Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 1-14)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { فَاطِرِ } الفاطر : الخالق ، وأصل الفطر الشَّق يقال : فطره فانفطر أي انشق ومنه { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] وفطر اللهُ الخلق : خلقهم وبرأهم { تُؤْفَكُونَ } تُصرفون من الإِفك بمعنى الكذب سمي إِفكاً لأنه مصروف عن الحق والصواب { حَسَرَاتٍ } جمع حسرة وهي الغم الذي يلحق النفس على فوات الأمر ، وفي المختار : الحسرةُ أشدُّ التلهف على الشيء الفاقد { ٱلنُّشُورُ } مصدر نشر الميت إذا حيي قال الأعشى : @ حتى يقول الناس ممَّا رأوا يا عجباً للميّت الناشر @@ { يَبُورُ } يهلك يقال : بار يبور أي هلك وبطل ، والبوار : الهلاك { فُرَاتٌ } حلو شديد الحلاوة { أُجَاجٌ } شديد الملوحة قال في القاموس : أجَّ الماء أُجوجاً إذا اشتدت ملوحته { قِطْمِيرٍ } القمطير : القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة . التفسِير : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي الثناء الكامل ، والذكر الحسن ، مع التعظيم والتبجيل لله جلَّ وعلا ، خالق السماوات والأرض ومنشئها ومخترعها من غير مثالٍ سبق ، قال البيضاوي : { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي مبدعهما وموجدهما على غير مثال { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } أي جاعل الملائكة وسائط بين الله وأنبيائه لتبليغهم أوامر الله ، قال ابن الجوزي : يرسلهم إلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أي أصحاب أجنحة ، قال قتادة : بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة ، وبعضهم له أربعة ، ينزلون بها من السماء إلى الأرض ، ويعرجون بها إلى السماء { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } اي يزيد في خلق الملائكة كيف يشاء ، من ضخامة الأجسام ، وتفاوت الأشكال ، وتعدد الأجنحة ، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة الإِسراء وله ستمائة جناح ، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب وقال قتادة : { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } الملاحةُ في العينين ، والحسنُ في الأنف ، والحلاوة في الفم { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي هو تعالى قادر على ما يريد ، له الأمر والقوة والسلطان ، لا يمتنع عليه فعل شيءٍ أراده ، ولا يتأبى عليه خلق شيء أراده ، وصف تعالى نفسه في هذه الآيات بصفتين جليلتين تحمل كل منهما صفة القدرة وكمال الإِنعام الأولى : أنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومبدعهما من غير مثالٍ يحتذيه ، ولا قانون ينتحية ، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته ، وشمول نعمته ، فهو الذي رفع السماء بغير عمد ، وجعلها مستويةً من غير أوَد ، وزينها بالكواكب والنجوم ، وهو الذي بسط الأرض ، وأودعها الأرزاق والأقوات ، وبثَّ فيها البحار والأنهار ، وفجَّر فيها العيون والآبار ، إلى غير ما هنالك من آثار قدرته العظيمة ، وآثار صنعته البديعة ، وعبَّر عن ذلك كله بقوله : { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } والثانية : اختيار الملائكة ليكونوا رسلاًَ بينه وبين أنبيائه ، وقد أشار إلى طرفٍ من عظمته وكمال قدرته جل وعلا بأن خلق الملائكة بأشكال عجيبة ، وصور غريبة ، وأجنحة عديدة ، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له ستمائة جناح ، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ، كما هو وصف جبريل عليه السلام ، ومنهم من لا يعلم حقيقة خِلقته وضخامة صورته إلا الله جل وعلا ، فقد روى الزهري أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " يا محمد كيف لو رأيت إسرافيل ! إنَّ له لاثنيْ عشر ألف جناح ، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، وإِن العرش لعلى كاهله " ولو كشف لنا الحجاب لرأينا العجب العجاب ، فسبحان الله ما أعظم خلقه ، وما أبدع صنعه ! ! ثم بيَّن تعالى نفاذ مشيئته ، ونفوذ أمره في هذا العالم الذي فطره ومن فيه ، وأخضعه لإِرادته وتصرفه فقال : { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } أيْ أيُّ شيء يمنحه الله لعباده ويتفضل به عليهم من خزائن رحمته ، من نعمةٍ ، وصحةٍ ، وأمنٍ ، وعلمٍ ، وحكمةٍ ، ورزقٍ ، وإِرسال رسلٍ لهداية الخلق ، وغير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحيط بها عدٌّ ، فلا يقدر أحدٌ على إِمساكه وحرمان خلق الله منه ، فهو الملك الوهاب الذي لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } أيْ وأيُّ شيء يمسكه ويحبسه عن خلقه من خيري الدنيا والآخرة ، فلا أحد يقدر على منحه للعباد بعد أن أمسكه جلا علا { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي هو تعالى الغالب على كل شيء ، الحكيم في صنعه ، الذي يفعل ما يريد على مقتضى الحكمة