Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 32-45)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما أثنى تعالى على الذين يتلون كتاب الله ، ذكر هنا انقسام الأمة الإِسلامية أمام هذا الكنز الثمين إلى ثلاثة أقسام : الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات ، ثم ذكر مآل الأبرار والفجار ، ليظل العبد بين الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة . اللغَة : { نَصَبٌ } تعب ومشقة جسمانية { لُغُوبٌ } اللُّغُوب : الإِعياء والضعف والفتور ومنه { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] { يَصْطَرِخُونَ } من الصراخ وهو الصياح بصوت عال ، والصارخ : المستغيث ، والمُصْرخ : المغيث ، قال سلامة بن جندب : @ كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ كان الصُّراخ له قرعُ الظَّنابيب @@ { ٱلنَّذِيرُ } المنذر الذي يخوّف الناس من عذاب الله { خَلاَئِفَ } جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في أمرٍ من الأمور { مَقْتاً } المقت : أشد البغض والغضب { خَسَاراً } هلاكاً وضلالاً { يَحِيقُ } حاق به الشيء : نزل وأحاط . التفسِير : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } أي ثم أورثنا هذا القرآن العظيم لأفضل الأمم - وهم أمة محمد عليه السلام - الذين اخترناهم على سائر الأمم ، وخصصناهم بهذا الفضل العظيم ، القرآن المعجز خاتمة الكتب السماوية قال الزمخشري : والذين اصطفاهم الله هم أمة محمد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة … ثم قسمهم إلى ثلاثة أصناف فقال { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ } أي فمن هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب من هو مقصِّر في عمل الخير ، يتلو القرآن ولا يعمل به وهو الظالم لنفسه ، ومنهم من هو متوسط في فعل الخيرات والصالحات ، يعمل بالقرآن في أغلب الأوقات ، ويقصِّر في بعض الفترات وهو المقتصد ، ومنهم مَن هو سبَّاق في العمل بكتاب الله ، يستبق الخيرات وقد أحرز قصب السبق في فعل الطاعات بتوفيق الله وتيسيره وهو السابق بالخيرات بإِذن الله قال ابن جزي : وأكثر المفسرين أن هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالظالم لنفسه : العاصي ، والسابق : التقيُّ ، والمقتصد : بينهما وقال الحسن البصري : السابقُ من رجحت حسناته على سيئاته ، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته ، وجميعهم يدخلون الجنة { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } أي ذلك الإِرث والاصطفاء لأمة محمد عليه السلام لحمل أشرف الرسالات والكتب السماوية هو الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ولا شرف ، فقد تفضل الله عليهم بهذا القرآن المجيد ، الباقي مدى الدهر ، وأنعم به من فضل ! ثم أخبر تعالى عما أعده للمؤمنين في جنات النعيم فقال { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } أي جنات إِقامة ينعَّمون فيها بأنواع النعيم ، وهي مراتب ودرجات متفاوتة حسب تفاوت الأعمال ، وإِنما جمع { الجَنَّاتُ } لأنها جنات كثيرة وليست جنة واحدة ، فهناك جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، وجنة المأوى ، وجنة الخلد ، وجنة السلام ، وجنة عليين ، وفي كل جنة مراتبُ ونُزلٌ بحسب مراتب العاملين { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } أي يزينون في الجنة بأساور من ذهب مرصَّعة باللؤلؤ { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } أي وجميع ما يلبسونه في الجنة من الحرير ، بل فرشهم وستورهم كذلك قال القرطبي : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان ، جعل الله ذلك لأهل الجنة ، وليس أحد من أهل الجنة إلا في يده ثلاثة أسورة : سوارٌ من ذهب ، وسوار من فضة ، وسوار من لؤلؤ { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } أي وقالوا عند دخولهم الجنة الحمدُ لله الذي أذهب عنا جميع الهموم والأكدار والأحزان قال المفسرون : عبَّر بالماضي { وَقَالُواْ } لتحقق وقوعه ، والحزن يعمُّ كل ما يكدِّر صفو الإِنسان من خوف المرض ، والفقر ، والموت ، وأهوال القيامة ، وعذاب النار وغير ذلك { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } أي واسع