Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 59-83)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار وما لهم في الجنة من النعيم المقيم ، أعقبه بذكر حال الأشقياء الفجار وما لهم من الخزي والدمار ، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب ، وختم السورة الكريمة ببيان أدلة البعث بعد الموت ، والحساب والجزاء . اللغَة : { وَٱمْتَازُواْ } تميزوا وانفصلوا ، والتمييزُ : التفرق بين أمرين { جِبِلاًّ } بكسر الجيم خلقاً جمع جِبلَّة ومنه " والجبِلَّة الأولين " مشتق من جبل اللهُ الخلق أي خلقهم { لَطَمَسْنَا } الطمسُ : إذهابُ الشيء وأثره جملةً كأنه لم يوجد { ٱصْلَوْهَا } ادخلوها وذوقوا سعيرها { لَمَسَخْنَاهُمْ } المسخ : التحويل من صورة إلى صورة منكرة { نُّعَمِّرْهُ } التعمير : إطالة العمر حتى يبلغ سن الشيخوخة { نُنَكِّـسْهُ } التنكيس : قلب الشيء رأساً على عقب يقال : نكستُ الشيء نكساً إذا قلبته على رأسه ومنه { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ } [ الأنبياء : 65 ] { رَمِيمٌ } الرميم : البالي المفتَّت يقال رمَّ العظم أي بلي فهو رميم . سَبَبُ النّزول : روي " أن " أُبي بن خلَف " من صناديد كفار قريش جاء بعظم بالٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففتَّه بيده ثم قال : أتزعم يا محمد أن الله يُحيي هذا بعدما رمَّ ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم يحييه ، ثم يبعثك ويدخلك النار فأنزل الله تعالى { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } " . التفسِير : بعد أن بيَّن تعالى حال السعداء ذكر حال الأشقياء فقال { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } أي تميزوا وانفصلوا يا معشر الكفرة المجرمين عن عبادي المؤمنين ، انفردوا عنهم وكونوا جانباً قال القرطبي : يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال ، وحين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ } الاستفهام للتوبيخ والتقريع ، وهو توبيخٌ للكفرة المجرمين أي ألم أوصكم وآمركم يا بني آدم على ألسنة رسلي { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } أي ألاّ تطيعوا الشيطان فيما دعاكم إليه من معصيتي ؟ { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليلٌ للنهي أي لأنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة ، فكيف يطيع الإِنسان عدوه ؟ { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي } أي وأمرتكم بأن تعبدوني وحدي ، بتوحيدي وطاعتي وامتثال أمري { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي هذا هو الدين الصحيح ، والطريق الحقُّ المستقيم { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } تأكيد للتعليل أي ولقد أضلَّ الشيطان خلقاً منكم كثيرين ، وأغواهم عن سلوك طريق الحقَّ قال الطبري : أي صدَّ الشيطان منكم خلقاُ كثيراً عن طاعتي حتى عبدوه { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } أي أفما كان لكم عقل يردعكم عن طاعة الشيطان ومخالفة أمر ربكم ؟ وهو توبيخ آخر للكفرة الفجار … ثم بشرهم بما ينتظرهم من العذاب فقال { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي هذه نار جهنم التي أوعدكم بها الرسل وكذبتم بها قال الصاوي : هذا خطاب لهم وهم على شفير جهنم ، والمقصود منه زيادة التبكيت والتقريع { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي ذوقوا حرارتها وقاسوا أنواع عذابها اليوم بسبب كفركم في الدنيا ، وهو أمر إهانةٍ وتحقير مثل قوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] ثم أخبر تعالى عن فضيحتهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد فقال { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } أي في هذا اليوم - يوم القيامة - نختم على أفواه الكفار ختماً يمنعها عن الكلام { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي تنطق عليهم جوارحهم أيديهم وأرجلهم بأعمالهم القبيحة روى ابن جرير الطبري عن أبي موسى الأشعري أنه قال " يُدعى الكافر والمنافق يوم القيامة للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحده ويقول : أي ربِّ وعزتك لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل ، فيقول الملك : أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول : لا وعزتك أي رب ما عملته ، فإِذا فعل ذلك خُتم على فيه وتكلمت أعضاؤه ثم تلا { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } وفي الحديث " يقول العبد يا ربِّ ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول بلى ، فيقول العبد فإِني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، ثم يختم على فيه ويقال لجوارحه انطقي ، فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول : بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضل " { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } أي لو شئنا لأعميناهم فابتدروا طريقهم ذاهبين كعادتهم فكيف يبصرون حينئذٍ ؟ قال ابن عباس : المعنى لو نشاء لأعميناهم عن الهدى فلا يهتدون أبداً إلى طريق الحقِّ ، وهو تهديد لقريش { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ } أي لو نشاء لمسخناهم مسخاً يقعدهم في مكانهم { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا ، وهو تهديد آخر للكفرة المجرمين ، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته على مسخ الكفار بتطاول الأعمار فقال { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ } أي ومن نُطِل عمره نقلبه في أطوار منتكساً في الخلق فيصير كالطفل لا يعلم شيئاً قال قتادة : يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا ، فطولُ العمر يصيِّر الشباب هَرَماً ، والقوة ضعفاً ، والزيادة نقصاً { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } ؟ أي أفلا يعقلون أن من قدر على ذلك قادر على إِعمائهم أو مسخهم ؟ قال ابن جزي : والقصدُ من ذلك الاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار ، كما قدر على تنكيس الإِنسان إذا هرم { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أي وما علمنا محمداً الشعر ، ولا يصح ولا يليق به أن يكون شاعراً قال القرطبي : هذا ردٌّ على الكفار في قولهم إنه شاعر ، وإن ما أتى به من قبيل الشعر ، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر ، والقرآن ليس بشعر ، لأن الشعر كلام مزخرف موزون ، مبني على خيالات وأوهام واهية ، حتى قيل " أعذبه أكذبه " فأين ذلك من القرآن العزيز الذي تنزَّه عن مماثلة كلام البشر ! ! وقد أكثر الناسُ في ذم الشعر ومدحه ، وإِنما الإِنصاف ما قاله الشافعي رحمه الله " الشعر كلامٌ ، والكلام منه حسنٌ ، ومنه قبيح " { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } أي ما هذا الذي يتلوه محمد إلا عظة وتذكيرٌ من الله جل وعلا لعباده ، وقرآن واضح ساطع لا يلتبس به الشعر بحالٍ من الأحوال { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } أي لينذر بهذا القرآن من كان حي القلب مستنير البصيرة ، وهم المؤمنون لأنهم المنتفعون به { وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين لأنهم كالأموات لا يعقلون ما يخاطبون به قال البيضاوي : وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم ، وسقوط حجتهم ، وعدم تأملهم ، أمواتٌ في الحقيقة . . ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه ، وأعاد ذكر دلائل القدرة والوحدانية ليستدلوا على وجوده جلَّ وعلا من آثاره فقال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } الهمزة للإِنكار والتعجيب أي أولم ينظروا نظر اعتبار ، ويتفكروا فيما أبدعته أيدينا من غير واسطة ، وبلا شريك ولا معين مما خلقناه لهم ولأجلهم من الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم ، فيستدلوا بذلك على وحدانيتنا وكمال قدرتنا ؟ ! { فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } أي فهم متصرفون فيها كيف يشاءون تصرف المالك بماله { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } قال ابن كثير : المعنى جعلهم يقهرونها وهي ذليلةٌ لهم لا تمتنع منهم ، بل لو جاء صغير إلى بعيرٍ لأناخه ، ولو شاء لأقامه وساقه وهو ذليل منقاد معه ، وكذا لو كان القطار مائة بعير لسار الجميع بسير الصغير ، فسبحان من سخر هذا لعباده ! ! { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } أي فمن هذه الأنعام ما يركبونه في الأسفار ، ويحملون عليه الأثقال كالإِبل التي هي سفن البر ، ومنها ما يأكلون لحمه كالبقر والغنم { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ } أي ولهم فيها منافع عديدة - غير الأكل والركوب - كالجلود والأصواف والأوبار ، ولهم فيها مشارب أيضاً يشربون من ألبانها { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل : 66 ] { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } أي أفلا يشكرون ربهم على هذه النعم الجليلة ؟ والغرضُ من الآيات تعديدُ النعم وإِقامةُ الحجة عليهم … ثم وبخهم وعنفهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع من الأوثان والأصنام ، وذلك نهاية الغيّ والضلال فقال { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } أي وعبد المشركون آلهة من الأحجار رجاء أن يُنصروا بها وهي صماء بكماء ، لا تسمع الدعاء ولا تستجيب للنداء { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } أي لا تستطيع هذه الآلهة المزعومة نصرهم بحالٍ من الأحوال ، لا بشفاعة ولا بنصرةٍ أو إعانة { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } أي وهؤلاء المشركون كالجند والخدم لأصنامهم في التعصب لهم ، والذبِّ عنهم ، وفدائهم بالروح والمال ، مع أنهم لا ينفعونهم أيَّ نفع قال قتادة : المشركون يغضبون للآلهة في الدنيا ، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً ، إِنما هي أصنام والمشركون كأنهم خدام وقال القرطبي : المعنى إنهم قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا ، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل شيء أصلاً ، والكفار يمنعون منهم ويدفعون عنهم ، فهم لهم بمنزلة الجند ، والأصنام لا تستطيع أن تنصرهم . { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } أي لا تحزن يا محمد على تكذيبهم لك ، واتهامهم بأنك شاعرٌ أو ساحر ، وهذه تسليةٌ للنبي عليه السلام ، وهنا تمَّ الكلام ثم قال تعالى { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي نحن أعلم بما يخفونه في صدورهم ، وما يظهرونه من أقوالهم وأفعالهم ، فنجازيهم عليه ، وكفى بربك أنه على كل شيء شهيد … ثم أقام الدليل القاطع ، والبرهان الساطع ، على البعث والنشور فقال { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } استفهامٌ إِنكاريٌ للتوبيخ والتقريع أي أولم ينظر هذا الإِنسان الكافر نظر اعتبار ، ويتفكر في قدرة الله فيعلم أنّا خلقناه من شيءٍ مهينٍ حقير هو النطفة " المني " الخارج من مخرج النجاسة ؟ { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي فإِذا هو شديد الخصومة والجدال بالباطل ، يخاصم ربه وينكر قدرته ، ويكذب بالبعث والنشور ، أفليس الإِله الذي قدر على خلق الإِنسان من نطفة ، قادر على أن يخلقه مرة أُخرى عند البعث ؟ قال المفسرون : نزلت في " أُبي بن خلف " " جاء بعظم رميم ، وفتَّته في وجه النبي الكريم وقال ساخراً : أتزعم يا محمد أنَّ الله يُحيينا بعد أن نصبح رفاتاً مثل هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم له : نعم يبعثك ويدخلك النار " { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } أي وضرب لنا هذا الكافر المثل بالعظم الرميم ، مستبعداً على الله إعادة خلق الإِنسان بعد موته وفنائه ، ونسي أنا أنشأناه من نطفةٍ ميتة وركبنا فيه الحياة ، نسي خلقه العجيب وبدأه الغريب ، وجوابه من نفسه حاضر { قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } أي وقال هذا الكافر : من يحيي العظام وهي بالية أشدَّ البلى ، متفتتةٌ متلاشية ؟ قال الصاوي : أي أورد كلاماً عجيباً في الغرابة هو كالمثل ، حيث قاسَ قدرتنا على قدرة الخلق { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي قل يا محمد تخريساً وتبكيتاً لهذا الكافر وأمثاله : يخلقها ويحييها الذي أوجدها من العدم ، وأبدع خلقها أول مرة من غير شيء ، فالذي قدر على البداءة ، قادر على الإِعادة { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } أي يعلم كيف يخلق ويُبدع ، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد الفناء { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً } أي الذي جعل لكم بقدرته من الشجر الأخضر ناراً تحرق الشجر ، لا يمتنع عليه فعل ما أراد ، ولا يعجزه إحياء العظام البالية وإِعادتها خلقاً جديداً وقال أبو حيان : ذكر تعالى