Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 18-30)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى حال المجرمين في الآخرة ، وحال المؤمنين المتقين ، وما أعدَّه لهم من الكرامة في دار النعيم ، ذكر هنا أنه لا يتساوى الفريقان : فريق الأبرار ، وفريق الفجار لأن عدالة الله تقتضي التمييز بين المؤمن الصالح ، والفاسق الفاجر . اللغَة : { فَاسِقاً } الفاسقُ : الخارج عن طاعة الله { نُزُلاً } ضيافةً وعطاءً ، والنُّزل ما يهُيأ للنازل والضيف قال الشاعر : @ وكنا إِذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً @@ { ٱلْجُرُزِ } اليابسة الجرداء التي لا نبات فيها ، والجرزُ : القطع قال الزمخشري : الجرُز : الأرضُ التي جرز نباتها أي قطع ، إِمّا لعدم الماء أو لأنه رُعي وأُزيل ، ولا يقال للتي لا تنبتُ كالسباخ جُرز { ٱلْفَتْحُ } الحاكم ويقال للحاكم : فاتح وفتاح لأنه يفصل بين الناس بحكمه { يُنظَرُونَ } يمهلون ويؤخرون . سَبَبُ النّزول : روي أنه كان بين " علي بن أبي طالب " و " عُقبة بن أبي مُعيط " تنازع وخصومة ، فقال الوليد بن عُقبة لعلي : أُسكت فإِنك صبيٌ ، وأنا والله أبسط منك لساناً ، وأشجع منك جناناً ، وأملأ منك حشواً في الكتيبة ، فقال له علي : اسكتْ فإِنك فاسق فنزلت { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } . التفسِير : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } ؟ أي أفمن كان في الحياة الدنيا مؤمناً متقياً لله ، كمن كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله ؟ { لاَّ يَسْتَوُونَ } أي لا يستوون في الآخرة بالثواب والكرامة ، كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة ، وهذه الآية كقوله تعالى { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] قال ابن كثير : يخبر تعالى عن عدله وكرمه ، أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة ، من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله ، بمن كان فاسقاً أي خارجاً عن طاعة ربه ، مكذباً رسل الله ، ثم فصَّل تعالى جزاء الفريقين فقال { أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي أما المتقون الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح { فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ } أي لهم الجنات التي فيها المساكن والدور والغرف العالية يأوون إِليها ويستمتعون بها قال البيضاوي : فالجنة هي المأوى الحقيقي ، والدنيا منزل مرتحلٌ عنه لا محالة { نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ضيافةً مهيأةً ومعدةً لإِكرامهم كما تهيأ التُحف للضيف وذلك بسبب ما قدموه من صالح الأعمال { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ } أي وأمّأ الذين خرجوا عن طاعة الله فملجؤهم ومنزلهم نار جهنم { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } أي إِذا دفعهم لهب النار إِلى أعلاها ردُّوا إِلى موضعهم فيها قال الفُضيل بن عياض : والله إِن الأيدي لموثقة ، وإِنَّ الأرجل لمقيَّدة ، وإِنَّ اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي وتقول لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً : ذوقوا عذاب النار المخزي الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتهزءون منه ، ثم توعدهم بعذاب عاجلٍ في الدنيا فقال { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ } أي ولنذيقنَّهم من العذاب الأقرب وهو عذاب الدنيا من القتل والأسر والبلايا والمحن قال الحسن : العذاب الأدنى : مصائب الدنيا وأسقامها مما يُبتلى به العبيد حتى يتوبوا وقال أبو مجاهد : القتل والجوع { دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ } أي قبل العذاب الأكبر الذي ينتظرهم وهو عذاب الآخرة { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي لعلهم يتوبون عن الكفر والمعاصي ، ثم بعد أن توعدهم وهددهم بيَّن استحقاقهم للعذاب فقال { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } أي لا أحد أظلم لنفسه ممَّن وعظ وذكر بآيات الرحمن ، ثم ترك الإِيمان وتناساها ؟ { إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } أي سأنتقم ممن كذَّب بآياتي أشدَّ الانتقام ، ووضع الاسم الظاهر مكان الضمير لتسجيل الإِجرام عليهم { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ } أي أعطينا موسى التوراة { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } أي فلا تكن يا محمد في شكٍ من تلقي القرآن كما تلقَّى موسى التوراة ، والمقصود تقرير رسالته عليه السلام ، وتحقيق أن ما معه من الكتاب وحيٌ سماويٌ وكتابٌ إِلهي { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي جعلنا التوراة هدايةً لبني إِسرائيل من الضلالة { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً } أي جعلنا منهم قادةً وقدوة يقتدى بهم في الخير { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي يدعون الخلق إِلى طاعتنا ويرشدونهم إِلى الدين بأمرنا وتكليفنا { لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي حين صبروا على تحمل المشاقّ في سبيل الله ، وكانوا يصدقون بآياتنا أشد التصديق وأبلغه قال ابن الجوزي : وفي هذا تنبيه لقريش أنكم إن أطعتم وآمنتم جعلت منكم أئمة { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي إِن ربك يا محمد يقضي ويحكم بين المؤمنين والكفار ، فيميز بين المحقِّ والمبطل يوم القيامة ، ويجازي كلاً بما يستحق ، فيما اختلفوا فيه من أمور الدين قال الطبري : فيما كانوا فيه يختلفون من أمور الدين ، والبعث ، والثواب والعقاب ، ثم نبه تعالى على آثار قدرته في مخلوقاته ، وأقام الحجة على الكفار بالأمم السالفة الذين كفروا فأُهلكوا فقال { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ } أي أغفل هؤلاء المشركون ولم يتبيَّن لهم كثرة من أهلكناهم من الأمم الماضية الذين كذبوا رسل الله ؟ { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أي حال كون أهل مكة يسيرون في دورهم ، ويشاهدون في أسفارهم منازل هؤلاء المهلكين أفلا يعتبرون ؟ قال ابن كثير : أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك الظالمين ، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يسكنها ويعمرها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } أي إِن في إِهلاكهم لدلالات عظيمة على قدرتنا ، أفلا يسمعون سماع تدبر واتعاظ ؟ ثم ذكر تعالى دلائل الوحدانية فقال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ } أي أولم يشاهدوا كمال قدرتنا في سوقنا الماء إِلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها من شدة العطش لنحييها ؟ { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ } أي فنخرج بذلك الماء أنواع الزروع والثمار ، تأكل منه دوابهم من الكلأ والحشيش ، وأنفسهم من الحب والخضر والفواكه والبقول { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } أي أفلا يبصرون ذلك فيستدلون به على كمال قدرته تعالى وفضله ، ويعلمون أن الذي أحيا الأرض الميتة قادر على إِعادتهم بعد وفاتهم ؟ { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي ويقول كفار مكة للمسلمين على سبيل السخرية والتهكم : متى ستنصرون علينا ويكون لكم الغلبة والفتح علينا ؟ إِن كنتم صادقين في دعواكم قال الصاوي : كان المسلمون يقولون إِن الله سيفتح لنا على المشركين ، ويفصل بيننا وبينهم ، وكان أهل مكة إِذا سمعوهم يقولون بطريق الاستعجال تكذيباً واستهزاءً : متى هذا الفتح فنزلت { قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ } أي قل لهم يا محمد توبيخاً وتبكيتاً : إِن يوم القيامة هو يوم الفتح الحقيقي الذي يفصل تعالى فيه بيننا وبينكم ، ولا ينفع فيه الإِيمان ولا الاعتذار فلماذا تستعجلون ؟ { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي ولا هم يؤخرون ويمهلون للتوبة قال البيضاوي : ويوم الفتح هو يوم القيامة فإِنه يوم نصر المؤمنين على الكافرين والفصل بينهم ، وقيل هو يوم بدر { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي فأعرضْ يا محمد عن هؤلاء الكفار ولا تبالِ بهم { وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } أي وانتظر ما يحل بهم من عذاب الله ، إِنهم منتظرون كذلك ما يحل بكم قال القرطبي : أي ينتظرون بكم حوادث الزمان . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - جناس الاشتقاق مثل { تُنذِرَ … ونَّذِيرٍ } وكذلك مثل { ٱنتَظِرْ … إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } . 2 - الطباق بين { ٱلْغَيْبِ … وَٱلشَّهَادَةِ } وبين { خَوْفاً … وَطَمَعاً } . 3 - الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب { وَجَعَلَ لَكُمُ } والأصل " وجعل له " والنكتة أن الخطاب إِنما يكون مع الحيّ فلما نفخ تعالى الروح فيه حسن خطابه مع ذريته . 4 - الاستفهام الإِنكاري وغرضه الاستهزاء { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؟ 5 - الإِضمار { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا . 6 - الاختصاص { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي إِليه لا إِلى غيره مرجعكم يوم القيامة . 7 - حذف جواب لو للتهويل { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ } أي لرأيت أمراً مهولاً . 8 - المشاكلة وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى { نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ … إِنَّا نَسِينَاكُمْ } فإِن الله تعالى لا ينسى وإِنما المراد نترككم في العذاب ترك الشيء المنسي . 9 - المقابلة اللطيفة بين جزاء الأبرار وجزاء الفجار { أَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْمَأْوَىٰ … } { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ } وهو من المحسنات البديعية . 10 - الكناية عن كثرة العبادة والتبتل ليلاً { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } . 11 - الاستفهام للتقريع والتوبيخ { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } ؟ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ } ؟ { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } ؟ { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } وكلها بقصد الزجر والتوبيخ . 12 - السجع مراعاةً للفواصل ورءوس الآيات مثل { إِنَّا مُوقِنُونَ * وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } وهذا من المحسنات البديعية وهو كثير في القرآن الكريم .