المغفرة للمذنبين ، شكور لطاعة المطيعين ، وكلا اللفظتين للمبالغة أي واسع الغفران عظيم الشكر والإِحسان { ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ } أي أنزلنا الجنة وأسكننا فيها ، وجعلها مقراً لنا وسكناً ، لا نتحول عنها أبداً ، وكل ذلك من إنعامه وتفضله علينا { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أي لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أي ولا يصيبنا فيها إِعياءٌ ولا فتور ، قال ابن جزي : وإِنما سميت الجنة { دَارَ ٱلْمُقَامَةِ } لأنهم يقومون فيها ويمكثون ولا يُخرجون منها ، والنَّصبُ تعبُ البدن ، واللغوبُ تعب النفس الناشىء عن تعب البدن . . ولما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار ، ذكر حال الأشقياء الفجار فقال { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله فإِنَّ لهم نار جهنم المستعرة جزاءً وفاقاً على كفرهم { لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } أي لا يحكم عليهم بالموت فيها حتى يستريحوا من عذاب النار { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } أي ولا يخفف عنهم شيء من العذاب ، بل هم في عذاب دائم مستمر لا ينقطع كقوله { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإِسراء : 97 ] { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } أي مثل ذلك العذاب الشديد الفظيع ، نجازي ونعاقب كل مبالغ في الكفر والعصيان { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } أي وهم يتصارخون في جهنم ويستغيثون برفع أصواتهم قائلين : ربنا أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً يقربنا منك ، غير الذي كنا نعمله قال القرطبي : أي نؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية ، ونمتثل أمر الرسل … وفي قولهم { غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } اعترافٌ بسوء عملهم ، وتندُّمٌ عليه وتحسر ، قال تعالى رداً عليهم وموبخاً لهم { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } أي أولم نترككم ونمهلكم في الدنيا عمراً مديداً يكفي لأن يتذكر فيه من يريد التذكر والتفكر ؟ فماذا صنعتم في هذه المدة التي عشتموها ؟ وما لكم تطلبون عُمراً آخر ؟ وفي الحديث " أعذر الله إلى امرىءٍ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة " ومعنى " أعذر " أي بلغ به أقصى العذر { وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ } أي وجاءكم الرسول المنذر وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث بين يدي الساعة ، وقيل : { ٱلنَّذِيرُ } هو الشيبُ ، والأول أظهر { فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } أي فذوقوا العذاب يا معشر الكافرين ، فليس لكم اليوم ناصر ولا معين يدفع عنكم عذاب الله قال الإمام الفخر : والأمرُ أمرُ إِهانة { فَذُوقُواْ } وفيه إشارة إلى الدوام ، وإِنما وضعَ الظاهر { لِلظَّالِمِينَ } موضع الضمير " لكم " لتسجيل الظلم عليهم ، وأنهم بكفرهم وظلمهم ليس لهم نصيرٌ أصلاً لا من الله ولا من العباد ، ثم قال تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي هو تعالى العالم الذي أحاط علمه بكل ما خفي في الكون من غيب السماوات والأرض ، لا يخفى عليه شأن من شئونهما { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي يعلم جلَّ وعلا مضمرات الصدور ، وما تخفيه من الهواجس والوساوس ، فكيف لا يعلم أعمالهم الظاهرة ؟ قال المفسرون : والجملة لتأكيد ما سبق من دوام عذاب الكفار في النار ، لأن الله تعالى يعلم من الكافر أنه تمكَّن الكفر في قلبه بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبَده ، فالعذابُ الأبديُّ مساوٍ لكفرهم الأبدي ، فلا ظلم ولا زيادة { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] قال القرطبي : والمعنى في الآية علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال تعالى { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأَنعام : 28 ] { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ } أي هو تعالى جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض ، بعد عاد وثمود ومن مضى قبلكم من الأمم ، تخلفونهم في مساكنهم جيلاً بعد جيل ، وقرناً بعد قرن { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي فمن كفر بالله فعليه وبال كفره ، لا يضر بذلك إلا نفسه { وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً } أي ولا يزيدهم كفرهم إلا طرداً من رحمة الله وبعداً وبغضاً شديداً من الله { وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } أي ولا يزيدهم كفرهم إلا هلاكاً وضلالاً وخسران العمر الذي ما بعده شر وخسار ! ! قال أبو حيان : وفي الآية تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم ، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من المكذبين للرسل وما حلَّ بهم من الهلاك ، ولا اعتبروا بمن كفر ، ولا اتعظوا بمن تقدم ، والمقتُ أشد الاحتقار والبغض ، والخسارُ خسارُ العمر ، كأنَّ العمر رأس مال الإِنسان فإذا انقضى في غير طاعة الله فقد خسره ، واستعاض به بدل الربح سخط الله وغضبه ، بحيث صار إلى النار المؤبدة ، ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم ما لا يسمع ولا ينفع فقال { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } ؟ قال الزمخشري : { أَرَأَيْتُمْ } معناها أخبروني كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإِلهية والشركة ، ومعنى الآية : قل يا محمد تبكيتاً لهؤلاء المشركين : أخبروني عن شأن آلهتكم - الأوثان والأصنام - الذين عبدتموهم من دون الله ، وأشركتموهم معه في العبادة ، بأي شيء استحقوا هذه العبادة ؟ { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } أي أروني أيَّ شيء خلقوه في هذه الدنيا من المخلوقات حتى عبدتموهم من دون الله ؟ { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي أم شاركوا اللهَ في خلق السماوات فاستحقوا بذلك الشركة معه في الألوهية ؟ { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } أي أم أنزلنا عليهم كتاباً ينطق بأنهم شركاء الله فهم على بصيرة وحجة وبرهان في عبادة الأوثان { بَلْ إِن يَعِدُ ٱلظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } إضرابٌ عن السابق وبيانٌ للسبب الحقيقي أي إِنما اتخذوهم آلهة بتضليل الرؤساء للأتباع بقولهم : الأصنام تشفع لهم ، وهو غرور باطل وزور قال أبو السعود : لما نفى أنواع الحجج أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه ، وهو تغرير الأسلاف للأخلاف ، وإِضلال الرؤساء للأتباع بأنهم يشفعون لهم عند الله . . ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } أي هو جل وعلا بقدرته وبديع حكمته ، يمنع السماوات والأرض من الزوال ، والسقوط ، والوقوع كما قال تعالى { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] قال القرطبي : لما بيَّن أن آلهتهم لا تقدر على خلق شيء من السماوات والأرض ، بيَّن أن خالقهما وممسكهما هو الله ، فلا يوجد حادث إلا بإِيجاده ، ولا يبقى إِلا ببقائه { وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } أي ولئن زالتا عن أماكنهما فرضاً ما أمسكهما أحدٌ بعد الله ، بمعنى أنه لا يستطيع أحدٌ على إِمساكهما ، إِنما هما قائمتان بقدرة الواحد القهار { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } أي إِنه تعالى حليم لا يعاجل العقوبة للكفار مع استحقاقهم لها ، واسع المغفرة والرحمة لمن تاب منهم وأناب { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي حلف المشركون بالله أشدَّ الأيمان وأبلغها قال الصاوي : كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم فإِذا أرادوا التأكيد والتشديد حلفوا بالله { لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } أي لئن جاءهم رسول منذر { لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } أي ليكونُنَّ أهدى من جميع الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل من أهل الكتاب قال أبو السعود : بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن اللهُ اليهودَ والنصارى ، أتتهم الرسلُ فكذبوهم ، فواللهِ لئن أتانا رسول لنكوننَّ أهدى من اليهود والنصارى وغيرهم { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } أي فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم أشرف المرسلين { مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } أي