Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 12-19)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لمّا بيَّن تعالى فساد اعتقاد المشركين ، بسبب عنادهم وإِشراكهم من لا يخلق شيئاَ بمن هو خالق كل شيء ، ذكر هنا وصايا " لقمان " الحكيم ، وهي وصايا ثمينة في غاية الحكمة والدعوة إِلى طريق الرشاد ، وقد جاءت هذه الوصايا مبدوءةً بالتحذير من الشرك الذي هو أقبح الذنوب ، وأعظم الجرائم عند الله . اللغَة : { ٱلْحِكْمَةَ } الإِصابة في القول العمل ، وأصلها وضع الشيء في موضعه قال في اللسان : أحكم الأمر أتقنه ويُقال للرجل إِذا كان حكيماً : قد أحكمته التجارب ، والحكيم : المتقن للأمور { يَعِظُهُ } ينصحه ويذكره ، والعظةُ والموعظة : النصح والإِرشاد { وَهْناً } الوهن : الضعف ومنه { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [ مريم : 4 ] أي ضعف { فِصَالُهُ } الفصال : الفطام وهو لفظ يستعمل في الرضاع خاصة ، وأما الفصل فهو أعم ، وفصلت المرأة ولدها أي فطمته وتركت إرضاعه { أَنَابَ } رجع ، والمنيب الراجع إِلى ربه بالتوبة والاستغفار { تُصَعِّرْ } الصَّعر : بفتحتين في الأصل داءٌ يصيب البعير فيلوي منه عنقه ثم استعمل في ميل العنق كبراً وافتخاراً قال عمرو التغلبي : @ وكنَّا إِذا الجبَّار صعَّر خدَّه أقمنا له من ميله فتقومّ @@ { مَرَحاً } فرحاً وبطراً وخيلاء { مُخْتَالٍ } متبختر في مشيته { ٱقْصِدْ } توسَّط ، والقصد : التوسط بين الإِسراع والبطء { ٱغْضُضْ } غضَّ الصوت خفضه قال جرير : @ فغُضَّ الطرف إِنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا @@ التفسِيْر : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ } أي والله لقد أعطينا لقمان الحكمة وهي الإصابة في القول ، والسَّداد في الرأي ، والنطق بما يوافق الحق ، قال مجاهد : الحكمة : الفقه والعقل ، والإِصابة في القول ، ولم يكن نبياً إِنما كان حكيماً { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ } أي وقلنا له : أشكر الله على إِنعامه وإِفضاله عليك حيث خصَّك بالحكمة وجعلها على لسانك قال القرطبي : والصحيح الذي عليه الجمهور أن " لقمان " كان حكيماً ولم يكن نبياً وفي الحديث " لم يكن لقمان نبياً ، ولكن كان عبداً كثير التفكر ، حسن اليقين ، أحبَّ الله تعالى فأحبَّه ، فمنَّ عليه بالحكمة " { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي ومن يشكر ربه فثواب شكره راجع لنفسه ، وفائدته إنما تعود عليه ، لأن الله تعالى لا ينفعه شكر من شكر ، ولا يضره كفر من كفر ولهذا قال بعده { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي ومن جحد نعمة الله فإِنما أساء إلى نفسه ، لأن الله مستغنٍ عن العباد ، محمودٌ على كل حال ، مستحقٌ للحمد لذاته وصفاته قال الرازي : المعنى أن الله غير محتاج إِلى شكر حتى يتضرَّر بكفر الكافر ، فهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أم لم يشكروه ، ثم ذكر تعالى بعض نصائح لقمان لابنه وبدأ بالتحذير له من الشرك ، الذي هو نهاية القبح والشناعة فقال { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ } أي واذكر لقومك موعظة لقمان الحكيم لولده ، حين قال له واعظاً ناصحاً مرشداً : يا بني كن عاقلاً ولا تشرك بالله أحداً ، بشراً أو صنماً أو ولداً { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } أي إِن الشرك قبيح ، وظلم صارخ لأنه وضعٌ للشيء في غير موضعه ، فمن سوَّى بين الخالق والمخلوق ، وبين الإِله والصنم فهو - بلا شك - أحمق الناس ، وأبعدهم عن منطق العقل والحكمة ، وحري به أن يوصف بالظلم ويجعل في عداد البهائم { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ } أي أمرناه بالإِحسان إِليهما لا سيما الوالدة { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } أي حملته جنيناً في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفاً على ضعف ، من حين الحمل إِلى حين الولادة ، لأن الحمل كلما ازداد وعظم ، إِزدادت به ثقلاً وضعفاً { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } أي وفطامه في تمام عامين { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } أي وقلنا له : اشكر ربك على نعمة الإِيمان والإِحسان ، واشكر والديك على نعمة التربية { إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } أي إِليَّ المرجع والمآب فأجازي المحسن على إِحسانه ، والمسيء على إِساءته قال ابن جزي : وقوله { أَنِ ٱشْكُرْ } تفسيرٌ للوصية ، واعترض بينها وبين تفسيرها بقوله { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } ليبيّن ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها ، ولذلك كان حقها أعظم من حق الأب { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } أي وإِن بذلا جهدهما ، وأقصى ما في وسعهما ، ليحملاك على الكفر والإِشراك بالله فلا تطعهما ، إِذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } أي وصاحبهما في الحياة الدنيا بالمعروف والإِحسان إليهما - ولو كان مشركين - لأن كفرهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمَّلاها في تربية الولد ، ولا التنكر بالجميل { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } أي واسلك طريق من رجع إلى الله بالتوحيد والطاعة والعمل الصالح { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي مرجع