Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 81-91)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لمّا ذكر تعالى خيانة أهل الكتاب بتحريفهم كلام الله عن مواضعه ، وتغييرهم أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجودة في كتبهم حتى لا يؤمنوا به ، ذكر تعالى هنا ما تقوم به الحجة عليهم وهو أن الله قد أخذ الميثاق على أنبيائهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إِن أدركوا حياته ، وأن يكونوا من أتباعه وأنصاره ، فإِذا كان الأنبياء قد أخذ عليهم العهد أن يؤمنوا به ويبشروا بمبعثه فكيف يصح من أتباعهم التكذيب برسالته ؟ ثم ذكر تعالى أن الإِيمان بجميع الرسل شرط لصحة الإِيمان وبيَّن أن الإِسلام هو الدين الحق الذي لا يقبل الله ديناً سواه . اللغَة : { مِيثَاقَ } الميثاق : العهد المؤكد بيمين ونحوه وقد تقدم { إِصْرِي } عهدى وأصله في اللغة الثقل قال الزمخشري : وسمي إِصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد { ٱلْفَاسِقُونَ } الخارجون عن طاعة الله { طَوْعاً } انقياداً عن رغبة { وَكَرْهاً } إِجباراً وهو كاره { ٱلأَسْبَاطِ } جمع سبط وهو ابن الإِبن والمراد به هنا قبائل بني إِسرائيل من أولاد يعقوب { يُنظَرُونَ } يمهلون يقال : أنظره يعني أمهله والنظرة الإِمهال { ٱلْخَاسِرِينَ } الخسران : انتقاص رأس المال يقال : خسر فلان أي أضاع من رأس ماله { ٱلضَّآلُّونَ } التائهون في مهامه الكفر . سَبَبُ النّزول : عن ابن عباس قال : ارتد رجل من الأنصار عن الإِسلام ولحق بالشرك ثم ندم ، فأرسل إِلى قومه : سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة فإِني قد ندمت ؟ فنزلت الآية { كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ … إلى قوله إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فكتب بها قومه إِليه فرجع فأسلم . التفسِير : { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } أي اذكروا يا أهل الكتاب حين أخذ الله العهد المؤكد على النبيّين { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } أي لمن أجل ما آتيتكم من الكتاب والحكمة قال الطبري : المعنى لمهْما آتيتكم أيها النبيّون من كتاب وحكمة { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } أي ثم جاءكم رسول من عندي بكتاب مصدق لما بين أيديكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } أي لتصدقنه ولتنصرنه ، قال ابن عباس : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إِلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمننَّ به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي } أي أأقررتم واعترفتم بهذا الميثاق وأخذتم عليه عهدي ؟ { قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا } أي اعترفنا { قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } أي اشهدوا على أنفسكم وأتباعكم وأنا من الشاهدين عليكم وعليهم { فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ } أي أعرض ونكث عهده { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } أي هم الخارجون عن طاعة الله { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ } الهمزة للإِنكار التوبيخي أي أيبتغي أهل الكتاب ديناً غير الإِسلام الذي أرسل الله به رسله ؟ { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي ولله استسلم وانقاد وخضع أهل السماوات والأرض { طَوْعاً وَكَرْهاً } أي طائعين ومكرهين قال قتادة : المؤمن أسلم طائعاً والكافر أسلم كارهاً حين لا ينفعه ذلك قال ابن كثير : فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله طوعاً ، والكافر مستسلم لله كرهاً فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يُخالف ولا يُمانع { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله { قُلْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } أي قل يا محمد أنت وأمتك آمنا بالله وبالقرآن المنزل علينا { وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاط } أي آمنا بما أنزل على هؤلاء من الصحف والوحي ، والأسباطُ هم بطون بني إِسرائيل المتشعبة من أولاد يعقوب { ِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ } أي من التوراة والإِنجيل { وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } أي وما أنزل على الأنبياء جميعهم { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } أي لا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعل اليهود والنصارى بل نؤمن بالكل { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي مخلصون في العبادة مقرّون له بالألوهية والربوبية لا نشرك معه أحداً أبداً ، ثم أخبر تعالى بأن كل دين غير الإِسلام باطل ومرفوض فقال { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } أي يطلب شريعة غير شريعة الإِسلام بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ليدين بها فلن يتقبل الله منه { وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي مصيره إِلى النار مخلداً فيها { كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } استفهام للتعجيب والتعظيم لكفرهم أي كيف يستحق الهداية قوم كفروا بعد إِيمانهم { وَشَهِدُوۤاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ } أي بعد أن جاءتهم الشواهد ووضح لهم الحق أن محمداً رسول الله { وَجَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } أي جاءتهم المعجزات والحجج البينات على صدق النبي { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا يوفقهم لطريق السعادة ، قال الحسن : هم اليهود والنصارى رأوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب فكفروا بعد إِيمانهم { أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي جزاؤهم على كفرهم اللعنة من الله والملائكة والخلق أجمعين { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي ماكثين في النار أبد الآبدين ، لا يُفتّر عنهم العذاب ولا هم يمهلون { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ } أي إِلا من تاب وأناب وأصلح ما أفسد من عمله { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي متفضل عليه بالرحمة والغفران { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً } نزلت في اليهود كفروا بعيسى بعد إِيمانهم بموسى ثم ازدادوا كفراً حيث كفروا بمحمد والقرآن { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } أي لا تقبل منهم توبة ما أقاموا على الكفر { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ } أي الخارجون عن منهج الحق إِلى طريق الغي ، ثم أخبر تعالى عمّن كفر ومات على الكفر فقال { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارُ } أي كفروا ثم ماتوا على الكفر ولم يتوبوا وهو عام في جميع الكفار { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ } أي لن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم موجع { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي ما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه . البَلاَغَة : 1 - الالتفات { لَمَآ آتَيْتُكُم } فيه التفات من الغيبة إِلى الحاضر لأن قبله { مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } . 2 - بين لفظ { ٱشْهَدُواْ } و { ٱلشَّاهِدِينَ } جناس الاشتقاق وكذلك بين لفظ { كَفَرُواًْ } و { كُفْرا } وهو من المحسنات البديعية . 3 - الطباق بين { طَوْعاً } و { وَكَرْهاً } وكذلك يوجد الطباق بين لفظ الكفر والإِيمان . 4 - { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ } قصر صفة على موصوف ومثله { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } . 5 - { وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ } هو من باب عطف العام على الخاص . 6 - و { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم والعدول إِلى صيغة فعيل للمبالغة . فَائِدَة : الآيات الكريمة قسمت الكفار إِلى ثلاثة أقسام : 1 - قسم تاب توبة صادقة فنفعته وإِليهم الإِشارة بقوله { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } . 2 - وقسم تاب توبة فاسدة فلم تنفعه وإِليهم الإِشارة بقوله { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً } . 3 - وقسم لم يتب أصلاً ومات على الكفر وإِليهم الإِشارة بقوله { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } . تنبيه : روى الشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به ؟ قال فيقول : نعم فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذتُ عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيتَ إِلا أن تشرك " .