Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 1-17)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { ٱفْتَرَاهُ } اختلق القرآن من تلقاء نفسه { يَعْرُجُ } يصعد ويرتفع إِليه { يُدَبِّرُ } التدبير : رعايةُ شئون الغير { سُلاَلَةٍ } خلاصة { مَّهِينٍ } ضعيف حقير { سَوَّاهُ } قوَّمه بتصوير أعضائه وتكميلها { ضَلَلْنَا } ضعنا وهلكنا وأصله من قول العرب : ضلَّ اللبن في الماء إِذا ذهب وضاع { نَاكِسُواْ } مطرقوا يقال : نكس رأسه إِذا أطرقه { ٱلْجِنَّةِ } الجن . التفسِير : { الۤـمۤ } الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي هذا الكتاب الموحى به إِليك يا محمد هو القرآن الذي لا شك أنه من عند الله عز وجل ، تنزيلٌ من رب العالمين { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } الضمير يعود لكفار قريش و { أَمْ } بمعنى بل والهمزة أي بل أيقول المشركون اختلق محمد القرآن وافتراه من تلقاء نفسه ؟ لا ليس الأمر كما يدَّعون { بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } أي بل هو القول الحق ، والكلام الصدق المنزل من ربك قال البيضاوي : أشار أولاً إِلى إِعجازه ، ثم رتَّب عليه أنه تنزيلٌ من رب العالمين ، وقرر ذلك بنفي الريب عنه ، ثم أضرب عن ذلك إِلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك ، إنكاراً له وتعجباً منه ، ثم بين المقصود من إِنزاله بقوله { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } أي أنزله إليك لتنذر به قوماً ما جاءهم رسول قبلك يا محمد ، قال المفسرون : هم أهل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، وقد جاء الرسل قبل ذلك كإِبراهيم وهود وصالح ، ولكنْ لما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله إِليهم محمداً صلى الله عليه وسلم لينذرهم عذاب الله ، ويقيم عليهم الحجة بذلك { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } أي كي يهتدوا إِلى الحق ويؤمنوا بالله العزيز الحميد ، ثم شرع تعالى في ذكر أدلة التوحيد فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي الله جلَّ وعلا هو الذي خلق السماوات في ارتفاعها وإِحكامها ، والأرض في عجائبها وإِبداعها ، وما بينهما من المخلوقات في مقدار ستة أيام قال الحسن : من أيام الدنيا ولو شاء لخلقها بلمح البصر ولكن أراد أن يعلّم عباده التأني في الأمور قال القرطبي : عرَّفهم تعالى كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه ، ومعنى { خَلَقَ } أبدع وأوجد بعد العدم ، وبعد أن لم تكن شيئاً { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } أي ليس لكم أيها الناسُ من غير الله ناصرٌ يمنعكم من عذابه ، ولا شفيع يشفع لكم عنده إِلا بإِذنه ، بل هو الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } ؟ أي أفلا تتدبرون هذا فتؤمنون ؟ { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ } أي يدبّر أمر الخلائق جميعاً في العالم العلوي والسفلي ، لا يُهمل شأن أحد قال ابن عباس : أي ينزل القضاء والقدر من السماء إِلى الأرض ، ويُنزل ما دبره وقضاه { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي ثم يصعد إِليه ذلك الأمر كله يوم القيامة ليفصل فيه { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } أي في يومٍ عظيم - هو يوم القيامة - طوله ألف سنة من أيام الدنيا لشدة أهواله { ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي ذلك المدبر لأمور الخلق هو العالم بكل شيء ، يعلم ما هو غائب عن المخلوقين ، وما هو مشاهد لهم قال القرطبي : وفي الآية معنى التهديد والوعيد ، كأنه يقول : أخلصوا أعمالكم وأقوالكم فإِني مجازيكم عليها ، ومعنى " الغيب والشهادة " ما غاب عن الخلق وما حضرهم { ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } أي الغالب على أمره ، الرحيم بعباده في تدبيره لشئونهم { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } أي أتقن وأحكم كل شيءٍ أوجده وخلقه قال أبو حيان : وهذا أبلغ في الامتنان ومعناه أنه وضع كل شيء في موضعه ، ولهذا قال ابن عباس : ليست القردة بحسنة ، ولكنها متقنةٌ محكمة قال بعض العلماء : لو تصورتَ مثلاً أن للفيل مثل رأس الجمل ، وأنَّ للأرنب مثل رأس الأسد ، وأنَّ للإِنسان مثل رأسِ الحمار ، لوجدت في ذلك نقصاً كبيراً ، وعدم تناسب وانسجام ، ولكنك إِذا علمت أن طول عنق الجمل ، وشقَّ شفته ليسهل تناوله الكلأ عليه أثناء السير ، وأن الفيل لولا خرطومه الطويل لما استطاع أن يبرك بجسمه الكبير لتناول طعامه وشرابه ، لو علمتَ كل هذا لتيقنتَ أنه صنع الله الذي أتقن كل شيء ، ولقلت : تبارك الله أحسن الخالقين . { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } أي خلق أبا البشر آدم من طين { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } أي جعل ذريته يتناسلون من خلاصة من ماءٍ ضعيف حقير هو المنيُّ { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } أي قوَّم أعضاءه ، وعدَّل خلقته في رحم أُمه ، ونفخ بعد ذلك فيه الروح ، فإِذا هو في أكمل