Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 15-33)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما بيَّن تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر " داود " و " سليمان " بيَّن حال الكافرين لأنعمه بقصة سبأ ، موعظةً لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى من المصائب والنكبات على من كفر بأنعم الله ، ثم ذكَّر كفار مكة بنعمه ليعبدوه ويشكروه . اللغَة : { سَبَإٍ } قبيلة من العرب سكنت اليمن سميت باسم جدهم " سبأ بن يشجب بن قحطان " { ٱلْعَرِمِ } الحاجز بين الشيئين قال النحاس : وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مُسنَّاة - أي حاجز - فهو العرم { خَمْطٍ } الخمط : المرُّ البشع ، قال الزجاج : كل نبتٍ فيه مرارةٌ لا يمكن أكله فهو خمط وقال المبرد : هو كل ما تغيَّر إلى ما لا يُشتهى ، واللبنُ إِذا حمض فهو خمط { أَثْلٍ } الأثل : شجر لا ثمر له قال الفراء : وهو شبيه بالطرفاء إِلا أنه أعظم منه طولاً ومنه اتخذ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والواحدة أثلة { سِدْرٍ } قال الفراء : هو السَّرو ، وقال الأزهري : السدر نوعان : سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عصفة لا تؤكل ، وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول { ظَهِيرٍ } معين { ٱلْفَتَّاحُ } القاضي والحاكم بالحق . التفسِير : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } اللام موطئة للقسم أي والله لقد كان لقوم سبأ في موضع سكناهم باليمن آية عظيمة دالة على الله جل وعلا وعلى قدرته على مجازاة المحسن بإِحسانه ، والمسيء بإِساءته ، فإِن قوم سبأ لما كفروا نعمة الله خرَّب الله ملكهم ، وشتَّت شملهم ، ومزَّقهم شرَّ ممزَّق ، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر ، ثم بيَّن تعالى وجه تلك النعمة فقال : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي حديقتان عظيمتان فيهما من كل أنواع الفواكه والثمار عن يمين الوادي بساتين ناضرة ، وعن شماله كذلك ، قال قتادة : كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار ، تسرُّ الناس بظلالها ، وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل ، فيتساقط من الأشجار ما يملؤه من غير كلفةٍ ولا قطاف لكثرته ونضجه وقال البيضاوي : ولم يرد بستانين اثنين فحسب ، بل أراد جماعتين من البساتين ، جماعة عن يمين بلدهم ، وجماعة عن شماله سميت كل جماعة منها جنة لكونها في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } أي وقلنا لهم على لسان الرسل : كلوا من فضل الله وإِنعامه واشكروا ربكم على هذه النعم { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي هذه بلدتكم التي تسكنونها بلدةٌ طيبة ، كريمة التربة ، حسنة الهواء ، كثيرة الخيرات ، وربكم الذي رزقكم وأمركم بشكره ربٌ غفورٌ لمن شكره { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } أي فأعرضوا عن طاعة الله وشكره ، واتباع أوامر رسله ، فأرسلنا عليهم السيل المدمّر المخرب الذي لا يطاق لشدته وكثرته ، فغرَّق بساتينهم ودورهم ، قال الطبري : وحين أعرضوا عن تصديق الرسل ، ثقب ذلك السدُّ الذي كان يحبس عنهم السيول ، ثم فاض الماء على جناتهم فغرَّقها ، وخرَّب أرضهم وديارهم { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } أي وأبدلناهم بتلك البساتين الغناء ، بساتين قاحلة جرداء ، ذات أُكل مرٍّ بشع { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } وشيء من الأشجار التي لا ينتفع بثمرها كشجر الأثل والسِّدر ، قال الرازي : أرسل الله عليهم سيلاً غرَّق أموالهم ، وخرَّب دورهم ، والخمطُ كلُّ شجرة لها شوك وثمرتها مرة ، والأثلُ نوع من الطرفاء ، ولا يكون عليه ثمرة إِلا في بعض الأوقات ، يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه ، والسدر معروف وقال فيه { قَلِيلٍ } لأنه كان أحسن أشجارهم ، وقد بيَّن تعالى بالآية طريقة الخراب ، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس تكون فيها الفواكة الطيبة بسبب العمارة ، فإِذا تركت سنين تصبح كالغيضة والأجمة تلتفُّ الأشجار بعضها ببعض وتنبتُ المفسدات فيها ، فتقل الثمار وتكثر الأشجار قال المفسرون : وتسمية البدل " جنتين " فيه ضربٌ من التهكم ، لأن الأثل والسدر وما كان فيه خمط لا يسمى جنة ، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها ، وإنما جاء التعبير على سبيل المشاكلة { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } أي ذلك الجزاء الفظيع الذي عاقبناهم به إِنما كان بسبب كفرهم { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } ؟ أي وما نجازي بمثل هذا الجزاء الشديد إِلا الكافر المبالغ في كفره ، قال مجاهد : أي ولا يعاقب إِلا الكفور ، لأن المؤمن يكفِّر الله عنه سيئاته ، والكافرُ يجازى بكل سوءٍ عمله { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } هذا من تتمة ذكر ما أنعم الله به عليهم أي وجعلنا بين بلاد سبأ وبين القرى الشامية التي باركنا فيها للعالمين قرى متواصلة من اليمن إِلى الشام ، يُرى بعضها من بعض لتقاربها ، ظاهرة لأبناء السبيل { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي جعلنا السير بين قراهم وبين قرى الشام سيراً مقدراً من منزل إِلى منزل ، ومن قرية إِلى قرية { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } أي وقلنا لهم سيروا بين هذه القرى متى شئتم لا تخافون في ليل ولا في نهار ، قال الزمخشري : كان الغادي منهم يقيل في قرية ، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام ، لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً ، ولا يحتاج إِلى حمل زاد ولا ماء ، وكانوا يسيرون آمنين لا يخافون شيئاً { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } إِخبارٌ بما قابلوا به النعم من الكفران أي أنهم حين بطروا النعمة ، وملوا العافية ، وسئموا الراحة طلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزودوا للأسفار ، فعجَّل الله إِجابتهم ، بتخريب تلك القرى وجعلها مفاوز قفاراً { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } أي وظلموا أنفسهم بكفرهم وجحودهم النعمة { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي جعلناهم أخباراً تُروى اللناس بعدهم { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي وفرقناهم في البلاد شذر مذر { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي إن فيما ذكر من قصتهم لعبراً وعظات لكل عبد صابرٍ على البلاء ، شاكر في النعماء ، والمقصود من ذكر قصة سبأ تحذير الناس من كفران النعمة لئلا يحل بهم ما حل بمن قبلهم ، ولهذا أصبحت قصتهم يضرب بها المثل فيقال : " ذهبوا أيدي سبأ " ثم ذكر تعالى سبب ضلال المشركين فقال { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } أي تحقق ظن إِبليس اللعين في هؤلاء الضالين ، حيث ظنَّ أنه يستطيع أن يغويهم بتزيين الباطل لهم ، وأقسم بقوله { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] فتحقق ما كان يظنه ، قال مجاهد : ظنَّ ظناً فكان كما ظن فصدَّق ظنَّه { فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي فاتبعه الناس فيما دعاهم إِليه من الضلالة إِلا فريقاً هم المؤمنون فإِنهم لم يتبعوه قال القرطبي : أي ما سلم من المؤمنين إِلا فريق ، وعن ابن عباس أنهم المؤمنون كلُّهم فتكون { مِّنَ } على هذا للتبيين لا للتبعيض ، وإِنما علم إِبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب ، لأنه لمَّا نفذ له في آدم ما نفذ ، غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته وقد وقع له تحقيق ما ظنَّ { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي وما كان لإِبليس تسلط واستيلاء عليهم بالوسوسة والإِغواء { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } أي إِلا لحكمة جليلة وهي أن نظهر علمنا للعباد بمن هو مؤمن مصدِّق بالآخرة ، ومن هو شاك مرتاب في أمرها ، فنجازي كلاً بعمله قال القرطبي : أي لم يقهرهم إِبليس على الكفر ، وإِنما كان منه الدعاء والتزيين وقال الحسن : واللهِ ما ضربهم بعصا ، ولا أكرههم على شيء ، وما كان إِلا غروراً وأماني دعاهم إِليها فأجابوه { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } أي وربك يا محمد على كل شيء رقيب ، لا تخفى عليه خافية من أفعال العباد ، فهو الذي يحفظ عليهم أعمالهم ، ويعلم نياتهم وأحوالهم ، قال الصاوي : الشيطان سبب الإِغواء لا خالق الإِغواء ، فمن أراد الله حفظه منع الشيطان عنه ، ومن أراد إِغواءه سلَّط عليه الشيطان ، والكل فعل الله تعالى ، وإِنما سبقت حكمته بتسليط الشيطان على الإِنسان ابتلاءً وامتحاناً ليميز الله الخبيث من الطيب ، والمراد بقوله { لِنَعْلَمَ } أي لنظهر للخلق علمنا ، وإِلا فالله تعالى عالم بما كان وما يكون { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ادعوا شركاءكم الذين عبدتموهم من الأصنام ، وزعمتم أنهم آلهة من دون الله ، أُدعوهم ليجلبوا لكم الخير ، ويدفعوا عنكم الضر قال أبو حيان : والأمر بدعاء الآلهة للتعجيز وإِقامة الحجة عليهم { لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي لا يملكون وزن ذرة من خيرٍ أو نفعٍ أو ضر { فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } أي في العالم العلوي أو السفلي ، وليسوا بقادرين على أمرٍ من الأمور في الكون بأجمعه { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } أي وليس لتلك الآلهة شركة مع الله لا خلقاً ولا ملكاً ولا تصرفاً { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } أي وليس له تعالى من الآلهة معينٌ يُعينه في تدبير أمرهما ، بل هو وحده الخالق لكل شيء ، المنفرد بالإِيجاد والإِعدام ، ثم لما نفى عنها الخلق والملك ، نفى عنها الشفاعة أيضاً فقال { وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي لا تكون الشفاعة لأحدٍ عند الله من ملكٍ أو نبي ، حتى يُؤذن له في الشفاعة ، فكيف يزعمون أن آلهتهم يشفعون لهم ؟ قال ابن كثير : أي أنه تعالى لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترىء أحدٌ أن يشفع عنده في شيءٍ إِلا بعد إِذنه له في الشفاعة كقوله : { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [ الأنبياء : 28 ] وإِنما كانت الشفاعة لسيد ولد آدم إِظهاراً لمقامه الشريف ، فهو أكبر شفيع عند الله ، وذلك حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي حتى إِذا زال الفزع والخوف عن قلوب الشفعاء ، من الملائكة والأنبياء { قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ } أي قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم في أمر الشفاعة ؟ فأجابوهم بقولهم : قد أذن فيها للمؤمنين قال القرطبي : إِن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة ، وهم على غاية الفزع من الله ، لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل ، والخوف الشديد أن يقع منهم تقصير ، فإذا سُرِّي عنهم قالوا للملائكة فوقهم : ماذا قال ربكم ؟ أي بماذا أمر الله ؟ قالوا : الحقَّ أي إِنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ } أي هو تعالى المتفرد بالعلو والكبرياء ، العظيم في سلطانه وجلاله قال أبو السعود : وهذا من تمام كلام الشفعاء ، قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب الله عز وجل ، فليس لأحدٍ أن يتكلم إِلا بإِذنه ، ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم غير الخالق الرازق فقال { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي قل لهم يا محمد من الذي يرزقكم من السماوات بإِنزال المطر ، ومن الأرض بإِخراج النبات والثمرات ؟ { قُلِ ٱللَّهُ } أي قل لهم : اللهُ الرازق لا آلهتكم ، قال ابن الجوزي : وإِنما أُمر عليه السلام أن يسأل الكفار عن هذا احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة ، وهم لا يثبتون رازقاً سواه ، ولهذا جاء الجواب { قُلِ ٱللَّهُ } لأنهم لا يجيبون بغير هذا { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي وأحد الفريقين منا أو منكم لعلى هدى أو ضلال بيِّن ، وهذا نهاية الإِنصاف مع الخصم ، قال أبو حيان : أخرج الكلام مخرج الشك ، ومعلوم أن من عبد الله وحده كان مهتدياً ، ومن عبد غيره من جماد كان ضالاً ، وفي هذا إنصافٌ وتلطفٌ في الدعوى ، وفيه تعريضٌ بضلالهم وهو أبلغ من الردّ بالتصريح ، ونحوه قول العرب : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، مع تيقن أن صاحبه هو الكاذب { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي لا تؤاخذون على ما ارتكبنا من إِجرام ، ولا نؤاخذ نحن بما اقترفتم ، وإِنما يعاقب كل إِنسانٍ بجريرته ، وهذه ملاطفة وتنزُّلٌ في المجادلة إِلى غاية الإِنصاف ، قال الزمخشري : وهذا أدخل في الإِنصاف وأبلغ من الأول ، حيث أسند الإِجرام لأنفسهم والعمل إِلى المخاطبين { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ } أي يجمع الله بيننا وبينكم يوم القيامة ثم يحكم بيننا ويفصل بالحقِّ { وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ } أي وهو الحاكم العادل الذي لا يظلم أحداً ، العالم بأحوال الخلق ، فيدخل المحقَّ الجنة ، والمبطل النار { قُلْ أَرُونِيَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ } توبيخٌ آخر على إِشراكهم وإِظهارٌ لخطئهم العظيم أي أروني هذه الأصنام التي ألحقتموها بالله وجعلتموها شركاء معه في الألوهية ، لأنظر بأي صفةٍ استحقت العبادة مع الذين ليس كمثله شيء ؟ قال أبو السعود : وفيه مزيد تبكيتٍ لهم بعد إِلزام الحجة عليهم { كَلاَّ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ } ردعٌّ لهجر وزجر أي ليس الأمر كما زعمتم من اعتقاد شريك له ، بل هو الإِله الواحد الأحد ، الغالب على أمره ، الحكيم في تدبيره لخلقه ، فلا يكون له شريك في ملكه أبداً { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } أي وما أرسلناك يا محمد للعرب خاصة وإِنما أرسلناك لعموم الخلق ، مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم ، ومنذراً للكافرين من عذاب الجحيم { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكنَّ هؤلاء الكافرين لا يعلمون ذلك فيحملهم جهلهم على ما هم عليه من الغيّ والضلال { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية : متى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إِن كنتم صادقين فيما تقولون ؟ والخطاب للنبي والمؤمنين { قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } أي لكم زمان معيَّن للعذاب يجيء في أجله الذي قدَّره الله له ، لا يستأخر لرغبة أحد ، ولا يتقدم لرجاء أحد ، فلا تستعجلوا عذاب الله فهو آتٍ لا محالة ، ثم أخبر تعالى عن تمادي المشركين في العناد والتكذيب فقال { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي لن نصدِّق بالقرآن ولا بما سبقه من الكتب السماوية الدالة على البعث والنشور { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } أي ولو شاهدت يا محمد حال الظالمين المنكرين للبعث والنشور في موقف الحساب { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ } أي يلوم بعضهم بعضاً ويؤنب بعضهم بعضاً ، وجواب { لَوْ } محذوف للتهويل تقديره لرأيت أمراً فظيعاً مهولاً { يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } أي يقول الأتباع للرؤساء : لولا إِضلالكم لنا لكنا مؤمنين مهتدين { قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ } ؟ أي قال الرؤساء جواباً للمستضعفين : أنحن منعناكم عن الإِيمان بعد أن جاءكم ؟ لا ، ليس الأمر كما تقولون { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } أي بل أنتم كفرتم من ذات أنفسكم ، بسبب أنكم مجرمين راسخين في الإِجرام { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } أي وقال الأتباع للرؤساء : بل مكركم بنا في الليل والنهار هو الذي صدَّنا عن الإِيمان { إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } أي وقت دعوتكم لنا إِلى الكفر بالله ، وأن نجعل له شركاء ، ولولا تزيينكم لنا الباطل ما كفرنا { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ } أي أخفى كل من الفريقين الندامة على ترك الإِيمان حين رأوا العذاب ، أخفوها مخافة التعيير { وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي وجعلنا السلاسل في رقاب الكفار زيادةً على تعذيبهم بالنار { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لا يجزون إِلا بأعمالهم التي عملوها ولا يعاقبون إِلا بكفرهم وإِجرامهم . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين لفظ { يَمِينٍ … و … شِمَالٍ } وبين { بَشِيراً … و … نَذِيراً } وبين { تَسْتَقْدِمُونَ … و … تَسْتَأْخِرُونَ } وبين { ٱسْتُضْعِفُواْ … و … ٱسْتَكْبَرُواْ } وهو من المحسنات البديعية . 2 - جناس الاشتقاق { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ } فإِن كلمة { سِيرُواْ } مشتقة من السير . 3 - التعجيز بدعاء الجماد الذي لا يسمع ولا يحس { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ } . 4 - التوبيخ والتبكيت { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ؟ 5 - حذف الخبر لدلالة السياق عليه { قُلِ ٱللَّهُ } أي قل الله الخالق الرازق للعباد ودل على المحذوف سياق الآية . 6 - المبالغة بذكر صيغ المبالغة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } فإِن فعَّال وفعيل وفعول من صيغ المبالغة ومثلها { وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ } . 7 - حذف الجواب للتهويل والتفزيع { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } حذف الجواب للتهويل أي لو ترى حالهم لرأيت أمراً فظيعاً مهولاً . 8 - المجاز العقلي { بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ } أسند المكر إِلى الدليل والمراد مكر المشركين بهم في الليل ففيه مجاز عقلي . 9 - الاستعارة { لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ليس للقرآن يدان ولكنه استعارة لما سبقه من الكتب السماوية المنزلة من عند الله . 10 - مراعاة الفواصل لما لها من وقع حسن على السمع مثل { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ … إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } الخ .