Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 34-54)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لمّا ذكر تعالى قصة أهل سبأ وكفرهم بنعم الله ، وما أعقب ذلك من تبديل النعمة إلى النقمة ، ذكر هنا اغترار المشركين بالمال والبنين ، وتكذيبهم لرسول الله عليه السلام ، وختم السورة الكريمة ببيان مصرع الغابرين ، تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخويفاً وتحذيراً للمشركين . اللغَة : { مُتْرَفُوهَآ } المترف : المنعَّم المتقلب في الغنى والعز والجاه { يَبْسُطُ } يوسّع { وَيَقْدِرُ } يقتّر { زُلْفَىٰ } قربى { إِفْكٌ } كذب مختلق { مِعْشَارَ } المعشار : العُشر ، قال الجوهري : ومعشار الشيء عشره ، فهما لغتان { نَكِيرِ } أصلها نكيري حذفت الياء لمراعاة الفواصل قال الزجاج : النكير : اسم بمعنى الإِنكار { جِنَّةٍ } بكسر الجيم أي جنون { فَوْتَ } نجاة ومهرب { ٱلتَّنَاوُشُ } التناول قال الزمخشري : والتناوش والتناول أخوان ، إِلا أن التناوش تناولٌ سهلٌ لشيء قريب ، ومنه المناوشة في القتال وذلك عند تداني الفريقين ، قال ابن السكيت : يقال للرجل إِذا تناول رجلاً ليأخذه ناشَه . التفسِير : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } أي لم نبعث في أهل قريةٍ رسولاً من الرسل ينذرهم عذابنا { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } أي إِلا قال أهل الغنى والتنعم في الدنيا { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } أي لا نؤمن برسالتكم ولا نصدقكم بما جئتم به ، قال قتادة : المترفون هم جبابرتهم وقادتهم ورؤساؤهم في الشر ، وهم الذين يبادرون إِلى تكذيب الأنبياء ، والقصد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب أكابر قريش له { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } أي وقال مشركو مكة : نحن أكثر أموالاً وأولاداً من هؤلاء الضعفاء المؤمنين { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي إِن الله لا يعذبنا لأنه راضٍ عنا ، ولو لم يكن راضياً عنا لما بسط لنا في الرزق ، قاسوا أمر الدنيا على الآخرة ، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في الآخرة ، قال أبو حيان : نصَّ تعالى على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل ، لما شُغلوا به من زخرف الدنيا ، وما غلب على عقولهم منها ، فقلوبهم أبداً مشغولة منهمكة ، بخلاف الفقراء فإِنهم خالون من مستلذات الدنيا ، فقلوبهُم أقبل للخير ولذلك كانوا أكثر أتباع الأنبياء { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أي قل لهم يا محمد : إِن توسعة الرزق وتضييقه ليس دليلاً على رضى الله ، فقد يوسّع الله على الكافر والعاصي ، ويضيق على المؤمن والمطيع ابتلاءً وامتحاناً ، فلا تظنوا أن كثرة الأموال والأولاد دليل المحبة والسعادة ، بل هي تابعة للحكمة والمشيئة { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكنَّ أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون الحقيقة ، فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة ، وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال تعالى : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 182 ] ولهذا أكَّد ذلك بقوله : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } أي ليست أموالكم ولا أولادكم التي تفتخرون بها وتكاثرون هي التي تقربكم من الله قربى ، وإِنما يقرّب الإِيمان والعمل الصالح ، قال الطبري : الزلفى : القربى ، ولا يعتبر الناس بكثرة المال والولد ، ولهذا قال تعالى بعده { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } أي إِلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ، ويعلّم ولده الخير ويربيه على الصلاح فإِن هذا الذي يقرّب من الله { فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } أي تضاعف حسناتهم ، الحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إلى سبعمائة ضعف { وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } أي وهم في منازل الجنة العالية آمنون من كل عذاب ومكروه ، ولما ذكر جزاء المؤمنين ، ذكر عقاب الكافرين ، ليظهر التباين بين الجزاءين فقال { وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي يسعون في الصدِّ عن سبيل الله ، واتباع آياته ورسله ، معاندين لنا يظنون أنهم يفوتوننا بأنفسهم { أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } أي فهم مقيمون في العذاب ، محضرون يوم القيامة للحساب { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي قل يا محمد : إِن ربي يوسّع الرزق لمن يشاء من خلقه ، ويقتّر على من يشاء ، فلا تغتروا بالأموال التي رزقكم الله إِيَّاها ، قال في التسهيل : كررت الآية لاختلاف القصد ، فإِنَّ القصد بالأول الكفار ، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإِنفاق { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي وما أنفقتم في سبيل الله قليلاً أو كثيراً فإِن الله تعالى يعوّضه عليكم إِما عاجلاً أو آجلاً { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } أي هو تعالى خير المعطين ، فإِنَّ عطاء غيره بحساب ، وعطاؤه تعالى بغير حساب ، قال المفسرون : لما بيَّن أنَّ الإِيمان والعمل الصالح هو الذي يقرب البعد إِلى ربه ، ويكون مؤدياً إِلى تضعيف حسناته ، بيَّن أن نعيم الآخرة لا ينافي سعة الرزق في الدنيا ، بل الصالحون قد يبسط لهم الرزق في الدنيا ، مع ما لهم في الآخرة من الجزاء الأوفى والمثوبة الحسنى بمقتضى الوعد الإِلهي { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } أي واذكر يوم يحشر الله المشركين جيمعاً من تقدم ومن تأخر للحساب والجزاء { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } ؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ للمشركين أي أهؤلاء عبدوكم من دوني وأنتم أمرتموهم بذلك ؟ قال الزمخشري : هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار ، وارد على المثل السائر " إِيَّاك أعني واسمعي يا جارة " ونحوه قوله تعالى { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ المائدة : 116 ] ؟ وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى منزهون عما نُسب إليهم ، والغرض من السؤال والجواب أن يكون تقريع للمشركين أشد ، وخجلهم أعظم { قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } أي تعاليت وتقدست يا ربنا عن أن يكون معك إِله ، أنت ربنا ومعبودنا الذي نتولاه ونعبده ونخلص له العبادة ، ونحن نتبرأ إِليك منهم { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } أي بل كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذي زينوا لهم عبادة غير الله فأطاعوهم { أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } قال الطبري : أي أكثرهم بالجنّ مصدقون يزعمون أنهم بنات الله ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً قال تعالى رداً على مزاعم المشركين { فَٱلْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي ففي هذا اليوم - يوم الحساب - لا ينفع العابدون ولا المعبودون بعضهم لبعضٍ ، لا بشفاعة ونجاة ، ولا بدفع عذاب وهلاك ، قال أبو السعود : يخاطبون بذلك على رءوس الأشهاد إِظهاراً لعجزهم وقصورهم عن نفع عابديهم ، وإِظهاراً لخيبة رجائهم بالكلية ، ونسبة عدم النفع والضر إِلى البعض للمبالغة في المقصود ، كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة كنفع العبدة لهم { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي ونقول للظالمين الذين عبدوا غير الله { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي ذوقوا عذاب جهنم التي كذبتم بها في الدنيا فها قد وردتموها ، ثم بيَّن تعالى لوناً آخر من كفرهم وضلالهم فقال : { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي وإِذا تُليت على هؤلاء المشركين آيات القرآن واضحات المعاني ، بينات الإِعجاز ، وسمعوها غضة طريةً من لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } أي ما هذا الذي يزعم الرسالة إِلا رجلٌ مثلكم يريد أن يمنعكم عمَّا كان يعبد أسلافكم من الأوثان والأصنام { وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } أي ما هذا القرآن إِلا كذبٌ مختلق على الله { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ومكابرتهم للحقِّ النيّر : ما هذا القرآن إِلا سحرٌ واضح ظاهر لا يخفى على لبيب ، قال الزمخشري : وفيه تعجيب من أمرهم بليغ ، حيث بتّوا القضاء على أنه سحر ، ثم بتّوه على أنه بيِّن ظاهر ، كل عاقلٍ تأمله سمَّاه سحراً وفي قوله : { لَمَّا جَآءَهُمْ } المبادهة بالكفر من غير تأمل ، ثم بيَّن تعالىأنهم لم يقولوا ذلك عن بينة ، ولم يكذبوا محمداً عن يقين ، بل عن ظنٍّ وتخمين فقال : { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } أي وما أنزلنا على أهل مكة كتاباً قبل القرآن يقرءون فيه ويتدارسونه { وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } أي وما بعثنا إِليهم قبلك يا محمد رسولاً ينذرهم عذاب الله ، فمن أين كذبوك ؟ قال الطبري : أي ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ، ولا بعث إِليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ } أي وكذَّب قبلهم أقوام من الأمم السابقين وما بلغ كفار مكة عشر ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوة والمال وطول العمر قال ابن عباس : { مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ } أي من القوة في الدنيا { فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي وحيث كذبوا رسلي جاءهم إِنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم يُغن عنهم ما كانوا فيه من القوة ، فكيف حال هؤلاء إِذا جاءهم العذاب والهلاك ؟ وفيه تهديدٌ لقريش { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنما أنصحكم وأوصيكم بخصلةٍ واحدة ثم فسرها بقوله : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } أي هي أن تتحرَّوا الحق لوجه الله والتقرب له مجتمعين ووحداناً ، أو اثنين اثنين وواحداً واحداً ، قال القرطبي : وهذا القيام معناه القيام إِلى طلب الحق ، لا القيام الذي هو ضدُّ القعود { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } أي ثم تتفكروا في أمر محمد لتعلموا أن من ظهر على يديه هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون مسٌّ من الجنون أو يكون مجنوناً ، قال أبو حيان : ومعنى الآية : إِنما أعظكم بواحدة فيها إِصابتكم الحقَّ وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به ، وإِنما قال { مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ } لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر ، كما يكون في الدروس التي يجتمع بها الجماعة ، وأما الاثنان إِذا نظرا نظر إِنصاف وعرض كل واحدٍ منهما على صاحبه ما ظهر له فلا يكاد الحقُّ أن يعدوهما ، وإِذا كان الواحد جيّد الفكر عرف الحق ، فإذا تفكروا عرفوا أن نسبته عليه السلام للجنون لا يمكن ، ولا يذهب إلى ذلك عاقل { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي ما هو