والمصلحة ، قال المفسرون : والفتحُ والإِمساك عبارة عن العطاء والمنع ، فهو الذي يضر وينفع ، ويعطي ويمنع ، وفي الحديث : " أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد : اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة عليهم فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي اشكروا ربكم على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحْصى التي أنعم بها عليكم ، قال الزمخشري : ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط ، ولكن المراد حفظها من الكفران ، وشكرها بمعرفة حقها ، والاعتراف بها ، وإِطاعة موليها ، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : أذكرْ أياديَّ عندك { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } استفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا خالق غيره تعالى ، لا ما تعبدون من الأصنام { يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي حال كونه تعالى هو المنعم على العباد بالرزق والعطاء ، فهو الذي ينزل المطر من السماء ، ويخرج النبات من الأرض ، فكيف تشركون معه ما لا يخلق ولا يرزق من الأوثان والأصنام ؟ ولهذا قال تعالى بعده { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا ربَّ ولا معبود إلا اللهُ الواحد الأحد { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي فكيف تُصرفون بعد هذا البيان ، ووضوح البرهان ، إلى عبادة الأوثان ؟ والغرض : تذكير الناس بنعم الله ، وإِقامة الحجة على المشركين ، قال ابن كثير : نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى الاستدلال على توحيده ، بوجوب إِفراد العبادة له ، فكما أنه المستقل بالخلق والرزق ، فكذلك يجب أن يُفرد بالعبادة ، ولا يُشرك به غيره من الأصنام والأوثان { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه له والمعنى : وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فلا تحزن لتكذيبهم ، فهذه سنة الله في الأنبياء من قبلك ، فقد كُذّبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا ، فلك بهم أسوة ، ولا بدَّ أن ينصرك الله عليهم { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أي إلى الله تعالى وحده مرجع أمرك وأمرهم ، وسيجازي كلاً بعمله ، وفيه وعيد وتهديد للمكذبين . ثم ذكَّرهم تعالى بذلك الموعد المحقَّق فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي إِن وعده لكم بالبعث والجزاء حقٌّ ثابتٌ لا محالة لا خُلف فيه { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } أي فلا تلهكم الحياة الدنيا بزخرفها ونعيمها عن الحياة الآخرة ، قال ابن كثير : أي لا تتلهَّوا عن تلك الحياة الباقية ، بهذه الزهرة الفانية { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } أي ولا يخدعنكم الشيطان المبالغ في الغرور فيطمعكم في عفو الله وكرمه ، ويمنيكم بالمغفرة مع الإِصرار على المعاصي . ثم بيَّن تعالى عداوة الشيطان للإِنسان فقال : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } أي إِن الشيطان لكم أيها الناس عدوٌ لدود ، وعداوته قديمة لا تكاد تزول فعادوه كما عاداكم ولا تطيعوه ، وكونوا على حذرٍ منه قال بعض العارفين : يا عجباً لمن عصى المحسن بعد معرفته بإِحسانه ، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } أي إِنما غرضه أن يقذف بأتباعه في نار جهنم المستعرة التي تشوي الوجوه والجلود ، لا غرض له إلا هذا ، فهل يليق بالعاقل أن يستجيب لنداء الشيطان اللعين ؟ قال الطبري : أي إنما يدعو شيعته ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي الذين جحدوا بالله ورسله لهم عذاب دائم شديد لا يُقادر قدره ، ولا يوصف هولُه { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي لهم عند ربهم مغفرةٌ لذنوبهم ، وأجر كبير وهو الجنة ، وإِنما قرن الإِيمان بالعمل الصالح ليشير إِلى أنهما لا يفترقان ، فالإِيمان تصديقٌ ، وقول ، وعمل { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } الاستفهام للإِنكار وجوابه محذوف والتقدير أفمن زيَّن له الشيطان عمله السيء حتى رآه حسناً واستحسن ما هو عليه من الكفر والضلال ، كمن استقبحه واجتنبه واختار طريق الإِيمان ؟ ودلَّ على هذا الحذف قوله تعالى { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي الكلُّ بمشيئة الله ، فهو تعالى الذي يصرف من يشاء عن طريق الهدى ، ويهدي من يشاء بتوفيقه للعمل الصالح والإِيمان { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } أي فلا تغتمَّ يا محمد ولا تُهلك نفسك حسرةً على تركهم الإِيمان { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي هو جل وعلا العالم بما يصنع هؤلاء من القبائح ومجازيهم عليها ، وفيه وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم { وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ } أي والله تعالى بقدرته هو الذي أرسل الرياح مبشرة بنزول المطر { فَتُثِيرُ سَحَاباً } أي فحركت السحاب وأهاجته ، والتعبيرُ بالمضارع عن الماضي { فَتُثِيرُ } لاستحضار تلك الصورة البديعة ، الدالة على كمال القدرة والحكمة { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } أي فسقنا السحاب الذي يحمل الغيث إلى بلدٍ مجدب قاحل { فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فيه حذفٌ تقديره فأنزلنا به الماء فأحيينا به الأرض بعد جدبها ويبسها { كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ } أي كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء ، كذلك يحيي الموتى من قبورهم ، روى الإِمام أحمد عن أبي رُزين العقيلي قال " قلت يا رسول الله : كيف يُحْيِي اللهُ الموتى ؟ وما آيةُ ذلك في خلقه ؟ فقال : " أما مررتَ بوادي أهلك مُمْحلاً ، ثم مررتَ به يهتز خضراً ؟ قلت : نعم يا رسول الله ، قال : فكذلك يُحْيِي اللهُ الموتى ، وتلك آيتهُ في خلقه " " قال ابن كثير : كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإِحيائه الأرض بعد موتها ، فإِن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها ، فإِذا أرسل الله إِليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها { ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] كذلك الأجساد إِذا أراد الله بعثها ونشورها ، ثمَّ نبَّه تعالى عباده إِلى السبيل الذي تُنال به العزة فقال { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } أي من كان يطلب العزة الكاملة ، والسعادة الشاملة ، فليطلبها من الله تعالى وحده ، فإن العزة كلَّها لله جلَّ وعلا قال بعض العارفين : من أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } أي إليه جلَّ وعلا يرتفع كل كلام طيب من ذكر ، ودعاءٍ ، وتلاوة قرآن ، وتسبيح وتمجيد ونحوه قال الطبري : إلى الله يصعد ذكرُ العبد إيَّاه وثناؤه عليه { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } أي والعمل الصالح يتقبله الله تعالى ويثيب صاحبه عليه قال قتادة : لا يقبل الله قولاً إلاَّ بعمل ، من قال وأحسن العمل قبل الله منه ، نقله الطبري { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } هذا بيانٌ للكلم الخبيث بعد بيان حال الكلام الطيب أي والذين يحتالون بالمكر والخديعة لإِطفاء نور الله ، والكيد للإِسلام والمسلمين ، لهم في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } أي ومكر أولئك المجرمين هالكٌ وباطل ، لأنه ما أسرَّ أحد سوءاً ودبَّره إلا أبداه الله وأظهره { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] قال المفسرون : والإِشارة هنا إلى مكر قريشٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة وأرادوا أن يقتلوه ، أو يحبسوه ، أو يخرجوه كما حكى القرآن الكريم { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأَنفال : 30 ] ثم ذكَّرهم تعالى بدلائل التوحيد والبعث ، بعد أن ذكَّرهم بآيات قدرته وعزته فقال { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } أي خلق أصلكم وهو آدم من تراب { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثم خلق ذريته من ماءٍ مهين وهو المنيُّ الذي يُصبُّ في الرحم { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي خلقكم ذكوراً وإِناثاً ، وزوَّج بعضكم من بعضٍ ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضائها قال الطبري : أي زوَّج منهم الأنثى من الذكر { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي وما تحمل أنثى في بطنها من جنين ، ولا تلد إِلاَّ بعلمه تعالى ، يعلم أذكر هو أو أُنثى ، ويعلم أطوار هذا الجنين في بطن أمه ، لا يخفى عليه شيء من أحواله { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي وما يطول عُمر أحدٍ من الخلق فيصبح هرماً ، ولا يُنقص من عُمر أحد فيموت وهو صغير أو شاب إلا وهو مسجَّل في اللوح المحفوظ ، لا يُزاد فيما كتب الله ولا يُنقص { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي سهلٌ هيّن ، لأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر فقال : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ } أي وما يستوي ماء البحر وماء النهر { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ } أي هذا ماء حلوٌ شديد الحلاوة يكسر وهج العطش ، ويسهل انحداره في الحلق لعذوبته { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي وهذا ماءٌ شديد الملوحة ، يُحرق حلق الشارب لمرارته وشدة ملوحته ، فكما لا يتساوى البحران : العذبُ ، والملح ، فكذلك لا يتساوى المؤمن مع الكافر ، ولا البرُّ مع الفاجر ، قال أبو السعود : هذا مثلٌ ضُرب للمؤمن والكافر ، والفراتُ الذي يكسر العطش ، والسائغ الذي يسهل انحداره لعذوبته ، والأُجاج الذي يُحرق بملوحته { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } أي