Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 36-52)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى صفات المؤمنين وما نالوه من الدرجات الرفيعة ، أعقبها ببيان أن طاعة الرسول من طاعة الله ، وأمر الرسول من أمر الله ، ثم ذكّرهم تعالى بالنعمة العظمى وهي بعثة السراج المنير ، المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم . اللغَة : { ٱلْخِيَرَةُ } مصدر بمعنى الاختيار من تخيَّر على غير قياس مثل الطيرة من تطيَّر { مُبْدِيهِ } أبدى الشيء : أظهره { وَطَراً } الوطر : الحاجة التي هي في النفس قال الزجاج : الوطر الحاجةُ التي لك فيها هِمَّة فإِذا بلغها الإِنسان يقال : قضى وطره ، وقال المبرّد : الوطرُ : الشهوةُ يقال : ما قضيتُ من لقائك وَطَراً أي ما استمتعتُ بك كما تشتهي نفسي وأنشد : @ وكيفَ ثَوابي بالمدينةِ بعدما قَضَى وطراً منها جميل بن معمر @@ { حَرَجٍ } ضيق وإِثم { خَلَوْاْ } مضو وذهبوا { قَدَراً مَّقْدُوراً } قضاءً مقضياً في الأزل { بُكْرَةً } البُكرة : هي أول النهار { أَصِيلاً } الأصيل : آخر النهار { تُرْجِي } تؤخر يقال أرجيتُ الأمر وأرجأته إذا أخرته { تُؤْوِيۤ } تضم ومنه { آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ } [ يوسف : 69 ] . سَبَبُ النّزول : عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لمولاه " زيد بن حارثة " فاستنكفت منه وكرهت وأبت فنزلت الآية { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … } الآية فأذعنت زينب حينئذٍ وتزوجته … وفي رواية فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله لنسبها من قريش فلما نزلت الآية جاء أخوها فقال يا رسول الله مرني بما شئت قال : فزوِّجها من زيد ، فرضي وزوَّجها . التفسِير : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } أي لا ينبغي ولا يصح ولا يليق بأي واحدٍ من المؤمنين والمؤمنات { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } أي إذا أمر الله عز وجل وأمر رسوله بشيءٍ من الأشياء قال الصاوي : ذكرُ اسم الله للتعظيم وللإِشارة إلى أن قضاء رسول الله هو قضاء الله لكونه لا ينطق عن الهوى { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } أي أن يكون لهم رأيٌ أو اختيار ، بل عليهم الانقياد والتسليم ، قال ابن كثير : وهذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسولُه بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالفته ، ولا اختيار لأحدٍ ولا رأي ولا قول ، ولهذا شدَّد النكير فقال : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } أي ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله فقد حاد عن الطريق السوي ، وأخطأ طريق الصواب ، وضلَّ ضلالاً بيّناً واضحاً { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أي اذكر أيها الرسول وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالهداية للإِسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بالتحرير من العبودية والإِعتاق ، قال المفسرون : هو " زيد بن حارثة " كان من سبي الجاهلية اشترته " خديجة " ووهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مملوكاً عنده ثم أعتقه وتبنَّاه ، وزوَّجه ابنة عمته " زينب بنت جحش " رضي الله عنها { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } أي أمسكْ زوجتك زينب في عصمتك ولا تطلّقها ، واتّقِ الله في أمرها { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } أي وتضمر يا محمد في نفسك ما سيظهره الله وهو إرادة الزواج بها قال في التسهيل : الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائز مباح لا إثم فيه ولا عتب ، ولكنه خاف أن يقول الناس تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه ، فأخفاه حياءً وحشمة وصيانة لعرضه من ألسنتهم ، فالذي أخفاه صلى الله عليه وسلم هو إرادة تزوجها ليبطل حكم التبني فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوجها { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } أي تهاب أن يقول الناسُ تزوج محمد حليلة ابنه ، واللهُ أحقُّ أن تخشاه وحده ، وأن تجهر بما أوحاه إليك من أنك ستتزوج بها بعد أن يطلقها زيدٌ ، قال ابن عباس : خشي أن يقول المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } أي فلما قضى زيدٌ حاجته من نكاحها وطلَّقها زوجناك إياها يا محمد ، وهذا نصٌ قاطع صريح على أن الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إرادة الزواج بها بعد تطليق زيدٍ لها تنفيذاً لأمر الوحي ، لا حبُّه لها كما زعم الأفَّاكون ، ومعنى { زَوَّجْنَاكَهَا } جعلناها زوجةً لك ، قال المفسرون : إنَّ الذي تولَّى تزويجها هو الله جل وعلا ، فلما انقضت عدتها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إذنٍ ولا عقدٍ ولا مهرٍ ولا شهود ، وكان ذلك خصوصية للرسول صلى لله عليه وسلم روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " كانت زينبُ تفخَر على أزواج النبي صلى لله عليه وسلم وتقول : زوَّجكُنَّ أهاليكُنَّ ، وزوَّجني ربي من فوقِ سبع سموات " ثم ذكر تعالى الحكمة من هذا الزواج فقال : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أي لئلا يكون في تشريع الله على المؤمنين ضيق ومشقة وتأثم في حق تزوج مطلقات الأبناء من التبني ، إذا لم يبق لأزواجهن حاجة فيهن ، قال ابن الجوزي : المعنى زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنَّيته لكيلا يُظنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحل نكاحها { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي وكان أمر الله لك ، ووحيه إليك بتزوج زينب مقدَّراً محتماً كائناً لا محالة ، ولما نفى الحرج عن المؤمنين ، نفى الحرج عن سيد المرسلين بخصوصه على سبيل التكريم والتشريف فقال : { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } أي لا حرج ولا إثم ولا عتاب على النبي فيما أباح الله له وقسم من الزوجات ، قال الضحاك : كان اليهود عابوه بكثرة النكاح ، فردَّ الله عليهم بقوله : { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي هذه سنة الله في جميع الأنبياء السابقين حيث وسَّع عليهم فيما أباح لهم ، قال القرطبي : أي سنَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم في التوسعة عليه في النكاح ، سنة الأنبياء الماضية كداود وسليمان ، فكان لداود مائة امرأة ولسليمان ثلاثمائة امرأة ، عدا السُّريات { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } أي قضاءً مقضياً ، وحكماً مقطوعاً به من الأزل ، لا يتغيَّر ولا يتبدَّل ، ثم أثنى تعالى على جميع الأنبياء والمرسلين بقوله : { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } أي هؤلاء الذين أخبرتك عنهم يا محمد وجعلتُ لك قدوة بهم ، هم الذين يبلّغون رسالاتِ الله إلى من أُرسلوا إليه { وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } أي يخافون الله وحده ولا يخافون أحداً سواه ، فاقتد يا محمد بهم { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } أي يكفي أن يكون الله محاسباً على جميع الأعمال والأفعال ، فينبغي أن لا يُخْشى غيره ، ثم أبطل تعالى حكم التبني الذي كان شائعاً في الجاهلية فقال : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } قال المفسرون : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس : إن محمداً قد تزوج امرأة ابنه فنزلت هذه الآية قال الزمخشري : أي لم يكن أبا رجلٍ منكم على الحقيقة ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } أي ولكنّه عليه السلام آخر الأنبياء والمرسلين ، ختم الله به الرسالات السماوية ، فلا نبيَّ بعده قال ابن عباس : يريد : لو لم أختم به النبيّين لجعلتُ له ولداً يكون بعده نبياً { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي هو العالم بأقوالكم وأفعالكم ، لا تخفى عليه خافية من أحوالكم { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } أي اذكروا الله بالتهليل والتحميد ، والتمجيد والتقديس ذكراً كثيراً ، بالليل والنهار ، والسفر والحضر { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي وسبحوا ربكم في الصباح والمساء قال العلماء : خصهما بالذكر لأنهما أفضل الأوقات بسبب تنزل الملائكة فيهما { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ } أي هو جل وعلا يرحمكم على الدوام ، ويعتني بأمركم ، وبكل ما فيه صلاحكم وفلاحكم { وَمَلاَئِكَتُهُ } أي وملائكتُه يصلون عليكم أيضاً بالدعاء والاستغفار وطلب الرحمة قال ابن كثير : والصلاةُ من الله سبحانه ثناؤه على العبد عند الملائكة ، وقيل : الصلاة من الله الرحمةُ ، ومن الملائكة : الدعاءُ والاستغفار { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي لينقذكم من الضلالة إلى الهدى ، ومن ظلمات العصيان إلى نور الطاعة والإِيمان { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } أي واسع الرحمة بالمؤمنين ، حيث يقبل القليل من أعمالهم ، ويعفوا عن الكثير من ذنوبهم ، لإِخلاصهم في إيمانهم { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } أي تحية هؤلاء المؤمنين يوم يلقون ربهم السلامُ والإِكرام في الجنة من الملك العلاّم كقوله تعالى { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } أي وهيأ لهم أجراً حسناً وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم ، قال ابن كثير : والمراد بالأجر الكريم الجنةُ وما فيها من المآكل والمشارب ، والملابس والمساكن ، والملاذّ والمناظر ، مما لا عينٌ رأتْ ، ولا أذنٌ سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر ، ثم لما بيَّن تعالى أنه أخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والضلال إلى أنوار الهداية والإِيمان ، عقَّبه بذكر أوصاف السراج المنير الذي أضاء الله به الأكوان فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي شاهداً على أمتك وعلى جميع الأمم بأن أنبيائهم قد بلغوهم رسالة ربهم { وَمُبَشِّراً } أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم { وَنَذِيراً } أي ومنذراً للكافرين من عذاب الجحيم { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي وداعياً للخلق إلى توحيد الله وطاعته وعبادته ، بأمره جل وعلا لا من تلقاء نفسك { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي وأنت يا محمد كالسراح الوهَّاج المضيء للناس ، يُهْتدى بك في الدهماء ، كما يُهْتدى بالشهاب في الظلماء ، قال ابن كثير : أي أنت يا محمد كالشمس في إشراقها وإِضاءتها لا يجحدها إلا معاند وقال الزمخشري : شبَّهه بالسراج المنير لأن الله جلى به ظلمات الشركِ ، واهتدى به الضالون ، كما يُجلى ظلامُ الليل بالسراج المنير ويُهْتدى به ، وصفه تعالى بخسمة أوصاف كلُّها كمالٌ وجمال ، وثناءٌ وجلال ، وختمها بأنه صلوات الله عليه هو السراج الوضاء الذي بدَّد الله به ظلمات الضلال ، فصلواتُ ربي وسلامه عليه في كل حين وآن { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } أي وبشر يا محمد المؤمنين خاصة بأنَّ لهم من الله العطاء الواسع الكبير في جنات النعيم { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي لا تطعهم فيما يطلبونه منك من المساهلة والملاينة في أمر الدين ، بل اثبت على ما أُوحي إليك { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي ولا تكترث بإِذايتهم لك ، وصدّهم الناسَ عنك { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي واعتمد في جميع أمورك وأحوالك على الله { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } أي إن الله يكفي من توكل عليه في أمور الدنيا والآخرة قال الصاوي : وفي الآية إشارة إلى أن التوكل أمره عظيم ، فمن توكل على الله كفاه ما أهمَّه من أمور الدنيا والدين ، ولما كان الحديث عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقصة زيد وتطليقه لزينب ، جاء الحديث عن نساء المؤمنين والطريقة المثلى في تطليقهن فقال تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا بالله ورسوله إذا عقدتم عقد الزواج على المؤمنات وتزوجتموهن { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } أي ثم طلقتموهنَّ من قبل أن تجامعوهنَّ ، وإنما خصَّ المؤمنات بالذكر مع أن الكتابيات يدخلن في الحكم ، للتنبيه على أن الأليق بالمسلم أن يتخيَّر لنطفته ، وألاّ ينكح إلا مؤمنة عفيفة { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } أي فليس لكم عليهم حق في العدة تستوفون عددها عليهن ، لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل حتى تحتسبوا المرأة من أجل صيانة نسبكم { فَمَتِّعُوهُنَّ } أي فالواجب عليكم إكرامهن بدفع المتعة بما تطيب نفوسكم به من مالٍ أو كسوةٍ ، تطييباً لخاطرهن ، وتخفيفاً لشدة وقع الطلاق عليهن { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي وخلّوا سبيلهنَّ تخليةً بالمعروف ، من غير إضرار ولا إيذاء ، ولا هضمٍ لحقوقهن ، قال أبو حيان : والسراحُ الجميلُ هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب ، ثم ذكر تعالى ما يتعلق بأحوال زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي إنا قد أبحنا لك يا محمد أنواعاً من النساء ، توسعة عليك وتيسيراً لك في تبليغ الدعوة ، فمن ذلك أننا أبحنا لك زوجاتك اللاتي تزوجتهن بصداقٍ مُسمَّى ، وهُنَّ في عصمتك { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ } أي وأبحنا لك أيضاً النساء اللاتي تملكهن في الحرب بطريق الانتصار على الكفار ، وإِنما قيَّدهن بطريق الغنائم لأنهن أفضلُ من اللائي يُمْلكن بالشراء ، فقد بذل في إحرازهنَّ جهدٌ ومشقة لم يكن في الصف الثاني { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } أي وأبحنا لك قريباتك من بنات الأعمام والعمات ، والأخوال والخالات بشرط الهجرة معك { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } أي وأحللنا لك النساء المؤمناتِ الصالحات اللواتي وهبن أنفسهن لك ، حباً في الله ورسوله وتقرباً لك { إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي إن أردت يا محمد أن تتزوج من شئت منهم بدون مهر { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي خاصة لك يا محمد من دون سائر المؤمنين ، فإِنه لا يحل لهم التزوج بدون مهر ، ولا تصح الهبة ، بل يجب مهر المثل { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي قد علمنا ما أوجبنا على المؤمنين من نفقةٍ ، ومهر ، وشهود في العقد ، وعدم تجاوز أربع من النساء ، وما أبحنا لهم من ملك اليمين عدا الحرائر ، وأما أنت فقد خصصناك بخصائص تيسيراً لك { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي لئلا يكون عليك مشقة أو ضيق { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي عظيم المغفرة واسع الرحمة { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } أي ولك أيها النبي الخيار في أن تطلق من تشاء من زوجاتك ، وتُمسك من تشاء منهن { وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } أي وإِذا أحببتَ أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتَ من القسمة فلا إثم عليك ولا عتب { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي ذلك التخيير الذي خيرناك في أمرهنَّ أقرب أن ترتاح قلوبهن فلا يحزنَّ ، ويرضين بصنيعك ، لأنهن إذا علمن أن هذا أمرٌ من الله ، كان أطيب لأنفسهن فلا يشعرن بالحزن والألم { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } خطابٌ للنبي على جهة التعظيم أي يعلم ما في قلبك يا محمد وما في قلب كل إنسان ، من عدل أو ميل ، ومن حب أو كراهية ، وإِنما خيرناك فيهن تيسيراً عليك فيما أردت { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً } أي واسع العلم يعلم جميع ما تظهرون وما تخفون ، حليماً يضع الأمور في نصابها ولا يعاجل بالعقوبة ، بل يُؤخر ويمهل لكنه لا يُهْمل ، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " كنتُ أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول : اتهبُ المرأة نفسها ؟ فلما نزلت { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } قلت : ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك " ثم قال تعالى { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أي لا يحل لك أيها النبي النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } أي ولا يحل لك أن تطلّق واحدة منهن وتنكح مكانها أُخرى { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } أي ولو أعجبك جمال غيرهن من النساء { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي إلا ما كان من الجواري والإِماء فلا بأس في ذلك لأنهن لسن زوجات { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } أي مطلعاً على أعمالكم شاهداً عليها ، وفيه تحذير من مجاوزة حدوده ، وتخطي حلاله وحرامه . قال المفسرون : أباح الله لرسوله أصنافاً أربعة " الممهورات ، المملوكات ، المهاجرات ، الواهبات أنفسهن " توسعة عليه صلى الله عليه وسلم وتيسيراً له في نشر الرسالة وتبليغ الدعوة ، ولما نزلت آية التخيير { قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا … } [ الأحزاب : 28 ] الآية ، وخيَّرهن عليه السلام ، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، أكرمهن الله تعالى بأن قصره عليهن ، وحرَّم عليه أن يتزوج بغيرهن . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التنكير لإِفادة العموم { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، أي ليس لواحدٍ منهم أن يريد غير ما أراده الله ورسوله . 2 - الطباق بين { تُخْفِي … مُبْدِيهِ } وبين { ٱلظُّلُمَاتِ … و … ٱلنُّورِ } وبين { مُبَشِّراً … و … نَذِيراً } وهو من المحسنات البديعية . 3 - جناس الاشتقاق { قَدَراً مَّقْدُوراً } . 4 - طباق السلب { وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً } . 5 - التشبيه البليغ { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أصل التشبيه : أنت يا محمد كالسراج الوضاء في الهداية والإرشاد ، حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً على حد قولهم : علي أسدٌ ، ومحمدٌ قمر . 6 - الكناية { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } كنَّى عن الجماع بالمسِّ وهي من الكنايات المشهورة ، ومن الآداب القرآنية الحميدة لأن القرآن يتحاشى الألفاظ البذيئة . 7 - الطباق بين { بُكْرَةً … و … أَصِيلاً } وبين { تُرْجِي … و … َتُؤْوِيۤ } وبين { ٱبْتَغَيْتَ … و … عَزَلْتَ } . 8 - توافق الفواصل ممّا يزيد في الجمال والإِيقاع على السمع مثل { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً … وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ومثل { سَرَاحاً جَمِيلاً … عَلِيماً حَلِيماً … غَفُوراً رَّحِيماً } وهذا من خصائق القرآن العظيم ، وهو من المحسنات البديعية .