إِلا رسول منذر لكم إِن كفرتم من عذاب شديدٍ في الآخرة { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } أي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً قال الطبري : المعنى إني لم أسألكم على ذلك جُعلاً فتتهموني وتظنوا أني إِنما دعوتكم إِلى اتباعي لمالٍ آخذه منكم { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } أي ما أجري وثوابي إِلا على الله رب العالمين { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي هو تعالى رقيب وحاضر على أعمالي وأعمالكم ، لا يخفى عليه شيء وسيجازي الجميع ، قال أبو السعود : أي هو مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ } أي يبيِّن الحجة ويظهرها قال ابن عباس : يقذف الباطل بالحق كقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ] { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } أي هو تعالى الذي أحاط علماً بجميع الغيوب التي غابت وخفيت عن الخلق { قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ } أي جاء نور الحق وسطع ضياؤه وهو الإِسلام { وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } أي ذهب الباطل بالمرَّة فليس له بدءٌ ولا عودٌ ، قال الزمخشري : إِذا هلك الإِنسان لم يبقَ له إبداءٌ ولا إعادة ، فجعلوا قولهم لا يبدىء ولا يعيد مثلاً في الهلاك والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل كقوله تعالى : { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } [ الإِسراء : 81 ] { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِن حصل لي ضلالٌ - كما زعمتم - فإِن إِثم ضلالي على نفسي لا يضر غيري { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي وإِن اهتديتُ إِلى الحق فبهداية الله وتوفيقه { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } أي سميعٌ لمن دعاه ، قريب الإِجابة لمن رجاه ، قال أبو السعود : يعلم قول كلٍ من المهتدي والضال وفعله وإِن بالغ في إِخفائهما { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ } أي ولو ترى يا محمد حال المشركين عند فزعهم إِذا خرجوا من قبورهم { فَلاَ فَوْتَ } أي فلا مخلص لهم ولا مهرب { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي أخذوا من الموقف - أرض المحشر - إِلى النار ، وجواب { لَوْ } محذوف تقديره : لرأيت أمراً عيظماً وخطباً جسيماً ترتعد له الفرائص { وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ } أي وقالوا عندما عاينوا العذاب آمنا بالقرآن وبالرسول { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي ومن أين لهم تناول الإِيمان وهم الآن في الآخرة ومحل الإِيمان في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت منهم بمكان بعيد ؟ قال أبو حيان : مثَّل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعدٍ كما يتناوله الآخر من قرب { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ } أي والحال أنهم قد كفروا بالقرآن وبالرسول من قبل ذلك في الدنيا ، فكيف يحصل لهم الإِيمان بهما في الآخرة ! { وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون : لا بعث ولا حساب ، ولا جنة ولا نار قال القرطبي : والعربُ تقول لكل من تكلم بما لا يعرف هو يقذف ويرجم بالغيب ، وعلى جهة التمثيل لمن يرمي ولا يصيب { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } أي وحيل بينهم وبين الإِيمان ودخول الجنان { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } أي كما فعل بأشباههم في الكفر من الأمم السابقة { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ } أي كانوا في الدنيا في شك وارتياب من أمر الحساب والعذاب ، وقوله : { مَّرِيبٍ } من باب التأكيد كقولهم : عجبٌ عجيب . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { يَبْسُطُ … و … يَقْدِرُ } وبين { نَّفْعاً … و … ضَرّاً } وبين { مَثْنَىٰ … و … فُرَادَىٰ } . 2 - المقابلة بين عاقبة الأبرار والفجار { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً … وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } . 3 - الالتفات من الغائب إلى المخاطب { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ } والغرض المبالغة في تحقيق الحق . 4 - أسلوب التقريع والتوبيخ { أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } ؟ الخطاب للملائكة تقريعاً للمشركين . 5 - وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل جريمة الكفر عليهم { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ } والأصل وقالوا . 6 - الإِيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه أي ما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالذين يقربونكم عندنا . 7 - الاستعارة { بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } استعار لفظ اليدين لما يكون من الأهوال والشدائد أمام الإِنسان . 8 - الكناية اللطيفة { وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره . 9 - الاستعارة التصريحية { وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } شبّه الذي يقول بغير علم ، ويظن ولا يتحقق ، بالإِنسان يرمي غرضاً وبينه وبينه مسافة بعيدة فلا يكون سهمه صائباً واستعار لفظ القذف للقول . 10 - توافق الفواصل لما له من جميل الوقع على السمع مثل { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } ، { أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ، { وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } .