Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 1-11)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { ٱلْحَكِيمِ } المحكم الذي لا خلل فيه ولا تناقض { يُوقِنُونَ } اليقين : التصديق الجازم { لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ } الباطل الملهي عن الخير والعبادة { وَقْراً } ثِقلاً وصمماً يمنع من السماع { عَمَدٍ } جمع عِماد وهو الدعامة التي يرتكز عليها الشيء { رَوَاسِيَ } جبالاً وثوابت ، ورست السفينة : إِذا ثبتت واستقرت { تَمِيدَ } تتحرك وتضطرب { وَبَثَّ } نشر وفرَّق . سَبَبُ النّزول : روي أن " النضر بن الحارث " كان يشتري المغنِّيات ، فلا يظفر بأحدٍ يريد الإِسلام إِلا انطلق به إِلى قينته " المغنية " فيقول لها : أطعميه ، واسقيه الخمر ، وغنّيه ، ويقول : هذا خيرٌ مما يدعوك إِليه محمد ، من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه فأنزل الله { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ … } الآية . التفسِير : { الۤـمۤ } الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن ، وللإِشارة إِلى أن هذا الكتاب المعجز الذي أفحم العلماء والأدباء والفصحاء والبلغاء منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية " ألف ، لام ، ميم " وهي في متناول أيدي الناطقين بالعربية ، وهم عاجزون ان يؤلفوا منها كتاباً مثل هذا الكتاب بعد التحدي والإِفحام ، وهذا من أ ظهر الدلائل وأوضح البراهين على أنه تنزيل الحكيم العليم { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ } أي هذه آيات الكتاب البديع ، الذي فاق كل كتاب في بيانه ، وتشريعه ، وأحكامه { ٱلْحَكِيمِ } أي ذي الحكمة الفائقة ، والعجائب الرائقة ، الناطق بالحكمة والبيان ، والإِشارة بالبعيد عن القريب " تلك " للإِيذان ببعد منزلته في الفضل والشرف { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } أي هداية ورحمة للمحسنين الذين أحسنوا العمل في الدنيا ، وإِنما خُصوا بالذكر لأنهم هم المنتفعون بما فيه ، ثم وضح تعالى صفاتهم فقال { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ } أي يؤدونها على الوجه الأكمل بأركانها وخشوعها وآدابها { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } أي يدفعونها إلى مستحقيها طيبةً بها نفوسهم ابتغاء مرضاة الله { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي يصدّقون بالدار الآخرة ويعتقدون بها اعتقاداً جازماً لا يخالطه شك ولا ارتياب ، وكرَّر الضمير " هم " للتأكيد وإِفادة الحصر { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة على نور وبصيرة ، ومنهج واضح سديد ، من الله العزيز الحميد { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي هم الفائزون السعداء في الدنيا والآخرة قال أبو حيان : وكرر الإِشارة { وَأُوْلَـٰئِكَ } تنبيهاً على عظم قدرهم وفضلهم ، ولما ذكر تعالى حال السعداء ، الذين أهتدوا بكتاب الله وانتفعوا بسماعه ، عطف عليهم بذكر حال الأشقياء ، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله ، وأقبلوا على استماع الغناء والمزامير فقال { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ } أي ومن الناس من يشتري ما يُلهي عن طاعة الله ، ويَصُد عن سبيله ، مما لا خير ولا فائدة فيه قال الزمخشري : واللهو كل باطلٍ ألهى عن الخير ، نحو السمر بالأساطير ، والتحدث بالخرافات المضحكة ، وفضول الكلام وما لا ينبغي ، وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الآية فقال : والله الذي لا إِله إِلا هو - يكررها ثلاثاً - إٍنما هو الغناء ، وقال الحسن البصري : نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي ليُضل الناس عن طريق الهدى ، ويُبعدهم عن دينه القويم ، بغير حجة ولا برهان { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } أي ويتخذ آيات الكتاب المجيد سخرية واستهزاءً ، وهذا أدخل في القبح ، وأعرقُ في الضلال { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي لهم عذاب شديد مع الذلة والهوان { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا } أي وإِذا قرئت عليه آيات القرآن { وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } أي أعرض وأدبر متكبراً عنها كأنه لم يسمعها ، شأن المتكبر الذي لا يلتفت إِلى الكلام ، ويجعل نفسه كأنها غافلة { كَأَنَّ فِيۤ أُذُنَيْهِ وَقْراً } أي كأن في أذنيه ثقلاً وصمماً يمنعانه عن استماع آيات الله { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي أنذره يا محمد بعذاب مؤلمٍ ، مفرطٍ في الشدة والإِيلام ، ووضع البشارة مكان الإِنذار تهكم وسخرية قال في البحر : تضمنت هذه الآية ذمَّ المشتري من وجوه : التولية عن الحكمة ، ثم الاستكبار عن الحق ، ثم عدم الالتفات إِلى سماع الآيات ، ثم الإِيغال في الإِعراض مشبهاً حال من لم يسمعها ، لكونه لا يلقي لها بالاً ولا يلتفت إِليها ، ثم التهكم به بالبشارة بأشد العذاب . . ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم ، ذكر ما وعد به المؤمنين من جنات النعيم فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح ، وبين حسن النيّة وإِخلاص العمل { لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلنَّعِيمِ } أي لهم على إِيمانهم واستقامتهم على شريعة الله جناتُ الخلد يتنعمون فيها بأنواع الملاذّ ، من المآكل والمشارب والملابس ، والنساء والحور العين ، وسائر ما أكرمهم الله به من الفضل والإِنعام ، مما لا عينٌ رأتْ ولا أذُنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر { خَالِدِينَ فِيهَا } أي دائمين في تلك الجنات ، لا يخرجون منها أبداً ، ولا يبغون عنها حولاً { وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً } أي وعداً من الله قاطعاً ، كائناً لا محالة ، لا خلف فيه لأن الله لا يخلف الميعاد { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي هو تعالى العزيز الذي لا يغلبه شيء ليمنعه عن إِنجاز وعده ، الحكيم الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة … ثم نبّه تعالى إِلى دلائل قدرته ، وآثار عظمته وجلاله لإِقامة البراهين على وحدانيته فقال { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } أي خلق السماوات في سعتها وعظمتها وإِحكامها بدون دعائم ترتكز عليها ، حال كونكم تشاهدونها كذلك واقفة من غير أن تستند على شيء ، ولا تمسكها إِلا قدرة الله العليّ الكبير { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي جعل فيها جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب بكم فتهلككم بأن تقلبكم عن ظهرها ، أو تهدم بيوتكم بتزلزلها قال الإِمام الفخر : واعلم أن الأرض ثباتُها بسبب ثقلها ، وإِلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه والرياح ، ولو خلقها تعالى مثل الرمل لما كانت تثبتُ للزراعة ، كما نرى الأراضي الرملية ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع ، فهذه هي حكمة إِرسائها بالجبال ، فسبحان الكبير المتعال { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أي ونشر وفرَّق في أرجاء الأرض من كل أنواع الحيوانات والدواب من مأكول ومركوب ، مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إِلا الذي خلقها { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } أي وأنزلنا لحفظكم وحفظ دوابكم المطر من السحاب { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أي فأنبتنا في الأرض من كل نوعٍ من النبات ، ومن كل صنفٍ من الأغذية والأدوية { كَرِيمٍ } أي كثير المنافع ، بديع الخلق والتكوين { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } أي هذا الذي تشاهدونه وتعاينونه أيها المشركون هو من مخلوقات الله ، فانظروا في السماوات والأرض ، والإِنسان ، والنبات ، والحيوان ، وسائر ما خلق الله ثم تفكروا في آثار قدرته ، وبديع صنعته { فَأَرُونِي } ثم أخبروني { مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } أي أيَّ شيءٍ خلقته آلهتكم التي عبدتموها من دون الله من الأوثان والأصنام ؟ وهو سؤال على جهة التهكم والسخرية بهم وبآلهتهم المزعومة ، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الواضح فقال { بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي بل المشركون في خسران ظاهر ، وضلالٍ واضح ما بعده ضلال ، لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ، وعبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر ، فهم أضل من الحيوان الأعجم ، لأن من عبد صنماً جامداً ، وترك خالقاً عظيماً مدبراً ، يكون أحطَّ شأناً من الحيوان . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - وضع المصدر للمبالغة { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } . 2 - الإِشارة بالبعيد { تِلْكَ آيَاتُ } عن القريب { هَـٰذِهِ } لبيان علو الرتبة ورفعة القدر والشأن . 3 - الإِطناب بتكرار الضمير واسم الإِشارة { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ } لزيادة الثناء عليهم والتكريم لهم ، كما أن الجملة تفيد الحصر أي هم المفلحون لا غيرهم . 4 - الاستعارة التصريحية { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ } شبّه حالهم بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها ، واستعار لفظ يشتري لمعنى يستبدل بطريق الاستعارة التصريحية . 5 - التشبيه المرسل المجمل { كَأَنَّ فِيۤ أُذُنَيْهِ وَقْراً } ذكرت أداة التشبيه وحذف الشبه فهو تشبيه " مرسل مجمل " . 6 - أسلوب التهكم { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } لأن البشارة إنما تكون في الخير ، واستعمالها في الشر سخرية وتهكم . 7 - الالتفات من الغيبة إلى التكلم { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ } بعد قوله { خَلْقُ } ، { وَأَلْقَىٰ } ، { وَبَثَّ } وكلها بضمير الغائب ، ثم التفت فقال { وَأَنزَلْنَا } تعظيماً لشأن الرحمن ، وتوفيةً لمقام الامتنان ، وهذا من المحسنات البديعية . 8 - إِطلاق المصدر على اسم المفعول مبالغة { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } أي مخلوقة . 9 - الاستفهام للتوبيخ والتبكيت { مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } ؟ 10 - وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التوبيخ ، وللتسجيل عليهم بغاية الظلم والجهل { بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وكان الأصل أن يقال : بل هم في ضلالٍ مبين . 11 - مراعاة الفواصل في الحرف الأخير مثل { عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، { جَنَّاتُ ٱلنَّعِيمِ } ، { زَوْجٍ كَرِيمٍ } ، { ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ } ويسمى هذا النوع في علم البديع " سجعاً " وأفضله ما تساوت فقره ، وكان سليماً من التكلف ، خالياً من التكرار ، وهو كثير في القرآن الكريم في نهاية الآيات الكريمة . فَائِدَة : وصفُ الكتاب بالحكمة في هذه السورة { ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ } مناسبٌ لجو السورة الكريمة لأن موضوع الحكمة قد تكرر فيها { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ } فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب المجيد ، على طريقة القرآن في التنسيق بين الألفاظ والمواضيع .