لهم ما هو أغرب من خلق الإِنسان من النطفة ، وهو إبراز الشيء من ضده ، وذلك أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر ، ألا ترى الماء يطفىء النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء ، والأعراب تُوري النار من المرخ والعُفار ، وفي أمثالهم " في كل شيء نار ، واستمجد المرخ والعُفار " ولقد أحسن القائل : @ جمعُ النقيضين من أسرار قدرته هذا السَّحابُ به ماءٌ به نارُ @@ { فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } أي فإِذا أنتم تقدحون النار من هذا الشجر الأخضر { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } ؟ أي أوَليس الذي خلق السمٰوات والأرض مع كبر جرمهما ، وعظم شأنهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها ؟ { بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } أي بلى هو القادر على ذلك ، فهو الخلاَّق المبدع في الخلق والتكوين ، العليم بكل شيء { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي لا يصعب عليه جل وعلا شيء لأن أمره بين الكاف والنون ، فمتى أراد تعالى شيئاً وجد ، بدون تعب ولا جهد ، ولا كلفة ولا عناء { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي تنزَّه وتمجد عن صفات النقص الإِلهُ العظيم الجليل ، الذي بيده المُلك الواسع ، والقدرة التامة على كل الأشياء { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي وإِليه وحده مرجع الخلائق للحساب والجزاء … ختم تعالى السورة الكريمة بهذا الختم الرائع ، الدال على كمال القدرة ، وعظمةِ الملك والسلطان ، الذي تفرد به خالق الأكوان . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - طباق السلب { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ … وَأَنِ ٱعْبُدُونِي } فالأول سلب ، والآخر إِيجاب . 2 - الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ والتقريع { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } ؟ { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } ؟ . 3 - الطباق بين { مُضِيّاً … وَيَرْجِعُونَ } { يُسِرُّونَ … وَيُعْلِنُونَ } وهو من المحسنات البديعية . 4 - التشبيه البليغ { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } أي كالجند في الخدمة والدفاع ، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً . 5 - ذكر العام بعد الخاص { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ } بعد قوله { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } الآية وفائدته تفخيم النعمة ، وتعظيم المنة . 6 - المقابلة { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } الآية قابل بين الإِنذار والإِعذار ، وبين المؤمنين والكفار { وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } وهو من ألطف التعبير . 7 - الاستعارة التمثيلية { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } الأنعام تخلق ولا تعمل ، ولكنه شبه اختصاصه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمراً بيديه ويصنعه بنفسه ، واستعار لفظ العمل للخلق بطريق الاستعارة التمثيلية . 8 - صيغة المبالغة { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } … { ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } . 9 - الاستعارة التمثيلية { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } شبه سرعة تأثير قدرته تعالى ونفاذها في الأشياء بأمر المطاع من غير توقف ولا امتناع ، فإِذا أراد شيئاً وجد من غير إبطاءٍ ولا تأخير ، وهو من لطائف الاستعارة . فَائِدَة : الملكوت صيغة مبالغة من المُلك ، ومعناه الملك الواسع التام مثل الجبروت والرحموت للمبالغة . تنبيه : قال العلامة ابن كثير : " ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تمثل يوم الخندق بأبيات ابن رواحة " اللهم لولا أنت ما اهتدينا " وما ثبت أنه قال يوم حنين وهو راكب على بغلته " أنا النبي لا كذب : أنا ابن عبد المطلب " وقوله " هل أنت إلا أصبعٌ دميت : وفي سبيل الله ما لقيت " الخ إِنما وقع اتفاقاً من غير قصد إلى قول الشعر ، بل جرى هذا على لسانه صلى الله عليه وسلم عفواً وكل هذا لدينا في قوله تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } اهـ . فتدبره فإِنه نفيس .