Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 1-32)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { أَغْلاَلاً } جمع غُلّ وهو القيد الذي يوضع في اليد ، وقد تشدُّ به اليد مع العنق { مُّقْمَحُونَ } رافعو الرؤوس مع غض البصر ، قال أهل اللغة : الإِقماح : رفع الرأس وغض البصر يقال : أقمح البعير إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب ، قال بشر يصف سفينة : @ ونحن على جوانبها قعودٌ نغضُّ الطرف كالإِبل القِماح @@ { سَدّاً } السَّد : الحاجز والمانع بين الشيئين { فَعَزَّزْنَا } عززه قوَّاه وشدَّ من أزره { تَطَيَّرْنَا } تشاءمنا ، والتطير التشاؤم ، وأصله من الطير إذا طار الى جهة اليسار تشاءموا به { خَامِدُونَ } ميتون لا حراك بهم كما تخمد النار . التفسِير : { يسۤ } الحروف المقطعة في أوائل بعض السور الكريمة للتنبيه على إعجاز القرآن ، وأنه مصوغ من جنس هذه الحروف الهجائية التي يعرفونها ويتكلمون بها ، ولكنَّ نظمه البديع المعجز آيةٌ على كونه من عند الله وقال ابن عباس : معنى " يسۤ " يا إنسان في لغة طيء ، وقيل : هو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله بعده { إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } وقيل معناه : يا سيد البشر قاله أبو بكر الوراق { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } قسم من الله تعالى بالقرآن ، والحكيم معناه المحكم ، الذي لا يلحقه تغيير ولا تبديل ، ولا يعتريه تناقض أو بطلان قال القرطبي : أُحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل وقال أبو السعود : أي المتضمن للحكمة أو الناطق بالحكمة من حيث نظُمه المعجزُ ، المنطوي على بدائع الحكم … والخلاصة فقد أقسم تعالى بهذا الكتاب المحكم ، المعجز في نظمه ، وبديع معانيه ، المتقن في تشريعه وأحكامه ، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة ، على أن محمداً رسوله ، وفي هذا القسم من التعظيم والتفخيم لشأن الرسول ما فيه { إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } جواب القسم أي إنك يا محمد لمن المرسلين من رب العالمين لهداية الخلق قال ابن عباس : قالت كفار قريش : لست يا محمد مرسلاً ، وما أرسلك الله إلينا ، فأقسم الله بالقرآن العظيم المحكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين { عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي على طريق ونهج مستقيم ، لا انحراف فيه ولا اعوجاج ، هو الإِسلام دين الرسل قبلك ، الذين جاءوا بالإِيمان والتوحيد قال الطبري : أي على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو الإِسلام كما قال قتادة ، والتنكير للتفخيم والتعظيم { تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ } أي هذا القرآن الهادي المنير ، تنزيلٌ من ربّ العزة جل وعلا ، العزيز في ملكه ، الرحيم بخلقه { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } أي لتنذر يا محمد بهذا القرآن العرب ، الذين ما جاءهم رسولٌ ولا كتاب ، لتطاول زمن الفترة عليهم ، والمراد بالإِنذار تخويفهم من عذاب الله { فَهُمْ غَافِلُونَ } أي فهم بسبب ذلك غافلون عن الهدى والإِيمان ، يتخبطون في ظلمات الشرك وعبادة الأوثان . . ثم بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب بإِصرارهم على الكفر والتكذيب فقال { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } اللام موطئة للقسم أي والله لقد وجب عذاب النار على أكثر هؤلاء المشركين ، بسبب إصرارهم على الكفر والإِنكار ، وعدم تأثرهم بالتذكير والإِنذار ، فهم لذلك لا يؤمنون بما جئتهم به يا محمد … ثم بيَّن تعالى سبب تركهم الإِيمان فقال { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } تمثيلٌ وتصوير لحال المشركين في ضلالهم بحال الذي جعل في يده غلٌّ وجمعت يده إلى عنقه ، فبقي رافعاً رأسه لا يخفضه قال في الجلالين : وهذا تمثيل والمراد أنهم لا يُذعنون للإيمان ، ولا يخفضون رؤوسهم له قال ابن كثير : ومعنى الآية : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء ، كمن جُعل في عُنقه غلٌّ ، وجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه ، فارتفع رأسه فصار مُقمحاً ، والمُقمح هو الرافع رأسه ، واكتفى بذكر الغُلِّ في العنق عن ذكر اليدين ، لأن الغُلَّ إنما يُعرف فيما جمع اليدين مع العنق وقال أبو السعود : مثِّل حالهم بحال الذين غُلَّت أعناقهم { فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } أي فالأغلال منتهيةٌ إلى أذقانهم ، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يُطأطئون رؤوسهم ، غاضون أبصارهم ، بحيث لا يكادون يرون الحقَّ ، أو ينظرون إلى جهته { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } قال أبو السعود : وهذا تتمةٌ للتمثيل وتكميلٌ له أي وجعلنا من أمامهم سداً عظيماً ، ومن ورائهم سداً كذلك { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي فغطينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئاً أصلاً ، لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين ، وهذا بيان لكمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغيِّ والجهالات ، محرومين عن النظر في الأدلة والآيات ، قال المفسرون : وهذا كله تمثيل لسدِّ طرق الإِيمان عليهم ، بمن سُدَّت عليه الطرق فهو لا يهتدي لمقصوده { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } أي يستوي عندهم إنذارك يا محمد وتخويفك لهم وعدمه ، لأن من خيَّم على عقله ظلام الضلال ، وعشعشت في قلبه شهوات الطغيان ، لا تنفعه القوارع والزواجر { لاَ يُؤمِنُونَ } أي فهم بسبب ذلك لا يؤمنون ، لأنَّ الإِنذار لا يخلق القلوب الميتة ، إِنما يوقظ القلب الحيَّ المستعد لتلقي الإِيمان ، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وكشف لحقيقة ما انطوت عليه قلوبهم من الطغيان { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } أي إِنما ينفع إِنذارك يا محمد من آمن بالقرآن وعمل بما فيه { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } أي وخاف الله دون أن يراه قال أبو حيان : { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ } أي المتصف بالرحمة ، والرحمةُ تدعو إلى الرجاء ، لكنه مع علمه برحمته يخشاه جل وعلا ، خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه ومعنى " بالغيب " أي بالخلوة عند مغيب الإِنسان عن عيون البشر { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } لما انتفع بالإِنذار كان جديراً بالبشارة أي فبشره يا محمد بمغفرةٍ عظيمة من الله لذنوبه ، وأجر كريمٍ في الآخرة في جنات النعيم قال ابن كثير : الأجر الكريم هو الكثير الواسع ، الحسن الجميل وذلك إِنما يكون في الجنة . . ولما ذكر تعالى أمر الرسالة ذكر بعدها أمر البعث والنشور فقال { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } أي نبعثهم من قبورهم بعد موتهم للحساب والجزاء { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } قال الطبري : أي ونكتب ما قدَّموا في الدنيا من خير وشر ، ومن صالح الأعمال وسيئها { وَآثَارَهُمْ } أي وآثار خطاهم بأرجلهم إلى المساجد ، وفي الحديث عن جابر قال : " أراد بنو سَلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد والبقاع خالية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا بني سلمة دياركم تُكتب آثارُكم ، دياركم تُكتب آثاركم " فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا " { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } أي وكل شيء من الأشياء أو أمرٍ من الأمور جمعناه وضبطناه في كتاب مسطور هو صحائف الأعمال كقوله تعالى { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي بكتاب أعمالهم ، الشاهد عليهم بما عملوه من خيرٍ أو شرٍ ، وقال مجاهد وقتادة : هو اللوح المحفوظ وقال أبو حيان : " ونكتب ما قدَّموا " أي ونحصي ، فعبَّر عن إحاطة علمه جل وعلا بأعمالهم بالكتابة التي تُضبط بها الأشياء … ثم ذكر تعالى للمشركين قصة أهل القرية الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله بصيحةٍ من السماء فقال { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ } أي واذكر يا محمد لقومك الذين كذبوك قصة أصحاب القرية " إنطاكية " التي هي في الغرابة كالمثل السائر والقول العجيب { إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } أي حين جاءهم رسلنا الذين أرسلناهم لهدايتهم قال القرطبي : وهذه القرية هي " إنطاكية " في قول جميع المفسرين أرسل الله إليهم ثلاثة رسل وهم " صادق " و " مصدوق " و " شمعون " أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حلَّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل من الله ، وقيل هم رسل عيسى { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا } أي حين بعثنا إليهم رسولين فبادروهما بالتكذيب { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي قوَّيناهما وشددنا أزرهما برسولٍ ثالث { فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } أي نحن رسل الله مرسلون لهدايتكم { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } أي ليس لكم فضلٌ علينا وما أنتم إلا بشر مثلنا ، فكيف أوحى الله إليكم دوننا ؟ { وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ } أي لم ينزل الله شيئاً من الوحي والرسالة { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } أي ما أنتم إلا قوم تكذبون في دعوى الرسالة { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } أي أجابهم الرسل بقولهم الله يعلم أننا رسله إليكم ، ولو كنا كذبة لانتقم منا أشدَّ الانتقام قال ابن جزي : أكدوا الخبر هنا باللام { لَمُرْسَلُونَ } لأنه جواب المنكرين ، بخلاف الموضع الأول فإِنه إخبارٌ مجرد { وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } أي وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغاً واضحاً جلياً لا غموض فيه ، فإِن آمنتم فلكم السعادة ، وإِن كذبتم فلكم الشقاوة قال أبو حيان : وفي هذا وعيدٌ لهم ، ووصف البلاغ بـ { ٱلْمُبِينُ } لأنه الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال ، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل ، من إبراء الأكمه والأبرص وإِحياء الميت { قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي قال لهم أهل القرية : إنّا تشاءمنا بكم وبدعوتكم القبيحة لنا إلى الإِيمان ، وترك عبادة الأوثان قال المفسرون : ووجه تشاؤمهم بالرسل أنهم دعوهم إلى دينٍ غير ما يدينون به ، فاستغربوه واستقبحوه ونفرت عنه طبيعتهم المعوجة ، فتشاءموا بمن دعا إليه كأنهم قالوا : أعاذنا الله مما تدعوننا إليه ، ثم توعَّدُوا الرسل بقولهم { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ } أي والله لئن لم تمتنعوا عن قولكم ، ودعوتكم لنا إلى التوحيد ، ورفض ديننا { لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي لنرجمنَّكم بالحجارة حتى تموتوا ، ولنقتلنَّكم شرَّ قِتلة { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } أي قالت الرسل لهم : ليس شؤمكم بسببنا ، وإِنما شؤمكم بسببكم ، وبكفركم ، وعصيانكم ، وسوء أعمالكم { أَئِن ذُكِّرْتُم } ؟ شرطٌ جوابه محذوف لدلالة السياق عليه أي أئن ذكرناكم ووعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله ، تشاءمتم بنا وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب ؟ { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أي ليس الأمر كما زعمتم بل أنتم قومٌ عادتكم الإِسرافُ في العصيان والإِجرام ، وهو توبيخٌ لهم مع الزجر والتقريع { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ } أي وجاء من أبعد أطراف المدينة رجل يعدو ، يسرع في مشيه وهو " حبيب النجار " قال ابن كثير : إن أهل القرية همُّوا بقتل رسلهم ، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه ، وهو حبيب النجار كان يعمل الحرير وهو الحباك ، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه وقال القرطبي : كان حبيب مجذوماً ومنزله عند أقصى أبواب المدينة ، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضُرَّه ، فما استجابوا له ، فلما أبصر الرسل ودعوه إلى الله قال : هل من آية ؟ قالوا نعم نحن ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك ! فقال إن هذا لعجيبٌ ، إني أدعو هذه الآلهة سبعين سنة لتفرج عني فلم تستطع فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة ؟ قالوا نعم ربنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر ، فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به ، فلمَّا همَّ قومه بقتل الرسل جاءهم مسرعاً وقال ما قصة القرآن { قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي اتبعوا الرسل الكرام الداعين إلى توحيد الله ، وإِنما قال { يٰقَوْمِ } تأليفاً لقلوبهم واستمالة لها لقبول النصيحة ، ثم كرر القول تأكيداً وبياناً للسبب فقال { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } أي اتبعوا هؤلاء الرسل الصادقين المخلصين ، الذين لا يسألونكم أُجرة على الإِيمان ، وهم على هدى وبصيرة فيما يدعونكم إليه من توحيد الله { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } تلطفٌ في الإِرشاد لهم كأنه ينصح نفسه ، ويختار لهم ما يختار لنفسه ، وفيه نوع تقريع على ترك عبادة خالقهم والمعنى أيُ شيء يمنعني من أن أعبد خالقي الذي أبدع خلقي ؟ وإِليه مرجعكم بعد الموت فيجازي كلاً بعمله ؟ { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } استفهام إنكاري أي كيف أتخذ من دون الله آلهة لا تسمع ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً ؟ { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } أي هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئاً من الضر والأذى وشفعت لي لم تنفع شفاعتهم ولم يقدروا على إِنقاذي ، فكيف وهي أحجار لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع ؟ { وَلاَ يُنقِذُونَ } أي ولا يقدرون على إنقاذي من عذاب الله { إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لفي خسران ظاهر جلي . . وبعد النصح والتذكير أعلن إسلامه ، وأشهر إيمانه فقال { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم ، فاسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي قال المفسرون : لما قال لهم ذلك ونصحهم وأعلن إيمانه ، وثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد فقتلوه ، ولم يكن له أحد يمنع عنه أذاهم قال الطبري : وثبوا عليه فوطئوه بأقدامهم حتى مات ، وقيل : رموه بالحجارة حتى مات { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } أي فلما مات قال الله له : ادخل الجنة مع الشهداء الأبرار ، جزاءً على صدق إِيمانك وفوزك بالشهادة قال