . اللغَة : { تُغْنِيَ } الإِغناء : الدفع والنفع { وَقُودُ ٱلنَّارِ } الوَقود بفتح الواو الحطبُ الذي توقد به النار وبالضم مصدر بمعنى الاتقاد { دَأْبِ } الدأب : العادة والشأن وأصله من دأب الرجل في عمله إِذا جدَّ فيه واجتهد ثم أُطلق الدأب على العادة والشأن لأن من دأب على شيء أمداً طويلاً صار له عادةً { آيَةٌ } علامة { فِئَةٌ } جماعة وسميت الجماعة من الناس فئةً لأنه يُفاء إِليها في وقت الشدة { َعِبْرَةً } العبرة : الاتعاظ ومنه يقال : اعتبر ، واشتقاقها من العبور وهو مجاوزة الشيء إِلى الشيء ومنه عبور النهر ، فالاعتبار انتقال من حالة الجهل إِلى حالة العلم { زُيِّنَ } التزيين : تحسين الشيء وتجميله في عين الإِنسان { ٱلشَّهَوَاتِ } الشهوة : ما تدعو النفس إِليه وتشتهيه والفعل منه اشتهى ويُجمع على شهوات { وَٱلْقَنَاطِيرِ } جمع قنطار وهو العُقدة الكبيرة من المال أو المال الكثير الذي لا يحصى { ٱلْمُقَنْطَرَةِ } المضعَّفة وهو للتأكيد كقولك ألوف مؤلَّفة وأضعاف مضاعفة قاله الطبري ، وروي عن الفراء أنه قال : القناطير جمع القنطار ، والمقنطرة جمع الجمع فيكون تسع قناطير { ٱلْمُسَوَّمَةِ } المعلّمة بعلامة تجعلها حسنة المنظر تجتلب الأنظار وقيل المسوَّمة : الراعية وقال مجاهد وعكرمة : إِنها الخيل المطهّمة الحسان { ٱلْمَآبِ } المرجع يقال : آب الرجل إِياباً ومآباً قال تعالى { إِن إِلينا إِيابهم } { ٱلأَسْحَارِ } السَّحر : الوقت الذي قبل طلوع الفجر . سَبَبُ النّزول : " لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر ، ورجع إِلى المدينة جمع اليهود فقال لهم : يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً فقد عرفتم أني نبيٌ مرسل ، فقالوا يا محمد : لا يغرنّك من نفسك أنك قتلتَ نفراً من قريش كانوا أغماراً - يعني جهالاً - لا علم لهم بالحرب ، إِنك والله لو قاتلتنا لعرفتَ أنا نحن الرجال ، وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } " الآية . التفسِير : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم } أي لن تفيدهم الأموال والأولاد ، ولن تدفع عنهم من عذاب الله في الآخرة { مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي من عذاب الله وأليم عقابه { وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } أي هم حطب جهنم الذي تُسْجر وتوقد به النار { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } أي حال هؤلاء الكفار وشأنهم كحال وشأن آل فرعون ، وصنيعُهم مثلُ صنيعهم { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة كقوم هود وصالح وشعيب { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي كذبوا بالآيات التي تدل على رسالات الرسل { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } أي أهلكهم وعاقبهم بسبب الكفر والمعاصي { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي أليم العذاب شديد البطش ، والغرض من الآية أن كفار قريش كفروا كما كفر أولئك المعاندون من آل فرعون ومن سبقهم ، فكما لم تنفع أولئك أموالهم ولا أولادهم فكذلك لن تنفع هؤلاء . { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي قل يا محمد لليهود ولجميع الكفار { سَتُغْلَبُونَ } أي تُهزمون في الدنيا { وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ } أي تُجمعون وتساقون إِلى جهنم { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي بئس المهاد والفراش الذي تمتهدونه نار جهنم { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } أي قد كان لكم يا معشر اليهود عظة وعبرة { فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا } أي في طائفتين التقتا للقتال يوم بدر { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي طائفةٌ مؤمنة تقاتل لإِعلاء دين الله { وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ } أي وطائفة أخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت وهم كفار قريش { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } أي يرى الكافرون المؤمنين أكثر منهم مرتين { رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } أي رؤية ظاهرةً مكشوفة بالعين المجردة لا بالوهم والخيال ، وقيل : المراد يرى المؤمنون الكافرين ضعفيهم في العدد ، وذلك أن الله أكثر المؤمنين في أعين الكافرين ليرهبوهم ويجبنوا عن قتالهم ، والقول الأول اختيار ابن جرير وهو الأظهر لقوله تعالى { رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } أي رؤية حقيقية لا بالخيال { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } أي يقوّي بنصره من يشاء { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً } أي لآية وموعظة { لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } أي لذوي العقول السليمة والأفكار المستقيمة . ومغزى الآية أن القوة المادية ليست كل شيء ، وأن النصر لا يكون بكثرة العَدد والعتاد ، وإِنما يكون بمعونة الله وتأييده كقوله { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } [ آل عمران : 160 ] ثم أخبر تعالى عن اغترار الناس بشهوات الحياة الفانية فقال { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ } أي حُسِّن إِليهم وحُبّب إِلى نفوسهم الميل نحو الشهوات ، وبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد ، والإِلتذاذ بهن أكثر وفي الحديث " ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء " ثم ذكر ما يتولد منهن فقال { وَٱلْبَنِينَ } وإِنما ثنّى بالبنين لأنهم ثمرات القلوب وقرة الأعين كما قال القائل : @ وإِنما أولادنا بيننا أكبادُنا تمشي على الأرض لو هبَّت الريح على بعضهم لامتنعتْ عيني عن الغَمْض @@ وقُدّموا على الأموال لأن حب الإِنسان لولده أكثر من حبه لماله { وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ } أي الأموال الكثيرة المكدَّسة من الذهب والفضة ، وإِنما كان المال محبوباً لأنه يحصل به غالب الشهوات ، والمرء يرتكب الأخطار في تحصيله { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [ الفجر : 2 ] والذهب والفضة أصل التعامل ولذا خُصَّا بالذكر { وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ } أي الأصيلة الحسان { وَٱلأَنْعَامِ } أي الإِبل والبقر والغنم فمنها المركب والمطعم والزينة { وَٱلْحَرْثِ } أي الزرع والغراس لأن فيه تحصيل أقواتهم { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي إِنما هذه الشهوات زهرة الحياة الدنيا وزينتُها الفانية الزائلة { وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } أي حسن المرجع والثواب { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } أي قل يا محمد أأخبركم بخيرٍ ممّا زُيِّن للناس من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها الزائل ؟ والاستفهام للتقرير { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي للمتقين يوم القيامة جناتٌ فسيحات تجري من خلال جوانبها وأرجائها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبد الآباد { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي منزهةٌ عن الدنس والخبث ، الحسي والمعنوي ، لا يتغوَّطن ولا يتبولن ولا يحضن ولا ينفسن ، ولا يعتريهن ما يعتري نساء الدنيا { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ } أي ولهم مع ذلك النعيم رضوانٌ من الله وأيُّ رضوان ، وقد جاء في الحديث " أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } أي عليم بأحوال العباد يعطي كلاً بحسب ما يستحقه من العطاء . ثم بيّن تعالى صفات هؤلاء المتقين الذين أكرمهم بالخلود في دار النعيم فقال { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا } أي آمنا بك وبكتبك ورسلك { فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } أي اغفر لنا بفضلك ورحمتك ذنوبنا ونجنا من عذاب النار { ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ } أي الصابرين على البأساء والضراء ، والصادقين في إِيمانهم وعند اللقاء ، والمطيعين لله في الشدة والرخاء { وَٱلْمُنْفِقِينَ } أي الذين يبذلون أموالهم في وجوه الخير { وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } أي وقت السحر قُبيل طلوع الفجر . البَلاَغَة : { مِّنَ ٱللَّهِ } فيه إِيجاز بالحذف أي من عذاب الله { شَيْئاً } التنكير للتقليل أي لن تنفعهم أيّ نفع ولو قليلاً { وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } الجملة إِسمية للدلالة على ثبوت الأمر وتحققه { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ } فيه التفات من الغيبة إِلى الحاضر والأصل فأخذناهم { لَكُمْ آيَةٌ } الأصل " آيةٌ لكم " وقدّم للإِعتناء بالمقدم والتشويق إِلى المؤخر ، والتنكير في آية للتفخيم والتهويل أي آية عظيمة ومثله التنكير في { رِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ } وقوله تعالى { يَرَوْنَهُمْ } و { رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } بينهما جناس الاشتقاق { حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ } يراد به المشتهيات قال الزمخشري : عبَّر بالشهوات مبالغة كأنها نفس الشهوات ، وتنبيهاً على خستها لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء { بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } إِبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق لمعرفته { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ } قال أبو السعود : التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضمير المتقين لإِظهار مزيد اللطف بهم { وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ } بينهما من المحسنات البديعية ما يسمى بالجناس الناقص . فَائِدَة : الأولى : من هو المزيّن للشهوات ؟ قيل : هو الشيطان ويدل عليه قوله تعالى { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } [ النمل : 24 ] وتزيين الشيطان : وسوسته وتحسينه الميل إِليها وقيل : المزيّن هو الله ويدل عليه { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] وتزيين الله للابتلاء ليظهر عبد الشهوة من عبد المولى وهو ظاهر قول عمر : " اللهم لا صبر لنا على ما زينتَ لنا إِلا بك " . الثانية : تخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إِلى الإجابة ، لأن النفس أصفى ، والروح أجمع ، والعبادة أشق فكانت أقرب إِلى القبول ، قال ابن كثير : كان عبد الله بن عمر يصلى من الليل ثم يقول يا نافع : هل جاء السحر ؟ فإِذا قال نعم أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح .