Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 92-103)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تَعالى حال الكفار ومآلهم في الآخرة ، وبيّن أن الكافر لو أراد أن يفتدى نفسه بملء الأرض ذهباً ما نفعه ذلك ، ذكر هنا - استطراداً - ما ينفع المؤمن لنيل رضى الله والفوز بالجنة ، ثم عاد الكلام لرفع الشبهات التي أوردها أهل الكتاب حول النبوة والرسالة وصحة دين الإِسلام ، ثم جاء بعده التحذير من مكائدهم ودسائسهم التي يدبرونها للإِسلام والمسلمين لتفرقة الصف وتشتيت الشمل . اللغَة : { ٱلْبِرَّ } كلمة جامعة لوجوه الخير والمراد بها هنا الجنة { حِـلاًّ } حلالاً وهو مصدر نعت به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث { إِسْرَائِيلَ } هو يعقوب عليه السلام { بَكَّةَ } اسم لمكة فتسمى " بكة " و " مكة " سميت بذلك لأنها تبك أي تدق أعناق الجبابرة فلم يقصدها جبار بسوء إِلا قصمه الله { مُبَارَكاً } البركة : الزيادة وكثرة الخير { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } محل قيام ابراهيم وهو الحجر الذي قام عليه لما ارتفع بناء البيت { عِوَجاً } العِوَج : الميل قال أبو عبيدة : في الدين والكلام والعمل ، وبالفتح عَوَج في الحائط والجذع { يَعْتَصِم } يتمسك ويلتجئ وأصله المنع قال القرطبي : وكل متمسك بشيء معتصمٌ وكل مانعٍ شيئاً فهو عاصم { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ هود : 43 ] { شَفَا } الشَّفا : حرف كل شيء وحده ومثله الشفير : وشفا الحفرة : حرفها قال تعالى { عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] . سَبَبُ النّزول : يروى أنّ " شاس بن قيس " اليهودي مرَّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون ، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال : ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار ، ثم أمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكّرهم يوم " بُعاث " وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار - وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس - ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا : السلاحَ السلاحَ ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإِسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم ؟ " فعرف القوم أنها كانت نزعة من الشيطان وكيداً من عدوهم ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } الآية . التفسِير : { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } أي لن تكونوا من الأبرار ولن تدركوا الجنة حتى تنفقوا من أفضل أموالكم { وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أى وما تبذلوا من شيء في سبيل الله فهو محفوظ لكم تجزون عنه خير الجزاء { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي كل الأطعمة كانت حلالاً لبني إسرائيل { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } أي إلا ما حرّمه يعقوب على نفسه وهو لحم الإِبل ولبنها ثم حرمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها عقوبةً لهم على معاصيهم { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ } أي كانت حلالاً لهم قبل نزول التوراة { قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي قل لهم يا محمد ائتوني بالتوراة واقرءوها عليَّ إن كنتم صادقين في دعواكم أنها لم تحرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم قال الزمخشري : وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله فلما حاجّهم بكتابهم وبكّتهم بهتوا وانقلبوا صاغرين ولم يجسر أحد منهم على إخراج التوراة ، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم { فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي اختلق الكذب من بعد قيام الحجة وظهور البينة { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } أي المعتدون المكابرون بالباطل { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ } أي صدق الله في كل ما أوحى إلى محمد وفي كل ما أخبر { فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي اتركوا اليهودية واتبعوا ملة الإِسلام التي هي ملة إبراهيم { حَنِيفاً } أي مائلاً عن الأديان الزائفة كلها { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } برأه مما نسبه اليهود والنصارى إليه من اليهودية والنصرانية ، وفيه تعريض بإشراكهم { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } أي أول مسجد بني في الأرض لعبادة الله المسجد الحرام الذي هو بمكة { مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } أي وضع مباركاً كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره ، ومصدر الهداية والنور لأهل الأرض لأنه قبلتهم ، ثم عدد تعالى من مزاياه ما يستحق تفضيله على جميع المساجد فقال { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أي فيه علامات واضحات كثيرة تدل على شرفه وفضله على سائر المساجد منها { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت ، وفيه زمزم والحطيم ، وفيه الصفا والمروة والحجر الأسود ، أفلا يكفي برهاناً على شرف هذا البيت وأحقيته أن يكون قبلة للمسلمين ؟ { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وهذه آية أخرى وهي أمن من دخل الحرَم بدعوة الخليل ابراهيم { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } أي فرضٌ لازم على المستطيع حج بيت الله العتيق { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } أي من ترك الحج فإن الله مستغنٍ عن عبادته وعن الخلق أجمعين ، وعبّر عنه بالكفر تغليظاً عليه قال ابن عباس : من جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه ، ثم أخذ يبكّت أهل الكتاب على كفرهم فقال { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي لم تجحدون بالقرآن المنزل على محمد مع قيام الدلائل والبراهين على صدقه { وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } أي مطلع على جميع أعمالكم فيجازيكم عليها { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ } أي لم تصرفون الناس عن دين الله الحق ، وتمنعون من أراد الإِيمان به ؟ { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي تطلبون أن تكون الطريق المستقيمة معوجّة ، وذلك بتغيير صفة الرسول ، والتلبيس على الناس بإيهامهم أن في الإِسلام خللاً وعوجاً { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } أي عالمون بأن الإِسلام هو الحق والدين المستقيم { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد ووعيد ، وقد جمع اليهود والنصارى الوصفين : الضلال والإِضلال كما أشارت الآيتان الكريمتان فقد كفروا بالإِسلام ثم صدّوا الناس عن الدخول فيه بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من الناس { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } أي إن تطيعوا طائفة من أهل الكتاب { يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } أي يصيرّوكم كافرين بعد أن هداكم الله للإِيمان ، والخطاب للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم كما في سبب النزول واللفظ في الآية عام { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } إنكار واستبعاد أي كيف يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله لا تزال تتنزّل عليكم والوحي لم ينقطع ورسول الله حيٌ بين أظهركم ؟ { وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي من يتمسك بدينه الحق الذي بيَّنه بآياته على لسان رسوله فقد اهتدى إلى أقوم طريق ، وهي الطريق الموصلة إلى جنات النعيم { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي اتقوا الله تقوى حقة أو حق تقواه قال ابن مسعود : " هو أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر " والمراد بالآية { حَقَّ تُقَاتِهِ } أي كما يحق أن يتقى وذلك باجتناب جميع معاصيه { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي تمسكوا بالإِسلام وعضوا عليه بالنواجذ حتى يدرككم الموت وأنتم على تلك الحالة فتموتون على الإِسلام والمقصود الأمر بالإِقامة على الإِسلام { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي تمسكوا بدين الله وكتابه جميعاً ولا تتفرقوا عنه ولا تختلفوا في الدين كما اختلف من قبلكم من اليهود والنصارى { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي اذكروا إنعامه عليكم يا معشر العرب { إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } أي حين كنتم قبل الإِسلام أعداء ألداءً فألف بين قلوبكم بالإِسلام وجمعكم على الإِيمان { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } أي وكنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنم فأنقذكم الله منها بالإِسلام { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر الآيات { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي لكي تهتدوا بها إلى سعادة الدارين . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة نوجزها فيما يلي : 1 - { قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ } الأمر للتبكيت والتوبيخ للدلالة على كمال القبح . 2 - { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } أي للبيت الذي ببكة وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى . 3 - { وَمَن كَفَرَ } وضع هذا اللفظ " موضع ومن لم يحج " تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه قال أبو السعود : " ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات ما لا مزيد عليه وهي قوله { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق وأبرزت في صورة الجملة الإِسمية الدالة على الثبات والاستمرار ، على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس ، وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص ، والإِبهام ثم التبيين ، والإِجمال ثم التفصيل " 4 - { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ } شبّه القرآن بالحبل واستعير اسم المشبه به وهو الحبل للمشبه وهو القرآن على سبيل الاستعارة التصريحية والجامع بينهما النجاةُ في كلٍ . 5 - { شَفَا حُفْرَةٍ } شبه حالهم الذي كانوا عليه بالجاهلية بحال من كان مشرفاً على حفرة عميقة وهوّة سحيقة ففيه استعارة تمثيلية والله أعلم . تنبيه : وردت الآيات الكريمة لدفع شبهتين من شبه أهل الكتاب : الشبهة الأولى : أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تدّعي أنك على دين إبراهيم وقد خالفت شريعته فأنت تبيح لحوم الإِبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم ؟ فرد الله عليهم بقوله { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } الآية . الشبهة الثانية : قالوا إن " بيت المقدس " قبلة جميع الأنبياء وهو أول المساجد وأحق بالاستقبال فكيف تترك يا محمد التوجه اليه ثم تزعم أنك مصدّق لما جاء به الأنبياء فرد الله تعالى بقوله { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } الآية .