ابن مسعود : إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره ، وقال الله له { ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } فدخلها فهو يُرزق فيها ، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحُزنها ونَصَبها { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } أي فلما دخل الجنة وعاين ما أكرمه الله بها لإِيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله ، ليعلموا حسن مآله أي يا ليتهم يعلمون بالسبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي ، وأكرمني بدخول جنات النعيم قال ابن عباس : نصح قومه في حياته ، ونصحهم بعد مماته قال أبو السعود : وإِنما تمنَّى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب الثواب والأجر ، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإِيمان ، جرياً على سنن الأولياء في الترحم على الأعداء { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } هذا تحقيرٌ لهم وتصغيرٌ لشأنهم { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } أي ما كانت عقوبتهم إِلا صيحةً واحدة صاح بهم جبريل ، فإذا هم ميتون لا حراك بهم ، قد أُخمدت أنفاسهم حتَّى صاروا كالنار الخامدة قال المفسرون : وفي الآية استحقار لإِهلاكهم فإِنهم أذل وأهون على الله من أن يرسل الملائكة لإِهلاكهم ، وقد روي أنه لما قُتل " حبيب النجار " غضب الله تعالى له ، فعجَّل لهم النقمة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة ، فماتوا عن آخرهم ، فجعل طريق استئصالهم بالصيحة ، ثم قال تعالى { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي يا أسفاً على هؤلاء المكذبين لرسل الله المنكرين لآياته ويا حسرةً عليهم ، ما جاءهم رسولٌ إلا كذبوه واستهزءوا به ، وهكذا عادة المجرمين في كل زمان ومكان قال في حاشية البيضاوي : إنهم أحقاء بأن يتحسروا على أنفسهم أو يُتحسر عليهم ، فإن الأمر لفخامته وشدته ، بلغ إلى حيث إن كل من يتأتى منه التلهف إذا نظر إلى حال استهزائهم بالرسل تحسَّر عليهم ، وقال : يا لها من حسرةٍ وخيبة على هؤلاء المحرومين ، حيث بدَّلوا الإِيمان بالكفر ، والسعادة بالشقاوة ، وفي الآية تعريضٌ بكفار قريش حيث كذبوا سيد المرسلين . ولمّا مثل حال كفار مكة بحال أصحاب القرية وبَّخ المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي ألم يتعظ هؤلاء المشركين بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل ، ويعلموا أن هؤلاء المهلكين لا عودة لهم إلى الدنيا بعد هلاكهم ؟ { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي وأن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب والجزاء يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكمين ، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها ؟ قال أبو حيان : وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإِهلاك تبييناً إلى أن الله تعالى لا يترك المهلكين بل بعد الهلاك جمعٌ وحساب ، وثواب وعقاب . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1ـ التأكيد بأكثر من مؤكد لأن المخاطب منكر مثل { إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } فقد أُكد كل منهما بـ " إنَّ " و " اللام " ويسمى هذا الضرب إنكارياً . 2ـ الاستعارة التمثيلية { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً … } الآية شبَّه حال الكفار في امتناعهم من الهدى والإِيمان بمن غلت يده إلى عنقه بالسلاسل والأغلال فأصبح رأسه مرفوعاً لا يستطيع خفضاً له ولا التفاتاً ، وبمن سُدَّت الطُرقُ في وجهه فلم يهتد لمقصوده ، وذلك بطريق الاستعارة التمثيلية . 3ـ الطباق { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ … ومِنْ خَلْفِهِمْ } . 4ـ طباق السلب { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } . 5ـ الجناس الناقص { نَحْنُ نُحْيِي } لتغير بعض الحروف . 6ـ الإِطناب بتكرار الفعل { ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ * ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } . 7ـ الاستفهام للتوبيخ { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } ؟ 8ـ الحذف لدلالة السياق عليه { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } أي فلما أشهر إيمانه قتلوه فقيل له ادخل الجنة . 9ـ جناس الاشتقاق بين { تَطَيَّرْنَا … وطَائِرُكُم } وبين { أَرْسَلْنَآ … والمُّرْسَلُونَ } . 10ـ مراعاة الفواصل وهو من خصائص القرآن لما فيه من روعة البيان ، وحسن الوقع على السمع ، وهو كثير مشهور . تنبيه : من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة ، هو الإِيجاز في القصص والأنباء ، والإِشارة إلى روحها وسرّها ، لأن القصد من القصص التذكير والاعتبار ، ولهذا لم يذكر في القصة اسم البلدة ، ولا اسم الشخص الذي دعاهم إلى الله ، ولا اسم الرسل الكرام ، لأن كل ذلك ليس هو الهدف من القصة ، وقس على هذا سائر قصص القرآن .