Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 1-20)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { أَدْعِيَآءَكُمْ } جمع دعيّ وهو الولد المتبنَّى من أبناء الغير قال في اللسان : والدَّعيُ : المنسوب إلى غير أبيه ، قال الشاعر : @ دعيُّ القوم ينصرُ مدَّعيهِ لِيُلْحقه بذي النَّسب الصَّميم أبي الإِسلامُ لا أبَ لي سِواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم @@ { أَقْسَطُ } أعدلُ يقال : أقسطَ الرجلُ إذا عدل ، وقسطَ إذا ظلم ، والقسطُ : العدلُ . { مَسْطُوراً } أي مسطَّراً مكتوباً لا يُمحى . { مِيثَاقَهُمْ } الميثاقُ : العهد المؤكد بيمين أو نحوه . { ٱلْحَنَاجِرَ } جمع حَنْجرة وهي نهاية الحلقوم مدخل الطعام والشراب . { يَثْرِبَ } اسم المدينة المنورة وسمَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة . { عَوْرَةٌ } خالية من الرجال غير محصَّنة يقال : دارٌ مُعْورة إذا كان يسهل دخولُها ، قال الجوهري : العَوْرة كلُّ خلل يُتخوف منه في ثَغر أو حرب . { أَقْطَارِهَا } جمع قُطْر وهو الناحية والجانب . { يَعْصِمُكُمْ } يمنعكم . { ٱلْمُعَوِّقِينَ } المثبطين مشتق من عاقه إذا صرفه . سَبَبُ النّزول : أ - روي أن رجلاً من قريش يُدعى " جميل بن مَعْمر " كان لبيباً حافظاً لما يسمع , فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان في جوفه فأنزل الله { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ … } الآية . ب - وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالتجهز والخروج لها ، فقال أناس : نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … } الآية . التفسِير : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } النداء على سبيل التشريف والتكرمة لأن لفظ النبوة مشعر بالتعظيم والتكريم أي اثبتْ على تقوى الله ودُمْ عليها ، قال أبو السعود : في ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان النبوة تنويهٌ بشأنه ، وتنبيهٌ على سمو مكانه ، والمراد بالتقوى المأمور به الثباتُ عليه والازديادُ منه ، فإِنَّ له باباً واسعاً ومكاناً عريضاً لا يُنال مداه { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل ، وعدم التعرض لآلهتهم بسوء ، ولا تقبل أقوالهم وإِن أظهروا أنها نصيحة ، قال المفسرون : دعا المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفض ذكر آلهتهم بسوء ، وأن يقول إن لها شفاعة ، فكره صلى الله عليه وسلم ذلك ونزلت الآية { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي إنه تعالى عالم بأعمال العباد وما يضمرونه في نفوسهم ، حكيم في تدبير شؤونهم { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } أي واعمل بما يوحيه إليك ربك من الشرع القويم ، والدين الحكيم ، واستمسك بالقرآن المنزل عليك { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي خبيرٌ بأعمالكم لا تخفى عليه خافية من شئونكم ، وهو مجازيكم عليها { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ } أي اعتمد عليه ، والجأ في جميع أمورك إليه { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي حسبك أن يكون الله حافظاً وناصراً لك ولأصحابك ، ثم ردَّ تعالى مزاعم الجاهليين ببيان الحق الساطع فقال : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } أي ما خلق الله لأحدٍ من الناس أياً كان قلبين في صدره ، قال مجاهد : نزلت في رجلٍ من قريش كان يُدعى " ذا القلبين " من دهائه , وكان يقول : إنَّ في جوفي قلبين أعقل بكلِ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } أي وما جعل زوجاتكم اللواتي تظاهرون منهنَّ أمهاتكم ، قال ابن الجوزي : أعلمَ تعالى أن الزوجة لا تكونُ أُماً ، وكانت الجاهلية تُطلّق بهذا الكلام وهو أن يقول لها : أنتِ عليَّ كظهر أمي { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } أي وما جعل الأبناء من التبني الذين ليسوا من أصلابكم أبناءً لكم حقيقةً { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } أي دعاؤهم أبناء مجرد قول بالفم لا حقيقة له من الواقع { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } أي والله تعالى يقول الحقَّ الموافق للواقع ، والمطابق له من كل الوجوه { وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } أي يرشد إلى الصراط المستقيم ، والغرضُ من الآية التنبيهُ على بطلان مزاعم الجاهلية ، فكما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً ، ولا الولد المتبنَّى ابناً ، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته ، والابن الحقيقي هو الذي وُلد من صلب الرجل ، فكيف يجعلون الزوجات المظاهر منهن أمهات ؟ وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم مع أنهم ليسوا من أصلابهم ؟ ثم أمر تعالى بردّ نسب هؤلاء إلى آبائهم فقال : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أي انسبوا هؤلاء الذين جعلتموهم لكم أبناء لآبائهم الأصلاء { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أي هو أعدلُ وأقسط في حكم الله وشرعه قال ابن جرير : أي دعاؤكم إياهم لآبائهم هو أعدل عند الله وأصدقُ وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } أي فإِن لم تعرفوا آباءهم الأصلاء فتنسبوهم إليهم فهم إخوانكم في الإِسلام { وَمَوَالِيكُمْ } أي أولياؤكم في الدين ، فليقل أحدكم : يا أخي ويا مولاي يقصد أخوَّة الدين وولايته ، قال ابن كثير : أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عُرفوا ، فإِن لم يُعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم ، عوضاً عما فاتهم من النسب ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : " أنت أخونا ومولانا " وقال ابن عمر : ما كنا ندعو " زيد ابن حارثة " إلا زيد بن محمد حتى نزلت { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي وليس عليكم أيها المؤمنون ذنبٌ أو إثم فيمن نسبتموهم إلى غير آبائهم خطأً { وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } أي ولكنَّ الإِثم فيما تقصدتم وتعمدتم نسبته إلى غير أبيه { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي واسع المغفرة عظيم الرحمة , يعفو عن المخطئ ويرحم المؤمن التائب ، ثم بيَّن تعالى شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم فقال : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي هو عليه السلام أرأف بهم وأعطف عليهم ، وأحقُّ بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ وطاعته أوجب { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي وزوجاتُه الطاهرات أمهات المؤمنين في وجوب تعظيمهن واحترامهن ، وتحريم نكاحهنَّ قال أبو السعود : أي منزّلات منزلة الأمهات ، في التحريم واستحقاق التعظيم ، وأما فيما عدا ذلك فهنَّ كالأجنبيات { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ } أي أهل القرابات { بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } أي أحقُّ بالإِرث من المهاجرين والأنصار في شرع الله ودينه { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } أي إلاّ أن تحسنوا إلى إخوانكم المؤمنين والمهاجرين في حياتكم ، أو توصوا إليهم عند الموت فإِن ذلك جائز ، وبسط اليد بالمعروف مما حثَّ الله عباده عليه قال المفسرون : وهذا نسخٌ لما كان في صدر الإِسلام من توارث المسلمين من بعضهم بالأخوة الإِيمانية وبالهجرة ونحوها { كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } أي كان حكم التوارث بين ذوي الأرحام مكتوباً مسطراً في الكتاب العزيز لا يبدل ولا يُغير ، قال قتادة : أي مكتوباً عند الله عز وجل أَلاَّ يرث كافر مسلماً { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ } أي اذكر وقت أخذنا من النبيين عهدهم المؤكد باليمين ، أن يفوا بما التزموا ، وأن يصدِّق بعضهم بعضاً , وأن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالاتهم { وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } أي وأخذنا منك يا محمد الميثاق ومن نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى ، وهؤلاء هم أولو العزم ومشاهير الرسل ، وإِنما قدَّمه صلى الله عليه وسلم في الذكر لبيان مزيد شرفه وتعظيمه ، قال البيضاوي : خصَّهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع ، وقدَّم نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيماً له وتكريماً لشأنه وقال ابن كثير : بدأ بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه ، وبياناً لعظم مكانته ، ثم رتبهم بحسب وجودهم في الزمان { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } أي وأخذنا من الأنبياء عهداً وثيقاً عظيماً على الوفاء بما التزموا به من تبليغ الرسالة { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } أي ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الصادقين عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، قال الصاوي : والحكمة في سؤال الرسل مع علمه تعالى بصدقهم هو التقبيح على الكفار يوم القيامة وتبكيتهم وقال القرطبي : وفي الآية تنبيه على أن الأنبياء إذا كانوا يُسألون يوم القيامة فكيف بمن سواهم ؟ وفائدة سؤالهم توبيخ الكفار كما قال تعالى لعيسى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ } [ المائدة : 116 ] { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } أي وأعد الله للكافرين عذاباً مؤلماً موجعاً ، بسبب كفرهم وإِعراضهم عن قبول الحق ، ثم شرع تعالى في ذكر " غزوة الأحزاب " وما فيها من نِعَمٍ فائضة ، وآيات باهرة للمؤمنين فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي اذكروا فضله وإِنعامه عليكم { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } أي وقت مجيء جنود الأحزاب وتألبهم عليكم ، قال أبو السعود : والمراد بالجنود الأحزاب وهم قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة وبني النضير ، وكانوا زهاء اثني عشر ألفاً ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلام بإِقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإِشارة " سلمان الفارسي " ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب معسكره والخندقُ بينه وبين المشركين ، واشتد الخوف وظنَّ المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق في المنافقين حتى قال " معتب بن قشير " يعدنا محمد كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } أي فأرسلنا على الأحزاب ريحاً شديدة وجنوداً من الملائكة لم تروهم وكانوا قرابة ألف قال المفسرون : بعث الله عليهم ريحاً عاصفاً وهي ريح الصبا في ليلة شديدة البرد والظلمة ، فقلعت بيوتهم ، وكفأت قدورهم ، وصارت تلقي الرجل على الأرض ، وأرسل الله الملائكة فزلزلتهم ولم تقاتل بل ألقت في قلوبهم الرعب { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } أي وهو تعالى مطلع على ما تعملون من حفر الخندق ، والثبات على معاونة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } أي حين جاءتكم الأحزاب من فوق الوادي يعني من أعلاه قبل المشرق ، ومنه جاءت أسد وغطفان { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي ومن أسفل الوادي يعني أدناه قِبل المغرب ، ومنه جاء قريش وكنانة وأوباش العرب ، والغرضُ أن المشركين جاءوهم من جهة المشرق والمغرب ، وأحاطوا بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم ، وأعانهم يهود بني قريظة فنقضوا العهد مع الرسول وانضموا إلى المشركين ، فاشتد الخوف ، وعظُم البلاء ولهذا قال تعالى { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ } أي وحين مالت الأَبصار عن سننها ومستوى نظرها حيرةً وشخوصاً لشدة الهول والرعب { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى كادت تبلغ الحناجر ، وهذا تمثيلٌ لشدة الرعب والفزع الذي دهاهم ، حتى كأن أحدهم قد وصل قلبه إلى حنجرته من شدة ما يلاقي من الهول { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } أي وكنتم في تلك الحالة الشديدة تظنون الظنون المختلفة ، قال الحسن البصري : ظن المنافقون أن المسلمين يُستأصلون ، وظنَّ المؤمنون أنهم يُنصرون ، فالمؤمنون ظنوا خيراً ، والمنافقون ظنوا شراً ، وقال ابن عطية : كاد المؤمنون يضطربون ويقولون : ما هذا الخُلف للوعد ؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها ، وأما المنافقون فتعجلوا ونطقوا وقالوا : ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي في ذلك الزمان والمكان امتحن المؤمنون واختبروا ، ليتميز المخلص الصادق من المنافق قال القرطبي : وكان هذا الابتلاءُ بالخوف والقتال ، والجوع والحصر والنزال { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } أي وحرّكوا تحريكاً عنيفاً من شدة ما دهاهم ، حتى لكأن الأرض تتزلزل بهم وتضطرب تحت أقدامهم ، قال ابن جزي : وأصل الزلزلة شدةُ التحريك وهو هنا عبارة عن اضطراب القلوب وتزعزعها { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي واذكر حين يقول المنافقون ، والذين في قلوبهم مرض النفاق ، لأن الإِيمان لم يخالط قلوبهم { مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } أي وما وعدنا الله ورسوله إلا باطلاً وخداعاً ، قال الصاوي : والقائل هو " معتب بن قشير " الذي قال : يعدنا محمدٌ بفتح فارس والروم ، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً ، ما هذا إلا وعد غرور ، يغرنا به محمد { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } أي واذكر حين قالت جماعة من المنافقين وهم : أوس بن قيظي وأتباعه ، وأُبيُّ بن سلول وأشياعه { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي يا أهل المدينة لا قرار لكم هٰهنا ولا إقامة { فَٱرْجِعُواْ } أي فارجعوا إلى منازلكم واتركوا محمداً وأصحابه { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ } ويستأذن جماعة من المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في الإِنصراف متعللين بعلل واهية { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي غير حصينة فنخاف عليها العدوَّ والسُّراق { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } تكذيب من الله تعالى لهم أي ليس الأمر كما يزعمون { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أي