ما زادهم مجيئه إلا تباعداً عن الهدى والحق وهرباً منه { ٱسْتِكْبَاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ } أي نفروا منه بسبب استكبارهم عن اتباع الحق ، وعتوهم وطغيانهم في الأرض ، ومن أجل المكر السيء بالرسول وبالمؤمنين ، ليفتنوا ضعفاء الإِيمان عن دين الله قال أبو حيان : أي سبب النفور هو الاستكبار والمكر السيء يعني أن الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار ، والمكرُ السيءُ وهو الخداع الذي يرومونه برسول الله صلى الله عليه وسلم والكيد له ، قال تعالى رداً عليهم { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } أي ولا يحيط وبال المكر السيء إلا بمن مكره ودبَّره كقولهم " من حفر حفرة لأخيه وقع فيها " { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ } أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا عادة الله وسنته في الأمم المتقدمة ، من تعذيبهم وإِهلاكهم بتكذيبهم للرسل ؟ { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } أي لن تتغير ولن تتبدل سنته تعالى في خلقه { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } أي ولا يستطيع أحد أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم ، قال القرطبي : أجرى الله العذاب على الكفار ، فلا يقدر أحد أن يُبدّل ذلك ، ولا أن يُحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره ، والسُّنة هي الطريقة . . ثم حثهم تعالى على مشاهدة آثار من قبلهم من المكذبين ليعتبروا فقال { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؟ أولم يسافروا ويمروا على القرى المهلكة فيروا آثار دمار الأمم الماضية حين كذبوا رسلهم ماذا صنع الله بهم ؟ { وَكَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي وكانوا أقوى من أهل مكة أجساداً ، وأكثر منهم أموالاً وأولاداً { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } أي أنه سبحانه لا يفوته شيء ، ولا يصعب عليه أمر في هذا الكون { إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } أي بالغ العلم والقدرة ، عالم بشئون الخلق ، قادر على الانتقام ممن عصاه { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } بيانٌ لحلم الله ورحمته بعباده أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم ما ترك على ظهر الأرض أحداً يدب عليها من إنسان أو حيوان قال ابن مسعود : يريد جميع الحيوان مما دبَّ ودرج { وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي ولكنه تعالى من رحمته بعباده ، ولطفه بهم ، يمهلهم إلى زمن معلوم وهو يوم القيامة فلا يعجل لهم العذاب { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } أي فإِذا جاء ذلك الوقت جازاهم بأعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، لأنه تعالى العالم بشئونهم المطلع على أحوالهم قال ابن جرير : بصيراً بمن يستحق العقوبة ، وبمن يستوجب الكرامة ، وفي الآية وعيدٌ للمجرمين ووعد للمتقين . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الإِطناب بتكرير الفعل { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } للمبالغة في انتفاء كل منهما استقلالاً ، وكذلك الإِطناب في قوله { وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } لزيادة التشنيع والتقبيح على من كفر بالله . 2ـ التهكم في صيغة الأمر { فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } مثل { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . 3ـ المبالغة مثل { غَفُورٌ } ، { شَكُورٌ } ، { كَفُورٍ } ومثل { حَلِيماً } ، { عَلِيماً } ، { قَدِيراً } فإِنها من صيغ المبالغة . 4ـ الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } ؟ وكذلك { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } ؟ 5ـ الاستعارة المكنية { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } شبَّه الأرض بدابة تحمل على ظهرها أنواع المخلوقات ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الظهر بطريق الاستعارة المكنية . 6ـ السجع غير المتكلف ، البالغ نهاية الروعة والجمال مثل { وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } وهو من المحسنات البديعية .