Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 21-35)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى غزوة الأحزاب ، وموقف المنافقين المذبذبين منها ، بالقعود عن الجهاد ، وتثبيط العزائم ، أمر المؤمنين في هذه الآيات بالاقتداء بالرسول الكريم في صبره وثباته ، وتضحيته وجهاده ، ثم جاء الحديث عن زوجات رسول الله الطاهرات ، وأمرهنَّ بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في زهده ، وعدم التطلع إلى زهرة الدنيا لأنهن قدوة لسائر نساء المؤمنين . اللغَة : { أُسْوَةٌ } الأسوة : القُدوة وفيها لغتان كسر الهمزة وضمها يقال : ائتسى فلان بفلان أي اقتدى به . { نَحْبَهُ } النَّحب : النذرُ والعهد يقال : نَحَبَ ينحب من باب قَتل نذر ، ومن باب ضرب بكى ، قال لبيد : @ ألا تسْألانِ المرءَ ماذا يُحاول أنحْبٌ فيُقضى أم ضلال وباطل @@ ويقال : قضى نحبه إذا مات ، وعبَّر به عن الموت لأن كل حي لا بدَّ أن يموت ، فكأنه نذر لازم في رقبته فإِذا مات فقد قضى نحبه أي نذره . { صَيَاصِيهِمْ } حصونهم جمع صيصية وهو ما يتحصن به ، قال الشاعر : @ فأصبحت الثيرانُ صَرْعى وأصبحت نساءُ تميم يبْتدرنَ الصَّياصيا @@ { أُمَتِّعْكُنَّ } متعة الطلاق ، وأصل المتاع ما يُتبلَّغ به من الزاد ، ومنه متعة المطلقة لأنها تنتفع وتتمتع به . { وَأُسَرِّحْكُنَّ } أطلقكنَّ ، وأصل التسريح في اللغة : الإِرسال والإِطلاق . { تَبَرَّجْنَ } تبرجت المرأة : أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب ، وأصله من الظهور ومنه سمي البرج لسعته وظهوره . { وَقَرْنَ } إلزمن بيوتكن من قولهم : قررتُ بالمكان أقرُّ به إذا بقيت فيه ولزمته ، والقرار : مصدر ، وأصل " قرنْ " اقررن حذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها ، واستغني عن ألف الوصل لتحرك القاف . { ٱلرِّجْسَ } في اللغة : القذر والنجاسة ، وعُبّر به هنا عن الآثام لأن عرض المقترف للقبائح يتلوث بها ويتدنس ، كما يتلوث بدنه بالنجاسات . سَبَبُ النّزول : أ - أخرج ابن جرير الطبري عن أنس بن مالك قال : غاب عمي " أنس بن النضر " عن قتال يوم بدر ، فقال : غبتُ عن أول قتالٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لئن أشهدني الله قتالاً ليرينَّ الله ما أصنع ؟ فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون انهزموا فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما فعل هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك ممَّا صنع هؤلاء - يعني المسلمين - ثم مشى بسيفه فلقيه " سعد بن معاذ " فقال : أي سعد والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد ! ثم قاتل حتى قتل ، فقال سعد يا رسول الله : ما استطعت أن أصنع ما صنع ، قال أنس بن مالك : فوجدناه بين القتلى وبه بضع وثمانون جراحة بين ضربةٍ بسيف ، أو طعنةٍ برمح ، أو رمية بسهم ، فما عرفناه حتى جاءت أخته فعرفته ببنانه - رءوس الأصابع قال أنس : فكنا نتحدث أن هذه الآية { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ . . } نزلت فيه وفي أصحابه . ب - وروى الإِمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال : " أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناسُ ببابه جلوس - فلم يُؤذن له ، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يُؤذن له ، ثم أُذن لأبي بكرٍ وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ وحوله نساؤه وهو ساكت ، فقال عمر : لأكلمنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك ! فقال يا رسول الله : لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدتْ نواجذه ، وقال : " هُنَّ حولي يسألنني النفقة " ! فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر إلى حفصه كلاهما يقولان : تسألانِ رسول الله ما ليس عنده ؟ فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن : واللهِ لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده ، وأنزل الله آية الخيار { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها : إني أذكر لكِ أمراً ما أحبُّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية فقالت : أفيك أستأمرُ أبوي ؟ بل أختار اللهَ ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك ألاّ تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت ، فقال : إن الله لم يبعثني معنفاً ولكن بعثني معلماً وميسراً ، لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها " . ج عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبيَّ الله : ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن ، والنساء لا يُذكرن ! ؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ … } الآية . التفسِير : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي لقد كان لكم أيها المؤمنون في هذا الرسول العظيم قدوةٌ حسنة ، تقتدون به صلى الله عليه وسلم في إخلاصه ، وجهاده ، وصبره ، فهو المثل الأعلى الذي يجب أن يُقتدى به ، في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، لأنه لا ينطق ولا يفعل عن هوى ، بل عن وحيٍ وتنزيل ، فلذلك وجب عليكم تتبع نهجه ، وسلوك طريقه { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } أي لمن كان مؤمناً مخلصاً يرجو ثواب الله ، ويخاف عقابه { وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } أي وأكثر من ذكر ربه ، بلسانه وقلبه قال ابن كثير : أمر تبارك وتعالى الناسَ بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته ، ومجاهدته ومرابطته ، ولهذا قال للذين تضجروا وتزلزلوا ، واضطربوا يوم الأحزاب { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } والمعنى : هلاّ اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم ! ! ثم حكى تعالى موقف المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب أثناء رؤيتهم جنود قريش ومن تحزَّب معهم ، وما صدر عن المؤمنين من إخلاصٍ ويقين ، تُظهر بوضوح روح الإِيمان والتضحية فقال { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي ولمَّا رأى المؤمنون الكفار قادمين نحوهم ، وقد أحاطوا بهم من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم ، قالوا : هذا ما وعدنا به الله ورسولُه ، من المحنة والابتلاء ، ثم النصر على الأعداء { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي صدق الله في وعده ، ورسولُه فيما بشرنا به ، قال المفسرون : " لما كان المسلمون يحفرون الخندق اعترضتهم صخرة عظيمة عجزوا عن تكسيرها ، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بها فجاء وأخذ المعول وضربها ثلاث ضربات أضاءت له منها مدائن كسرى ، وقصور الروم ، فقال : أبشروا بالنصر " ، فلما أقبلت جموع المشركين ورأوهم قالوا : { هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } أي وما زادهم ما رأوه من كثرة جند الأحزاب ، ومن شدة الضيق والحصار ، إلا إيماناً قوياً عميقاً بالله ، واستسلاماً وانقياداً لأوامره { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي ولقد كان من أولئك المؤمنين رجالٌ صاقدون ، نذروا أنهم إذا أدركوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي فمنهم من وفّى بنذره وعهده حتى استشهد في سبيل الله كأنس بن النضر وحمزة { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } أي ومنهم من ينتظر الشهادة في سبيل الله { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي وما غيَّروا عهدهم الذي عاهدوا عليه ربهم أبداً { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي ليجزي الله الصادقين بسبب صدقهم وحسن صنيعهم أحسن الجزاء في الآخرة { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي ويعذّب المنافقين الناقضين للعهود بأن يُميتهم على النفاق فيعذبهم ، أو يتوب عليهم فيرحمهم { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي واسع المغفرة رحيماً بالعباد ، قال ابن كثير : ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى هي الغالبة لغضبه ختم بها الآية الكريمة { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ } أي وردَّ الله الأحزاب الذين تألبوا على غزو المدينة خائبين خاسرين ، مغيظين محنقين ، لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي حال كونهم لم ينالوا أيَّ خير لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل قد اكتسبوا الآثام في مبارزة الرسول عليه السلام وهمّهم بقتله { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } أي كفاهم شرَّ أعدائهم بأن أرسل عليهم الريح والملائكة حتى ولّوا الأدبار منهزمين { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } أي قادراً على الانتقام من أعدائه ، عزيزاً غالباً لا يُقهر ، ولهذا كان عليه السلام يقول : " لا إله إلا الله وحده ، نصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده " { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ } أي وأنزل اليهود وهم بنو قريظة الذين أعانوا المشركين ونقضوا عهدهم وانقلبوا على النبي وأصحابه ، أنزلهم من حصونهم وقلاعهم التي كانوا يتحصنون فيها { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } أي ألقى الله في قلوبهم الخوف الشديد حتى فتحوا الحصون واستسلموا قال ابن جزي : نزلت الآية في يهود " بني قريظة " وذلك أنهم كانوا معاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا عهده وصاروا مع قريش ، فلما انهزم المشركون وانصرفت قريش عن المدينة حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة حتى نزلوا على حكم " سعد بن معاذ " فحكم بأن يُقتل رجالهم ، ويُسبى نساءهم وذريتهم فذلك قوله تعالى : { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } يعني الرجال وقتل منهم يومئذٍ ما بين الثمانمائة والتسعمائة { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } يعني النساء والذرية { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } أي وأورثكم يا معشر المؤمنين أرض بني قريظة وعقارهم وخيلهم ومنازلهم وأموالهم التي تركوها { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي وأرضاً أخرى لم تطؤوها بعدُ بأقدامكم ، وهي خيبر لأنها أخذت بعد قريظة ، وكل أرض فتحها المسلمون بعد ذلك { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } أي قادراً على كل ما أراد ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، قال أبو حيان : ختم تعالى هذه الآية ببيان قدرته على كل شيء ، وكأن في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة ، فكما ملَّكهم هذه الأراضي فكذلك هو قادر على أن يملّكهم غيرها من البلاد { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ } أي قل لزوجاتك اللاتي تأذيتَ منهن بسبب سؤالهن إياك الزيادة في النفقة { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } أي إن رغبتُنَّ في سعة الدنيا ونعيمها ، وبهرجها الزائل { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } أي فتعالينَ حتى أدفع لكنَّ متعة الطلاق { وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي وأطلقكُنَّ طلاقاً من غير ضرار { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أي وإِن كنتُنَّ ترغبن في رضوان الله ورسوله ، والفوز بالنعيم الوافر في الدار الآخرة { فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } جواب الشرط أي فإِن الله تعالى قد هيأ للمحسنات منكنَّ بمقابلة إحسانهن ثواباً كبيراً لا يوصف ، وهو الجنة التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، قال في البحر : لما نصر الله نبيه ، وفرَّق عنه الأحزاب ، وفتح عليه قريظة والنظير ، ظنَّ أزواجه أنه اختصَّ بنفائس اليهود وذخائرهم ، فقعدن حوله وقلن يا رسول الله : بناتُ كسرى وقيصر في الحُليّ والحُلَل ، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق ! ! وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال ، وأن يعاملهنَّ بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم ، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهنَّ ، وأزواجه إذ ذاك تسع زوجات { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي من تفعل منكن كبيرةً من الكبائر ، أو ذنباً تجاوز الحدَّ في القبح ، قال ابن عباس : يعني النشوز وسوء الخلق { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } أي يكون جزاؤها ضعف جزاء غيرها من النساء ، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي كان ذلك العقاب سهلاً يسيراً على الله ، لا يمنعه منه كونهنَّ أزواج ونساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الآية تلوينٌ للخطاب ، فبعد أن كانت المخاطبة لهن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَّه الخطاب إليهنَّ هنا مباشرةً لإِظهار الاعتناء بأمرهن ونصحهن ، قال الصَّاوي : وهذه الآيات خطاب من الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إظهاراً لفضلهن ، وعظم قدرهن عند الله تعالى ، لأن العتاب والتشديد في الخطاب مشعر برفعة رتبتهن ، لشدة قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنهن أزواجه في الجنة ، فبقدر القرب من رسول الله يكون القرب من الله { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } أي ومن تواظب منكنَّ على طاعة الله وطاعة رسوله { وَتَعْمَلْ صَالِحاً } أي وتتقرب إلى الله بفعل الخير وعمل الصالحات { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أي نعطها الثواب مضاعفاً ونثيبها مرتين : مرة على الطاعة والتقوى ، وأخرى على طلبهنَّ رضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } أي وهيأنا لها في الجنة زيادة على ما لها من أجر رزقاً حسناً مرضياً لا ينقطع ، ثم أظهر فضيلتهنَّ على النساء فقال : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } أي أنتن تختلفن عن سائر النساء من جهة أنكنَّ أفضل وأشرف من غيركن ، لكونكن زوجات خاتم الرسل ، وأفضل الخلق محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ، فليست الواحدة منكنَّ كالواحدة من آحاد النساء { إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } شرطٌ حذف جوابه لدلالة ما قبله أي إن اتقيتنَّ اللهَ فأنتُنَّ بأعلى المراتب قال القرطبي : بيَّن تعالى أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى ، لما منحهنَّ الله من صحبة رسوله سيد الأولين والآخرين ، وقال ابن عباس : يريد في هذه الآية : ليس قدركنَّ عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتُنَّ أكرمُ عليَّ وثوابكنَّ أعظم إن اتقيتُن ، فشرط عليهن التقوى بياناً أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى ، لا بنفس اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي فلا ترققن الكلام عند مخاطبة الرجال { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي فيطمع مَن كان في قلبه فجور وريبة ، وحبٌ لمحادثة النساء { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي وقلن قولاً حسناً عفيفاً لا ريبة فيه ، ولا لين ولا تكسر عند مخاطبتكنَّ للرجال قال ابن كثير : ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلامٍ ليس فيه ترخيم ، ولا تخاطب الأجنبيَّ كما تخاطب زوجها { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي الزَمْنَ بيوتكنَّ ولا تخرجن لغير حاجة ، ولا تفعلن كما تفعل الغافلات ، المتسكعات في الطرقات لغير ضرورة { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } أي لا تظهرن زينتكن ومحاسنكنَّ للأجانب مثل ما كان نساء الجاهلية يفعلن ، حيث كانت تخرج المرأة إلى الأسواق مظهرةً لمحاسنها ، كاشفة ما لا يليق كشفه من بدنها قال قتادة : كانت لهن مشية فيها تكسُّرٌ وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ } أي حافظن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، قال ابن كثير : نهاهنَّ أولاً عن الشر ، ثم أمرهن بالخير ، من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده ، وإيتاء الزكاة وهي الإِحسان إلى المخلوقين { وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي أطعن الله ورسوله في جميع الأوامر والنواهي لتنلن مرتبة المتقيات { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ } أي إنما يريد الله أن يخلصكنَّ من دنس المعاصي ، ويطهركنَّ من الآثام ، التي يتدنس بها عرض الإِنسان كما يتلوث بدنه بالنجاسات { أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } أي يا أهل بيت النبوة { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } أي ويطهركم من أوضار الذنوب والمعاصي تطهيراً بليغاً { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } أي وأقرأن آيات القرآن ، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، فإِن فيهما الفلاح والنجاح ، قال الزمخشري : ذكّرهن أن بيوتهن مهابط الوحي ، وأمرهنَّ ألا ينسين ما يُتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين : آيات بينات تدل على صدق النبوة ، وحكمة وعلوم وشرائع سماوية { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي عالماً بما يصلح لأمر العباد ، خبيراً بمصالحهم ولذلك شرع للناس ما يُسعدهم في دنياهم وآخرتهم ، ثم أخبر تعالى أن المرأة والرجل في الجزاء والثواب سواء فقال : { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ } هم المتمسكون بأوامر الإِسلام المتخلقون بأخلاقه رجالاً ونساءً { وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي المصدِّقين بالله وآياته ، وما أُنزل على رسله وأنبيائه { وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْقَانِتَاتِ } أي العابدين الطائعين ، المداومين على الطاعة { وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلصَّادِقَاتِ } أي الصادقين في إيمانهم ، ونياتهم ، وأقوالهم ، وأعمالهم { وَٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّابِرَاتِ } أي الصابرين على الطاعات وعن الشهوات في المكره والمنشط { وَٱلْخَاشِعِينَ وَٱلْخَاشِعَاتِ } أي الخاضعين الخائفين من الله جل وعلا ، المتواضعين له بقلوبهم وجوارحهم { وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ } أي المتصدقين بأموالهم على الفقراء ، بالإِحسان وأداء الزكوات { وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ } أي الصائمين لوجه الله شهر رمضان وغيره من الأيام ، فالصوم زكاة البدن يزكيه ويطهّره { وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ } أي عن المحارم والآثام ، وعما لا يحل من الزنى وكشف العورات { وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ } أي المديمين ذكر الله بألسنتهم وقلوبهم في كل الأوقات والأمكنة { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } أي أعدَّ لهؤلاء المتقين الأبرار ، المتصفين بالصفات الجليلة أعظم الأجر والثواب وهو الجنة ، مع تكفير الذنوب بسبب ما فعلوه من الأعمال الحسنة . البَلاَغَة : تضمنت الآيات وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الإِطناب بتكرار الاسم الظاهر { هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } كرر الإِسم الكريم للتشريف والتعظيم . 2 - الاستعارة { قَضَىٰ نَحْبَهُ } النحبُ ، النذر ، واستعير للموت لأنه نهاية كل حي ، فكأنه نذر لازم في رقبة الإِنسان . 3 - الجملة الاعتراضية { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } للتنبيه على أن أمر العذاب أو الرحمة موكول لمشيئته تعالى . 4 - المقابلة بين { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } وبين { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } . 5 - التشبيه البليغ { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } أي كتبرج أهل الجاهلية حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فصار بليغاً . 6 - عطف العام على الخاص { وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بعد قوله : { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ } فإِن إطاعة الله ورسوله تشمل كل ما تقدم من الأوامر والنواهي . 7 - الاستعارة { يُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ … وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } استعار الرجس للذنوب ، والطهر للتقوى لأن عرض المرتكب للمعاصي يتندس ، وأما الطاعة فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر . 8 - الإِيجاز بالحذف { وَٱلْحَافِـظَاتِ } حذف المفعول لدلالة السابق عليه أي والحافظات فروجهن . 9 - التغليب { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم } غلَّب الذكور وجمع الإِناث معهم ثم أدرجهم في الضمير . 10 - توافق الفواصل مثل { يَسِيراً ، قَدِيراً ، كَثِيراً } وهو من المحسنات البديعية .