وما كل واحدٍ منهما تأكلون سمكاً غضاً طرياً ، مختلف الأنواع والطعوم والأشكال { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } أي وتستخرجون منهما اللؤلؤ والمرجان للزينة والتحلي { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } أي وترى أيها المخاطب السفن العظيمة ، تمخرُ عُباب البحر مقبلة ومدبرة ، تحمل على ظهرها الأثقال والبضائع والرجال ، وهي لا تغرق فيه لأنها بتسخير الله جل وعلا { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي لتطلبوا بركوبكم هذه السفن العظيمة من فضل الله بأنواع التجارات ، والسفر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولكي تشكروا ربكم على إنعامه وإِفضاله في تسخيره ذلك لكم ، ثم انتقل إلى آية آخرى من آيات قدرته وسلطانه في الآفاق فقال { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } أي يدخل الليلَ في النهار ، ويدخل النهار في الليل ، فيضيف من هذا إلى هذا وبالعكس ، فيتفاوت بذلك طول الليل والنهار بالزيادة والنقصان ، حسب الفصول والأمصار ، حتى يصل النهار صيفاً - في بعض البلدان - إلى ستة عشرة ساعة ، وينقص الليل حتى يصل إلى ثمان ساعات - آيةٌ من آيات الله تُشاهد لا يستطيع إِنكارها جاحد أو مؤمن ، ويحس بآثارها الأعمى والبصير . . آيةٌ شاهدة على قدرة الله ، ودقة تصرفه في خلقه ، وهذه الظاهرة الكونية دستور لا يتغيَّر ، ونظام محكم لا يأتي بطريق الصدفة ، وإِنما هو من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه ، فسبحان المدبر الحكيم العليم ! ! { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي ذلَّلهما لمصالح العباد ، كل منهما يسير ويدور في مداره الذي قدَّره الله له لا يتعداه ، إِلى أجلٍ معلوم هو يوم القيامة { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ } أي ذلكم الفاعل لهذه الأمور البديعة ، هو ربكم العظيم الشأن ، الذي له المُلك والسلطان والتصرف الكامل في الخلق { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } أي والذين تعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام لا يملكون شيئاً ولو بمقدار القطمير ، وهو القشرة الرقيقة التي بين التمرة والنواة قال المفسرون : وهو مثلٌ يضرب في القلة والحقارة ، والأصنامُ لضعفها ، وَهَوان شأنها وعجزها عن أي تصرف صارت مضرب المثل في حقارتها بأنها لا تملك فتيلاً ولا قطميراً ، ثم أكد تعالى ذلك بقوله : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } أي إن دعوتم هذه الأصنام لم يسمعوا دعاءكم ولم يستجيبوا لندائكم ، لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ } أي ولو سمعوا لدعائكم - على الفرض والتسليم - ما استجابوا لكم لأنها ليست ناطقة فتجيب { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } أي وفي الآخرة حين ينطقهم الله يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي ولا يخبرك يا محمد على وجه اليقين أحدٌ إلا أنا - الله - الخالق العليم الخبير ، قال قتادة : يعني نفسه عز وجل . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان نوجزها فيما يلي : 1 - الاستعارة التمثيلية { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } شبَّه فيه إِرسال النعم بفتح الخزائن للإِعطاء وكذلك حبس النعم بالإِمساك ، واستعير الفتح للإِطلاق والإِمساك للمنع . 2 - الطباق بين { يَفْتَحِ … و … يُمْسِكْ } وكذلك بين { يُضِلُّ … و … يَهْدِي } وبين { تَحْمِلُ … و … تَضَعُ } وبين { يُعَمَّرُ … و … يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } . 3 - المقابلة بين جزاء الأبرار والفجار { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ … وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وكذلك بين قوله { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ … وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } وكل من الطباق والمقابلة من المحسنات البديعية إلا أن الأول يكون بين شيئين والثاني بين أكثر . 4 - حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ } ؟ حذف منه ما يقابله أي كمن لم يُزين له سوء عمله ؟ ودّل على هذا المحذوف قوله { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } . 5 - الإِطناب بتكرار الفعل { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } ثم قال { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } . 6 - الكناية { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } كناية عن الهلاك لأن النفس إذا ذهبت هلك الإِنسان . 7 - الالتفات من الغيبة إلى التكلم للإِشعار بالعظمة { أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ } . 8 - السجع لما له من وقع حسن على السمع مثل { لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وأمثال ذلك وهو من المحسنات البديعية .