الخلق إِلى الله فيجازيهم على أعمالهم ، والحكمةُ من ذكر الوصية بالوالدين - ضمن وصايا لقمان - تأكيد ما أفادته الآية الأولى من تقبيح أمر الشرك { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فكأنه تعالى يقول : مع أننا وصينا الإِنسان بوالديه ، وأمرناه بالإِحسان إِليهما والعطف عليهما ، وألزمناه طاعتهما بسبب حقهما العظيم عليه ، مع كل هذا فقد نهيناه عن طاعتهما في حالة الشرك والعصيان ، لأن الإِشراك بالله من أعظم الذنوب ، وهو في نهاية القبح والشناعة . . ثم رجع الكلام إِلى وصايا لقمان فقال تعالى { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } أي يا ولدي إِن الخطيئة والمعصية مهما كانت صغيرة حتى ولو كانت وزن حبة الخردل في الصغر { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ } أي فتكن تلك السيئة - مع كونها في أقصى غايات الصغر - في أخفى مكان وأحرزه ، كجوف الصخرة الصماء ، أو في أعلى مكان في السماء أو في الأرض يحضرها الله سبحانه ويحاسب عليها ، والغرض التمثيلُ بأن الله لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي هو سبحانه لطيف بالعباد خبير أي عالم ببواطن الأمور { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } أي حافظ على الصلاة في أوقاتها وبخشوعها وآدابها { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } أي وأمر الناس بكل خير وفضيلة ، وأنههم عن كل شر ورذيلة { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } أي اصبر على المحن والبلايا ، لأنَّ الداعي إِلى الحق معرَّض لإِيصال الأذى إِليه قال أبو حيان : لما نهاه أولاً عن الشرك ، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته ، أمره بما يتوسل به إِلى الله من الطاعات ، فبدأ بأشرفها وهي الصلاة ، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن بسبب الأمر بالمعروف ، فكثيراً ما يُؤذى فاعل ذلك { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } أي إِن ذلك المذكور مما عزمه الله وأمر به قال ابن عباس : من حقيقة الإِيمان الصبر على المكاره وقال الرازي : معناه إِن ذلك من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة ، فالمصدر بمعنى المفعول { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } أي لا تمل وجهك عنهم تكبراً عليهم قال القرطبي : أي لا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإِعجاباً ، وتحقيراً لهم ، وهو قول ابن عباس { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } أي لا تمش متبختراً متكبراً { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } تعليلٌ للنهي أي لأن الله يكره المتكبر الذي يرى العظمة لنفسه ، ويتكبر على عباد الله ، المتبختر في مشيته ، والفخور الذي يفتخر على غيره ، ثم لما نهاه عن الخُلُق الذميم ، أمره بالخُلُق الكريم فقال { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي توسَّط في مشيتك واعتدل فيها بين الإِسراع والبطء { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } أي اخفض من صوتك فلا ترفعه عالياً فإِنه قبيح لا يجمل بالعاقل { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } أي إِن أوحش الأصوات صوتُ الحمير فمن رفع صوته كان مماثلاً لهم ، وأتى بالمنكر القبيح قال الحسن : كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات فرد عليهم بأنه لو كان خيراً لفضلتهم به الحمير ، وقال قتادة : أقبح الأصوات صوت الحمير ، أوله زفير وآخره شهيق . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { شْكُرْ … وكَفَرَ } . 2 - صيغة المبالغة { غَنِيٌّ حَمِيدٌ } وكذلك { لَطِيفٌ خَبِيرٌ } و { فَخُورٍ } لأن فعيل وفعول من صيغ المبالغة ومعناه كثير الحمد وكثير الفخر . 3 - ذكر الخاص بعد العام { بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ } وذلك لزيادة العناية والاهتمام بالخاص . 4 - تقديم ما حقه التأخير لإِفادة الحصر مثل { إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي لا إِلى غيري . 5 - التمثيل { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } مثَّل ذلك لسعة علم الله وإِحاطته بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها ، جليلها وحقيرها فإِنه تعالى يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة . 6 - التتميم { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } تَّمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها وهذا من البديع . 7 - المقابلة { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ } ثم قال { وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } فقابل بين اللفظين . 8 - الاستعارة التمثيلية { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } شبَّه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وأصواتهم بالنهيق ، ولم يذكر أداة التشبيه بل أخرجه مخرج الاستعارة للمبالغة في الذم ، والتنفير عن رفع الصوت . تنبيه : حين أمر تعالى بشكر الوالدين قدَّم شكره تعالى على شكرهما فقال { أَنِ ٱشْكُرْ لِي } ثم أردفه بقوله { وَلِوَالِدَيْكَ } وذلك لإِشعارنا بأن حق الله أعظم من حق الوالدين ، لأنه سبحانه هو السبب الحقيقي في خلق الإِنسان ، والوالدان سبب في الصورة والظاهر ، ولهذا حرَّم تعالى طاعتهما على الإِنسان إِذا أرادا إِجباره على الكفر .