ما يريدون بما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الهرب من القتال ، والفرار من الجهاد ، والتعبيرُ بالمضارع { وَيَسْتَأْذِنُ } لاستحضار الصورة في النفس ، فكأن السامع يبصرهم الآن وهم يستأذنون ، ثم فضحهم تعالى وبيَّن كذبهم ونفاقهم فقال : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي ولو دخل الأعداء على هؤلاء المنافقين من جميع نواحي المدينة وجوانبها { ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا } أي ثم طلب إليهم أن يكفروا وأن يقاتلوا المسلمين لأعطوها من أنفسهم { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } أي لفعلوا ذلك مسرعين ، ولم يتأخروا عنه لشدة فسادهم ، وذهاب الحق من نفوسهم ، فهم لا يحافظون على الإِيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع ، وهذا ذمٌ لهم في غاية الذم { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ } أي ولقد كان هؤلاء المنافقون أعطوا ربهم العهود والمواثيق من قبل غزوة الخندق وبعد بدر ألا يفروا من القتال { وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } أي وكان هذا العهد منهم جديراً بالوفاء لأنهم سيسألون عنه ، وفيه تهديدٌ ووعيد ، قال قتادة : لما غاب المنافقون عن بدر ، ورأوا ما أعطى الله أهل بدرٍ من الكرامة والنصر ، قالوا لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } أي قل يا أيها النبي لهؤلاء المنافقين ، الذين يفرون من القتال طمعاً في البقاء وحرصاً على الحياة ، إن فراركم لن يطوّل أعماركم ولن يؤخر آجالكم ، ولن يدفع الموت عنكم أبداً { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي ولئن هربتم وفررتم فإِذاً لا تمتعون بعده إلا زمناً يسيراً ، لأن الموت مآل كل حي ، ومن لم يمت بالسيفِ مات بغيره { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ } أي من يستطيع أن يمنعكم منه تعالى { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } أي إن قدَّر هلاككم ودماركم ، أو قدَّر بقاءكم ونصركم ؟ { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي وليس لهم من دون الله مجير ولا مغيث ، فلا قريب ينفعهم ولا ناصر ينصرهم { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } أي لقد علم الله تعالى ما كان من أمر أولئك المنافقين ، المثبطين للعزائم ، الذين يعّوقون الناس عن الجهاد ، ويصدونهم عن القتال { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي والذين يقولون لإِخوانهم في الكفر والنفاق : تعالوا إلينا واتركوا محمداً وصحبه يهلكوا ولا تقاتلوا معهم ، قال تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي ولا يحضرون القتال إلا قليلاً منهم رياءً وسمعة ، قال الصاوي : لأن شأن من يثبّط غيره عن الحرب ألاّ يفعله إلا قليلاً لغرضٍ خبيث وقال في البحر : المعنى : لا يأتون القتال إلا إتياناً قليلاً ، يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم ، ولا تراهم يقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه ، فقتالُهم رياء ليس بحقيقة { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بخلاء عليكم بالمودة والشفقة والنصح لأنهم لا يريدون لكم الخير { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } أي فإِذا حضر القتال رأيت أولئك المنافقين في شدة رعب لا مثيل لها ، حتى إنهم لتدور أعينهم في أحداقهم كحال المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حَذراً وخَوراً ، قال القرطبي : وصفهم بالجبن ، وكذا سبيل الجبان ينظر يميناً وشمالاً محدّداً بصره ، وربما غُشي عليه من شدة الخوف { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي فإِذا ذهب الخوف عنهم وانجلت المعركة آذوكم بالكلام بألسنة سليطة ، وبالغوا فيكم طعناً وذماً ، قال قتادة : إذا كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم يقولون : أعطونا أعطونا فإِنا قد شهدنا معكم ، ولستم أحقَّ بها منا ، فأما عند البأس فأجبن قومٍ وأخذلهم للحق ، وأمّا عند الغنيمة فأشح قوم وأبسطهم لساناً { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } أي خاطبوكم بما خاطبوكم به حال كونهم أشحة أي بخلاء على المال والغنيمة { أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ } أي أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء ، لم يؤمنوا حقيقةً بقلوبهم وإِن أسلموا ظاهراً { فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها بسبب كفرهم ونفاقهم ، لأن الإِيمان شرط في قبول الأعمال { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي وكان ذلك الإِحباط سهلاً هيناً على الله ، ثم أخبر تعالى عنهم بما يدل على جبنهم فقال : { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم أن الأحزاب وهم كفار قريش ومن تحزب معهم بعد انهزامهم لم ينصرفوا عن المدينة وهم قد انصرفوا { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ } أي وإِن يرجع إليهم الكفار كرة ثانية للقتال يتمنوا لشدة جزعهم أن يكونوا في البادية من الأعراب لا في المدينة معكم حذراً من القتل وتربصاً للدوائر { يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي يسألون عن أخباركم وما وقع لكم فيقولون : أهلك المؤمنون ؟ أغلب أبو سفيان ؟ ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي ولو أنهم كانوا بينكم وقت القتال واحتدام المعركة ما قاتلوا معكم إلا قتالاً قليلاً ، لجبنهم وذلتهم وحرصهم على الحياة . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التنكير لإِفادة الاستغراق والشمول { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ } وإِدخال حرف الجر الزائد لتأكيد الاستغراق ، وذكر الجوف { فِي جَوْفِهِ } لزيادة التصوير في الإِنكار . 2 - جناس الاشتقاق { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } . 3 - الطباق بين { أَخْطَأْتُمْ … و … تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } وبين { سُوۤء … و … رَحْمَةً } لأن المراد بالسوء الشر ، وبالرحمة الخير . 4 - التشبيه البليغ { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } حُذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه فصار بليغاً ، وأصل الكلام وأزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم ، والإِجلال والتكريم . 5 - المجاز بالحذف { أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } أي أولى بميراث بعض . 6 - ذكر الخاص بعد العام للتشريف { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } فقد دخل هؤلاء المذكورون في جملة النبيين ولكنه خصهم بالذكر تنويهاً بشأنهم وتشريفاً لهم . 7 - الاستعارة { مِّيثَاقاً غَلِيظاً } استعار الشيء الحسي وهو الغلظُ الخاص بالأجسام للشيء المعنوي وهو بيان حرمة الميثاق وعظمه وثقل حمله . 8 - الالتفات { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ } وغرضه التبكيت والتقبيح للمشركين . 9 - الطباق بين { مِّن فَوْقِكُمْ … و … أَسْفَلَ مِنكُمْ } . 10 - التشبيه التمثيلي { تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } لأن وجه الشبه منتزع من متعدد . 11 - المبالغة في التمثيل { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } صوَّر القلوب في خفقانها واضطرابها كأنها وصلت إلى الحلقوم . 12 - الكناية { لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ } كناية عن الفرار من الزحف . 13 - الاستعارة المكنية { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } شبَّه اللسان بالسيف المصلت وحذف ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق بمعنى الضرب على طريق الاستعارة المكنية ، ولفظ { حِدَادٍ } ترشيح . 14 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل { كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً … مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } ونحوه وهو يزيد في رونق الكلام وجماله ، لما له من وقع رائع ، وجرْس عذب . تنبيه : خاطب الله تعالى الأنبياء بأسمائهم فقال { يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [ هود : 48 ] ، { يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ } [ الصافات : 104ـ105 ] ، { يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [ الأعراف : 144 ] ولم يخاطب الرسول إلا بلفظ النبوة والرسالة { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ } [ الأنفال : 64 ] ، { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [ المائدة : 67 ] الخ ولا نجد في القرآن العظيم كله نداءً له باسمه ، وإِنما النداء بلفظ النبوة والرسالة ، وفي هذا تفخيم لشأنه ، وتعظيم لمقامه ، وإشارة إلى أنه سيد الأولين والآخرين ، وإِمام الأنبياء والمرسلين ، وتعليم لنا الأدب معه صلى الله عليه وسلم ، فلا نذكره إلا مع الإِجلال والإِكرام ، ولا نصفه إلا بالوصف الأكمل { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } [ النور : 63 ] ، { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } [ الحجرات : 3 ] الآية . لطيفَة : إن قيل : ما الفائدة بأمر اللهِ رسوله بالتقوى وهو سيد المتقين ؟ فالجواب أنه أمرٌ بالثبات والاستدامة على التقوى كقوله { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] أي اثبتوا على الإِيمان وكقول المسلم : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] وهو مهتد إليه وغرضه ثبتنا على الصراط المستقيم ، أو نقول : الخطاب للرسول والمراد أمته .