Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 33-58)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى قصة أهل القرية ، وإِهلاك الله لهم بالصيحة بسبب تكذيبهم المرسلين ، ذكر هنا الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية ، في إخراج الزروع والثمار ، وتعاقب الليل والنهار ، وفي الشمس والقمر يجريان بقدرة الواحد القهار ، ثم ذكر شبهات المشركين حول البعث ، وردَّ عليها بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة . اللغَة : { آيَةٌ } علامة لأنها دالة على وجود الله قال أبو العتاهية : @ فيا عجباً كيف يُعصى الإِلهُ أمْ كيف يجْحده الجاحِدُ ؟ وللهِ في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ أبداً شاهد وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدل على أنه واحد @@ { ٱلأَزْوَاجَ } الأصناف والأنواع { نَسْلَخُ } السَّلخ : الكشط والنزع قال تعالى { فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } [ الأعراف : 175 ] ويقال : سلخ الجزار جلد الشاة أي نزع الجلد عن اللحم { كَٱلعُرجُونِ } من الانعراج وهو الانعطاف ، والعرجون : عود عذق النخلة الذي فيه عناقيد الرطب قال الجوهري : هو أصل العذق الذي يعوجُّ وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابساً { ٱلْمَشْحُونِ } المملوء الموقر بالأشياء الثقيلة { صَرِيخَ } مغيث { يَخِصِّمُونَ } يختصمون في أمورهم غافلين عما حولهم { ٱلأَجْدَاثِ } جمع جدث وهو القبر { يَنسِلُونَ } يسرعون في الخروج ، يقال : عسل الذئبُ ونسل أي أسرع في المشي . التفسِير : { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } أي ومن الآيات الباهرة ، والعلامات الظاهرة الدالة على كمال قدرة الله ووحدانيته هذه الآية العظيمة ، وهي الأرض اليابسة الهامدة التي لا نبات فيها ولا زرع ، أحييناها بالمطر قال المفسرون : موتُ الأرض جدبها ، وإِحياؤها بالغيث ، فإِذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ولهذا قال تعالى بعده { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } أي وأخرجنا بهذا الماء أنواع الحبوب ليتغذوا به ويعيشوا قال القرطبي : نبَّههم تعالى بهذا على إحياء الموتى ، وذكَّرهم على توحيده وكمال قدرته ، بالأرض الميتة أحياها بالنبات ، وإِخراج الحب منها ، فمن الحبِّ يأكلون وبه يتغذون { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } أي وجعلنا في الأرض بساتين ناضرة فيها من أنواع النخيل والعنب { وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ } أي وجعلنا فيها ينابيع من الماء العذب ، والأنهار السارحة في بلدان كثيرة { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أي ليأكلوا من ثمرات ما ذُكر من الجنات والنخيل التي أنشأها لهم ، ومما عملته أيديهم مما غرسوه وزرعوه بأنفسهم قال ابن كثير : لما امتنَّ على خلقه بإِيجاد الزروع لهم ، عطف بذكر الثمار وأنواعها وأصنافها ، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم ، لا بسعيهم وكدِّهم ، ولا بحولهم وقوتهم ولهذا قال { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } ؟ أي أفلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم ؟ واختار ابن جرير أنَّ " ما " بمعنى الذي أي ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي من الذي غرسوه ونصبوه { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا } أي تنزَّه وتقدَّس الله العلي الجليل الذي خلق الأصناف كلها ، المختلفة الألوان والطعوم والأشكال من جميع الأشياء { مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } أي ممَّا تُخرج الأرضُ من النخيل والأشجار ، والزروع والثمار ، ومن أنفسهم من الذكور والإِناث ، ومما لا يعلمون من المخلوقات العجيبة والأشياء الغريبة كما قال تعالى { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } أي وعلامةٌ أخرى لهم على كمال قدرتنا الليلُ نزيل عنه الضوء ونفصله عن النهار فإذا هم داخلون في الظلام ، وفي الآية رمزٌ إلى أن الأصل هو الظلام والنور عارض ، فإِذا غربت الشمس ينسلخ النهار من الليل ويُكشف ويزول فيظهر الأصل وهو الظلمة { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } أي وآيةٌ أخرى لهم الشمس تسير بقدرة الله في فَلك لا تتجاوزه ولا تتخطَّاه لزمنٍ تستقر فيه ، ولوقتٍ تنتهي إليه وهو يوم القيامة حيث ينقطع جريانها عند خراب العالم قال ابن كثير : وفي قوله تعالى { لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } قولان : أحدهما : أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض لحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذرٍ أتدري أين تغرب الشمس ؟ قلت : اللهُ ورسوله أعلم ، قال : فإِنها تذهب حتى تسجد تحت العرش … " الحديث . والثاني : أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة ، حيث يبطل سيرها ، وتسكن حركتها ، وتُكور وينتهي هذا العالم إلى غايته ، وقرىء { لا مستقر لها } أي لا قرار لها ولا سكون ، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً ، لا تفتر ولا تقف { ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } أي ذلك الجري والدوران بانتظام وبحساب دقيق هو تقدير الإِله العزيز في ملكه ، العليم بخلقه { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } أي والقمرَ قدرنا مسيره في منازل يسير فيها لمعرفة الشهور ، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة ، ينزل كل ليلةٍ في واحد منها لا يتخطاها ولا يتعداها ، فإِذا كان في آخر منازله دقَّ واستقوس { حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } أي حتى صار كغصن النخل اليابس ، وهو عنقود التمر حين يجف ويصفر ويتقوس قال ابن كثير : جعل الله القمر لمعرفة الشهور ، كما جعل الشمس لمعرفة الليل والنهار ، وفاوت بين سير الشمس وسير القمر ، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره ، وتنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاءً ، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل ، ثم يطول الليل ويقصر النهار ، وهي كوكبٍ نهاري ، وأما القمر فقدَّره منازل يطلع في أول ليلةٍ من الشهر ضئيلاً قليل النور ، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة ، ثم كلما ارتفع ازداد ضياؤه حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة ، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم قال مجاهد : أي العذق اليابس وهو عنقود الرطب إذا عتق ويبس وانحنى ، ثم يبدأ جديداً في أول الشهر الآخر { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ } أي لا يمكن للشمس ولا يصح لها أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره ، لأن ذلك يُخلُّ بتلوين النبات ، ومصلحة العباد قال الطبري : أي لا الشمس يصلح لها إدراك القمر ، فيُذهب ضوءها نوره فتكون الأوقات كلها نهاراً لا ليل فيها { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ } أي ولا الليل يسبق النهار حتى يدركه فيذهب بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلاً { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي وكلٌ من الشمس والقمر والنجوم تدور في فلك السماء قال الحسن : الشمس والقمر والنجوم في فَلك بين السماء والأرض ، غير ملصقة بشيء ولو كانت ملصقة ما جرت والغرضُ من الآية : بيانُ قدرة الله في تسيير هذا الكون بنظام دقيق ، فالشمس لها مدار ، والقمر له مدار ، وكل كوكب من الكواكب له مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه ، ولا يطغى أحدهما على الآخر - كما قال قتادة : " لكل حدٌّ وعلمٌ لا يعدوه ، ولا يقصر دونه " - حتى يأتي الأجل المعلوم بخراب العالم ، فيجمع الله بين الشمس والقمر كما قال تعالى { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [ القيامة : 9 ] فيختل نظام الكون ، وتقوم القيامة ، وتنتهي حياة البشرية عن سطح هذا الكوكب الأرضي { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } أي وعلامة أخرى واضحة للناس على كمال قدرتنا أننا حملنا آباءهم الأقدمين - وهم ذرية آدم - في سفينة نوح عليه السلام التي أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين قال في التسهيل : وإِنما خصَّ ذريتهم بالذكر ، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } أي وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح السفن العظيمة التي يركبونها ويبلغون عليها أقصى البلدان ، وإِنما نسب الخلق إليه لأنها بتعليم الله جل وعلا للإِنسان وقال ابن عباس : هي الإِبل وسائر المركوبات ، فهي في البر مثل السفن في البحر { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } ولو أردنا لأغرقناهم في البحر فلا مغيث لهم { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } أي ولا أحد يستطيع أن ينقذهم من الغرق { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } أي لا ينقذهم أحد إلا نحن لأجل رحمتنا إياهم ، وتمتيعنا لهم إلى انقضاء آجالهم … بيَّن تعالى أن ركوبهم السفن في البحر من الآيات العظيمة ، فإِن سير السفينة بما فيها من الرجال والأثقال فوق سطح الماء آية باهرة فقد حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه بحكم خواص السفن ، وخواص الماء ، وخواص الريح ، وكلُّها من أمر الله وخلقه وتقديره ، والسفينة في البحر الخضم كالريشة في مهبِّ الهواء ، وإِلاّ تدركها رحمة الله فهي هالكة في لحظة من ليل أو نهار ، والذين ركبوا البحار ، وشاهدوا الأخطار ، يدركون هول البحر المخيف ، ويحسون معنى رحمة الله وأنها وحدها هي المنجي لهم من بين العواصف والتيارات ، في هذا الخضم الهائل الذي تمسكه يد الرحمة ويعرفون معنى قوله تعالى { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } فسبحان الله القدير الرحيم ! ! { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لما ذكَّرهم تعالى بدلائل قدرته ، وآثار رحمته ، أخبر هنا عن تعاميهم عن