صورةٍ وأحسن تقويم قال أبو السعود : وأضاف الروح إِليه تعالى تشريفاً للإنسان ، وإِيذاناً بأنه خلقٌ عجيب ، وصنعٌ بديع ، وأن له شأناً جليلةً مناسبةً إِلى حضرة الربوبية { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } أي وخلق لكم هذه الحواس : السمع لتسمعوا به الأصوات ، والبصر لتبصروا به الأشخاص ، والعقل لتدركوا به الحق والهدى { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي قليلاً شكركم لربكم و { مَّا } لتأكيد القلة { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } أي وقال كفار مكة المنكرون للبعث والنشور : أئذا هلكنا وصارت عظامنا ولحومنا تراباً مختلطاً بتراب الأرض حتى غابت فيه ولم تتميز عنه { أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي سوف نخلق بعد ذلك خلقاً جديداً ، ونعود إِلى الحياة مرةً ثانية ؟ وهو استبعادٌ للبعث مع الاستهزاء ولهذا قال تعالى { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } أي بل هناك ما هو أبلغ وأشنع من الاستهزاء ، وهو كفرهم وجحودهم بلقاء الله في دار الجزاء { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } أي قل لهم رداً على مزاعمهم الباطلة : يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم هو وأعوانه { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي ثم مرجعكم إِلى الله يوم القيامة للحساب والجزاء قال ابن كثير : والظاهر أنَّ ملك الموت شخص معين ، وقد سُمي في بعض الآثار بـ " عزرائيل " وهو المشهور ، وله أعوان - كما ورد في الحديث - ينتزعون الأرواح من سائر الجسد ، حتى إِذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت وقال مجاهد : جُمِعت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها حيث يشاء ، ثم أخبر تعالى بحال المجرمين يوم القيامة وما هم فيه من الذل والهوان فقال { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي ولو ترى أيها المخاطب حال المجرمين يوم القيامة وهم مطرقو رءوسهم أمام ربهم من الخجل والحياء لرأيت العجب العجاب قال أبو السعود : وجواب { لَوْ } محذوفٌ تقديره لرأيت أمراً فظيعاً لا يُقادر قدره من هوله وفظاعته { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي يقولون ربنا أبصرنا حقيقة الأمر وسمعنا ما كنا ننكر من أمر الرسل ، وكنا عُمياً وصُماً { فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً } أي فردنا إِلى دار الدنيا لنعمل صالحاً { إِنَّا مُوقِنُونَ } أي فنحن الآن مصدّقون تصديقاً جازماً ، وموقنون أن وعدك حق ، ولقاءك حق قال الطبري : أي أيقنا الآن بوحدانيتك ، وأنه لا يصلح أن يُعبد سواك ، ولا ينبغي أن يكون رب سواك ، وأنك تحيي وتميت وتفعل ما تشاء ، قال تعالى رداً عليهم { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } أي لو أردنا هداية جميع الخلق لفعلنا ولكنَّ ذلك ينافي حكمتنا ، لأنا نريد منهم الإِيمان بطريق الاختيار ، لا بطريق الإِكراه والإِجبار { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } أي ولكن ثبت ووجب قولي بعذاب المجرمين ، وتقرر وعيدي { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي لأملأنَّ جهنم بالعصاة من الجِنّ والإِنس جميعاً { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ } أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ : ذوقوا - بسبب نسيانكم الدار الآخرة وانهماككم في الشهوات - هذا العذاب المخزي الأليم { إِنَّا نَسِينَاكُمْ } أي نترككم اليوم في العذاب كما تركتم العمل بآياتنا { وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي وذوقوا العذاب الدائم الخالد في جهنم بسبب كفركم وتكذيبكم ، ثم لما ذكر حال الأشقياء وعاقبتهم الوخيمة ، أتبعه بذكر حال السعداء وما أعدَّه لهم من النعيم المقيم في دار الجزاء ، ليظل العبد بين الرهبة والرغبة فقال { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } أي إِنما يصدّق بآياتنا المؤمنون المتقون الذين إِذا وعظوا بآياتنا سقطوا على وجوههم ساجدين لله تعظيماً لآياته { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي وسبحوا ربهم على نعمائه وهم لا يستكبرون عن طاعته وعبادته { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } أي تتنحى وتتباعد أطرافهم عن الفرش ومواضع النوم ، والغرض أن نومهم بالليل قليل لانقطاعهم للعبادة كقوله { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17 - 18 ] قال مجاهد : يعني بذلك قيام الليل { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } أي يدعون ربهم خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته وثوابه { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي ومما أعطيناهم من الرزق ينفقون في وجوه البر والحسنات { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } أي فلا يعلم أحد من الخلق مقدار ما يعطيهم الله من النعيم ، مما لا عينٌ رأتْ ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ثواباً لما قدموه في الدنيا من صالح الأعمال .