الحق ، وإِعراضهم عن الهدى والإِيمان ، مع كثرة الآيات الواضحات ، والشواهد الباهرات والمعنى وإذا قيل للمشركين احذروا سخط الله وغضبه ، واعتبروا بما حلَّ بالأمم السابقين قبلكم من العذاب بسبب تكذيبهم الرسل ، واحذروا ما وراءكم من عذاب الآخرة لكي تُرحموا ، وجواب الشرط محذوف تقديره أعرضوا واستكبروا ودلّ عليه قوله تعالى { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } قال القرطبي : والجواب محذوف والتقدير : إذا قيل لهم ذلك أعرضوا ، ودليله الآية التي بعدها { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ . … } فاكتفى بهذا عن ذلك { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي وما تأتي هؤلاء المشركين علامة من العلامات الواضحة الدالة على صدق الرسول - كالمعجزات الباهرة التي أيده الله بها - إلا أعرضوا عنها على وجه التكذيب والاستهزاء قال أبو السعود : وإِضافة الآيات إلى اسم الرب جل وعلا لتفخيم شأنها ، المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها ، والمراد بالآيات إما الآيات التنزيلية التي من جملتها الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه ، أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات ، التي من جملتها ما ذُكر من شئونه الشاهدة بوحدانيته تعالى ، وتفرده بالألوهية { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله } أي وإِذا قيل لهؤلاء الكفار بطريق النصيحة أنفقوا بعض ما أعطاكم الله من فضله على الفقراء والمساكين { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } أي قال الكفار للمؤمنين تهكماً بهم : أننفق أموالنا على هؤلاء المساكين الذين أفقرهم الله ؟ { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي ما أنتم أيها المؤمنون إلا في ضلال ظاهر واضح حيث تأمروننا أن ننفق أموالنا على من أفقرهم الله قال ابن عباس : كان بمكة زنادقة فإِذا أُمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله لا نفعل ، أيفقره الله ونطعمه نحن ؟ وغرضهم الرد على المؤمنين فكأنهم يقولون : لو كان الأمر كما تزعمون أن الله قادر ، وأن الله رازق لأطعم هؤلاء الفقراء ، فما بالكم تطلبون إطعامهم منا ؟ وما علم هؤلاء السفهاء أن خزائن الأرزاق بيد الخلاق ، وأنه تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعض الخلق ابتلاءً ، لينظر كيف عطف الغني ، وكيف صبر الفقير ، فقد منع الدنيا عن الفقير لا بخلاً ، وأمر الغنيَّ بالإِنفاق عليه لا حاجة إلى ماله ، ولكن للإبتلاء والله يفعل ما يشاء ، لا اعتراض لأحدٍ في مشيئته ولا في حكمه { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ثم أخبر عن إنكار المشركين للآخرة ، واستبعادهم لقيام الساعة فقال { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي متى يوم القيامة الذي تتوعدوننا به ؟ ومتى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين في دعواكم أن هناك بعثاً ونشوراً وحساباً وعذاباً ؟ قال تعالى ردّاً عليهم { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ } أي ما ينتظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم مفاجأة من حيث لا يشعرون { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي وهم يتخاصمون في معاملاتهم وأسواقهم ، فلا يشعرون إلا بالصيحة قد أخذتهم ، فيموتون في أماكنهم قال ابن كثير : وهذه - والله أعلم - نفخة الفزع ، ينفخ إسرافيل في الصور والناسُ في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم ، فبينما هم كذلك إذْ أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخةً يطوّلها ويمدُّها ، فلا يبقى أحدٌ على وجه الأرض إلا حنى عنقه يتسمع الصوت من قبل السماء فذلك قوله تعالى { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } أي فلا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضاً بأمر من الأمور ، ولا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم لأن الأمر أسرع منه ذلك وفي الحديث : " لتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوباً بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومنَّ الساعةُ وهو يُليط حوضه أي يصلحه بالطين فلا يسقي فيه ، ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفع أُكلته إلى فيه لا يطعمها " ثم تكون هناك النفخة ثانية وهي " نفخة الصَّعق " التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحيّ القيوم ، ثم تكون النفخة الثالثة وهي " نفخة البعث والنشور " التي يخرج الناسُ بها من القبور ، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } أي ونفخ في الصور فإِذا هؤلاء الأموات يخرجون من قبورهم يسرعون المشي قال الطبري : { يَنسِلُونَ } يخرجون سراعاً ، والنَّسلان : الإِسراع في المشي { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا } ؟ أي يقولون يا هلاكنا من الذي أخرجنا من قبورنا التي كنا فيها ؟ قال ابن كثير : وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم ، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد ، فإِذا قالوا ذلك أجابتهم الملائكة أو المؤمنون { مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } أي هذا الذي وعدكم الله به من البعث بعد الموت والحساب والجزاء ، وصدق رسله الكرام فيما أخبرونا به عن الله { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي ما كان أمر بعثهم إلا صيحةً واحدة يصيح بهم فيها إسرافيل فإِذا هم جميع عندنا حاضرون قال الصَّاوي : وهذه الصيحة هي قول إسرافيل : أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتقطعة ، والأجزاء المتفرقة ، والشعور المتمزقة ، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء ثم ينفخ في الصور فإذا هم مجموعون في موقف الحساب { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي ففي هذا اليوم يوم القيامة لا تُظلم نفس شيئاً ، سواءً كانت هذه النفس برَّة أو فاجرة ، ولا يُحَمَّل الإِنسان وزر غيره وإِنما يُجازى كلٌ بعمله قال أبو السعود : هذه حكاية لما سيقال لهم في الآخرة ، حين يرون العذاب المُعدَّ لهم تحقيقاً للحق ، وتقريعاً لهم . . ولما أخبر عن مآل المجرمين أخبر عن حال الأبرار المتقين فقال { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي إن أصحاب الجنة في ذلك اليوم - يوم الجزاء - مشغولون بما هم فيه من اللذات والنعيم عن التفكير بأهل النار ، يتفكهون ويتلذذون بالحور العين ، وبالأكل والشرب والسماع للأوتار قال أبو حيان : والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال وقال ابن عباس : شُغلوا بافتضاض الأبكار ، وسماع الأوتار عن أهاليهم من أهل النار ، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } أي هم وزوجاتهم في ظلال الجنان الوارفة ، حيث لا شمس فيها ولا زمهرير ، متكئون على السرر المزيَّنة بالثياب والستور { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي لهم في الجنة ، فاكهة كثيرة من كل أنواع الفواكة { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } أي ولهم فيها ما يتمنون ويشتهون كقوله تعالى { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } أي لهم سلامٌ كريم من ربهم الرحيم ، وفي الحديث " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور ، فرفعوا رءوسهم فإِذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم " . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التنكير والتفخيم والتعظيم { وَآيَةٌ لَّهُمُ } أي آية عظيمة باهرة على قدرة الله . 2 - الطباق بين الموت والإِحياء { ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } وبين الليل والنهار . 3 - الاستعارة التصريحية { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } شبَّه إزالة ضوء النهار وانكشاف ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة ، واستعار اسم السلخ للإِزالة والإِخراج واشتق منه نسلخ بمعنى نخرج منه النهار بطريق الاستعارة التصريحية ، وهذا من بليغ الاستعارة ، وبين الليل والنهار طباق . 4 - التشبيه المرسل المجمل { حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } وجه الشبه مركب من ثلاثة أشياء : الرقة ، والانحناء ، والصفرة ، ولما لم يذكر سمي مجملاً . 5 - تقديم المسند إليه لتقوية الحكم المنفي { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ } فإِنه أبلغ من أن يقول { لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر } وأكد في إفادة أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها فإِنَّ قولك " أنت لا تكذب " بتقديم المسند إليه أبلغ من قولك " لا تكذب " فإِنه أشدُّ لنفي الكذب من العبارة الثانية فتدبر أسرار القرآن . 6 - تنزيل غير العاقل منزلة العاقل { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } بدل يسبح ، فقد عبر عن الشمس والقمر والكواكب بضمير جمع المذكر ، والذي سوَّغ ذلك وصفهم بالسباحة لأنها من صفات العقلاء . 7 - الاستعارة اللطيفة { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } المرقد هنا عبارة عن الممات ، فشبهوا حال موتهم بحال نومهم لأنها أشبه الأشياء بها وأبلغ من قوله : من بعثنا من مماتنا . 8 - الإِيجاز بالحذف { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ } أي تقول لهم الملائكة هذا ما وعدكم به الرحمن . 9 - الطباق { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } والاستفهام الذي يراد منه التهكم { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } . 10 - السجع غير المتكلف في ختام الآيات الكريمة مثل { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } { وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ } { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } ومثل { ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } و { حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } وهو من المحسنات البديعة .