Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 1-26)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { عِزَّةٍ } تكبر وامتناع عن قبول الحق ، وأصلها الغلبة والقهرُ ومنه قولهم " من عَزَّ بزَّ " يعني من غلب سلب { شِقَاقٍ } مخالفة ومباينة { مَنَاصٍ } المناص : الملجأ والغوث والخلاص { عُجَابٌ } بالغ الغاية في العجب قال الخليل : العجيب : العجب ، والعُجَاب الذي قد تجاوز حدَّ العجب { ٱخْتِلاَقٌ } كذب وافتراء { فَوَاقٍ } الفَوَاق : الاستراحة ، والإِفاقة قال الجوهري : الفواق والفواق : ما بين الحلبتين من الوقت ، لأنها تحلب ثم تترك ساعة يرضعها الفصيل لتدرَّ ثم تُحلب وقوله تعالى { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } أي ما لها من نظرة وراحة وإفاقة { قِطَّنَا } القِطُّ : الحظُّ والنصيب { ٱلأَيْدِ } القوة في العبادة والطاعة { تَسَوَّرُواْ } تسور الحائط علا أعلاه وتسلقه ، والسور : الحائط { تُشْطِطْ } قال علماء اللغة : الشَّطط : مجاوزة الحد وتخطي الحق ، يقال : شطَّ في الحكم أي جار فيه ولم يعدل ، والأصل فيه : البعدُ من شطَّت الدار بمعنى بعدت . التفسِير : { صۤ } تقدم الكلام على الحروف الهجائية ، وبينا أن فيها الإِشارة إلى إعجاز القرآن { وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } قسمٌ أقسم به الباري جل وعلا أي والقرآن ذي الشرف الرفيع ، وذي الشأن والمكانة ، وجواب القسم محذوف تقديره إن هذا القرآن لمعجز وإن محمداً لصادق قال ابن عباس : { ذِي ٱلذِّكْرِ } أي ذي الشرف { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } أي بل الكافرون في حميةٍ وتكبرٍ عن الإِيمان ، وفي خلافٍ وعداوة للرسول عليه السلام قال البيضاوي : أي ما كفر من كفر بالقرآن لخلَلٍ وجده فيه بل الذين كفروا به { فِي عِزَّةٍ } أي استكبار عن الحق { وَشِقَاقٍ } أي خلاف للهِ ولرسوله ولذلك كفروا به { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } أي كم أهلكنا قبل أهل مكة من أمم كثيرة من القرون الخالية ، لكبرهم عن الحق ومعاداتهم لرسلهم ، قال أبو السعود : والآية وعيد لأهل مكة على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب من قبلهم من المستكبرين { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي فاستغاثوا واستجاروا عند نزول العذاب طلباً للنجاة ، وليس الحينُ حينَ فرارٍ ومهرب ونجاة قال ابن جزي : المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك ، إذ ليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص أي مفر ونجاة من ناص ينوص إذا فرَّ ، ولات بمعنى ليس وأصلها لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث { وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي وعجب المشركون من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر { وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } أي وقال كفار مكة : إن محمداً ساحرٌ فيما يأتي به من المعجزات { كَذَّابٌ } أي مبالغ في الكذب في دعوى أنه رسول الله ، وإنما وضع الاسم الظاهر { ٱلْكَافِرُونَ } مكان الضمير " وقالوا " غضباً عليهم ، وذماً لهم وتسجيلاً لجريمة الكفر عليهم ، فإن هذا الاتهام لا يقوله إلا المتوغلون في الكفر والفسوق { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } ؟ أي أزعم أن الربَّ المعبود واحد لا إله إلا هو ؟ { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } أي إنَّ هذا الذي يقوله محمد - ان الإِله واحد - شيء بليغٌ في العجب قال ابن كثير : أنكر المشركون ذلك قبَّحهم الله - وتعجبوا من ترك الشرك بالله ، فإنهم كانوا قد تلقَّوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأُشربته قلوبهم ، فلما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلع الأوثان وإفراد الإِله بالوحدانية ، أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا : { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } قال المفسرون : " إن قريشاً اجتمعوا وقالوا لأبي طالب : كُفَّ ابنَ أخيك عنا ، فإنه يعيب ديننا ، ويذم آلهتنا ، ويسفِّه أحلامنا ، فدعاه أبو طالب وكلَّمه في ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم يا عم : إنما أريد منهم كلمةً واحدة ، يملكون بها العجم ، وتدين لهم بها العرب ، فقال أبو جهل والمشركون : نعم نعطيكها وعشر كلماتٍ معها ! ! فقال قولوا : " لا إله إلا الله " فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ويقولون { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً … } ؟ " فنزلت الآيات { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ } أي وانطلق أشراف قريش ورؤساء الضلال فيهم ، وخرجوا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم ، ولا تطيعوا محمداً فيما يدعوكم إليه من عبادة الله الواحد الأحد { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } أي هذا أمرٌ مدبَّر ، يريد من ورائه محمد أن يصرفكم عن دين آبائكم لتكون له العزة والسيادة عليكم ، فاحذروا أن تطيعوه { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ } أي ما سمعنا بمثل هذا القول في ملة النصرانية التي هي آخر الملل ، فإنهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد ، فيكف يزعم محمد أنَّ الله واحد ؟ قال ابن عباس : يعنون بالملة الآخرة دينَ النصرانية وقال مجاهد وقتادة : يعنون دين قريش أي ليس هذا في الدين الذي أدركنا عليه آبائنا { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } أي ما هذا الذي يدعيه محمد إلا كذب وافتراء ، ثم أنكروا اختصاصه عليه السلام بالوحي من بينهم فقالوا { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } ؟ الاستفهام للإِنكار أي هل تنزَّل القرآن على محمد دوننا ، مع أن فينا من هو أكثر منه مالاً ، وأعلى رياسةً ؟ قال الزمخشري : أنكروا أن يختص صلى الله عليه وسلم بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم ، وهذا الإِنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم { بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } إضرابٌ عن مقدر تقديره : إنكارهم للذكر ليس عن علم بل هم في شك منه فلذلك كفروا { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } اضراب انتقالي وغرضه التهديد والمعنى سبب شكهم أنهم لم يذوقوا العذاب إلى الآن ، ولو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن وآمنوا به { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ } ؟ هذا ردٌّ على المشركين فيما أنكروا من اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والمعنى هل عندهم خزائن رحمته تعالى حتى يعطوا النبوة من شاءوا ، ويمنعوها من شاءوا ؟ قال البيضاوي : يريد أن النبوة عطيةٌ من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده ، فإنه { ٱلْعَزِيزِ } أي الغالب الذي لا يغلب { ٱلْوَهَّابِ } أي الذي له أن يهب ما يشاء لمن يشاء { أَمْ لَهُم مُّلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } ؟ أي هل لهم شيء من ملك السماوات والأرض ؟ وهو إنكار وتوبيخ { فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ } أي ان كان لهم شيء من ذلك فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء ، وليدبروا شئون الكون ؟ وهو تهكم بهم واستهزاء قال الزمخشري : تهكم بهم غاية التهكم فقال : إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق ، والتصرف في قسمة الرحمة ، وكان عندهم من الحكمة ما يميزون بها بين من هو حقيقٌ بالنبوة من غيره ، فليصعدوا في المعارج التي يتوصلون بها إلى العرش ، حين يستووا عليه ويدبروا أمر العالم ، وينزلوا الوحي على من يختارون ، وهو غاية التهكم بهم { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ } التنكير للتقليل والتحقير ، و { مَا } لتأكيد القلة أي ما هم إلا جندٌ من الكفار ، المتحزبين على رسل الله ، هم عما قليلٍ يُهزمون ويُولون الأدبار ، فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث بما يهذون . . ثم أخبر تعالى عما نالَ أسلافهم الكفار من العذاب والدمار فقال { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } أي كذب قبل كفار قريش أممٌ كثيرون منهم قوم نوح ، وقوم هود وهم قبيلة " عاد " وفرعون الجبار ذو الملك الثابت بالأوتاد أو ذو الجموع الكثيرة ، قال بعض المفسرين : سمي بذي الأوتاد لأنه كان يوتد من يريد تعذيبه بأربعة أوتادٍ في يديه ورجليه ويتركه جتى يموت وقيل : لأنه صاحب الإِهرامات والمباني العظيمة الثابتة التي تقوم في الأرض كالأوتاد { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ } أي وكذبت ثمود وهم قوم صالح وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة أي الشجر الملتف وهم قوم شعيب { أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ } أي أولئك هم الكفار الذين تحزبوا على رسلهم فأهلكهم الله ، فليحذر هؤلاء المكذبون لرسول الله أن يصيبهم ما أصاب أسلافهم { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ } أي ما كل من هؤلاء الأحزاب والأمم إلا كذَّب رسوله الذي أُرسل إليه { فَحَقَّ عِقَابِ } أي فثبت ووجب عليهم عقابي ، وحذفت الياء مراعاة لرءوس الآيات { وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } أي وما ينتظر هؤلاء المشركون كفار مكة إلا نفخة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور فيصعقون { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } أي ليس لها من توقف ولا تكرار ، قال ابن عباس : أي ما لها من رجوع قال المفسرون : أي أن هذه الصيحة إذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة وهي المسافة بين الحلبتين لأنها تجيء في موعدها المحدد ، الذي لا يتقدم ولا يتأخر قال الزمخشري : يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } أي وقال كفار مكة على سبيل الاستهزاء والسخرية : عجّلْ لنا يا ربنا نصيبنا من العذاب الذي وعدته لنا ، قبل أن يجيء يوم القيامة إن كان الأمر كما يقول محمد قال المفسرون : وإنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء كقوله تعالى { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } [ الحج : 47 ] { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } أي اصبر يا محمد على تكذيبهم فإن الله ناصرك عليهم قال الصاوي : وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ } أي وتذكرْ عبدنا داود ذلك النبي الشاكر الصابر ، ذا القوة في الدين ، والقوة في البدن ، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وكان يقوم نصف الليل { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي كثير الرجوع والإِنابة إلى الله ، والاوَّابُ : الرجَّاع إلى الله قال أبو حيان : لما كانت مقالة المشركين تقتضي الاستخفاف بالدين ، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم ، وذكر قصصاً للأنبياء " داود ، وسليمان ، وأيوب " وغيرهم ، وما عرض لهم فصبروا حتى فرج الله عنهم ، وصارت عاقبتُهم أحسن عاقبة ، فكذلك أنت تصبر ويئول أمرك إلى أحسن مآل { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } أي سخرنا الجبال لداود تسبح معه في المساء والصباح ، وتسبيحُ الجبال حقيقةٌ وكان معجزةً لداود عليه السلام كما قال تعالى { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ } [ سبأ : 10 ] { وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي وسخرنا له الطير مجموعة إليه نسبح معه ، كلٌ من الجبال والطير رجَّاع إلى طاعته تعالى بالتسبيح والتقديس قال ابن كثير : كانت الطير تسبّح بتسبيحه وترجّع بترجيعه ، إذا مرَّ به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف في الهواء ويسبّح معه ، وكذلك الجبال الشامخات كانت تُرجّع معه وتسبّح تبعاً له ، قال قتادة : { أَوَّابٌ } أي مطيع { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي قوينا ملكه وثبتناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ } أي أعطيناه النبوَّة والفهم والإِصابة في الأمور { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } أي الكلام البيِّن الذي يفهمه من يُخاطب به قال مجاهد : يعني إصابة القضاء وفهمه وقال القرطبي : البيان الفاصل بين الحق والباطل قال المفسرون : كان مُلك داود قوياً عزيزاً ، وكان يسوسه بالحكمة والحزم معاً ، ويقطع ويجزم برأيٍ لا تردد فيه مع الحكمة والقوة ، وذلك غاية الكمال في الحكم والسلطان { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } هذا الاستفهام للتعجيب وتشويق السامع إلى ما يلقى إليه كما تقول لجليسك : هل تعلم ما وقع اليوم ؟ تريد تشويقه لسماع كلامك والمعنى هل أتاك يا محمد خبر الجماعة المتنازعين الذين تسوَّروا على داود مسجده في وقت اشتغاله بالعبادة والطاعة ؟ { إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ } أي حين دخلوا عليه من أعلى السور فخاف وارتعد منهم قال المفسرون : وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن ، ودخلوا من غير الباب ، في وقت كان قد خصصه للعبادة { قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ } أي لا تخف منا فنحن فوجان مختصمان تعدَّى بعضنا على بعض { فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ } أي فاحكم بيننا بالعدل ، ولا تجر ولا تظلم في الحكم { وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } أي وأرشدنا إلى وسط الطريق يعني إلى الطريق الحق الواضح { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } هذه بداية قصة الخصمين أي قال أحدهما : إن صاحبي هذا يملك تسعة وتسعين نعجة - وهي أنثى الضأن - وأملك أنا نعجة واحدة قال المفسرون : وقد يكنى بها عن المرأة فيكون الغرض أن عنده تسعاً وتسعين امرأةً وعندي امرأة واحدة { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي ملكنِها واجعلها تحت كفالتي { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } أي غلبني في الخصومة ، وشدَّد عليَّ في القول وأغلظ { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } أي قال له داود لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد انتزاع نعجتك منك ليكمل ما عنده إلى مائة { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أي وإن الكثيرين من الشركاء ليتعدى بعضُهم على بعض { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } أي إلا المؤمنين الذين يعملون الصالحات فإنهم لا يبغون وهم قليل { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي علم وأيقن أنما اختبرناه بهذه الحادثة وتلك الحكومة { فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } أي طلب المغفرة من الله وخرَّ ساجداً لله تعالى ، ورجع إليه بالتوبة والندم على ما فرط منه قال أبو حيان : وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء ، ضربنا عن ذكرها صفحاً ، والذي يدل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإِنس ، دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم ، وأنه فزع منهم ظناً منه أنهم يغتالونه إذ كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه ، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة ، وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قصَّ الله تعالى فاستغفر من ذلك الظن ، وخرَّ ساجداً لله عز وجل ، ونحن نعلم قطعاً أن الأنبياء معصومون من الخطايا ، إذ لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك لبطلت الشرائع ولم نثق بشيء مما يذكرون ، فما حكى الله في كتابه يُمرُّ على ما أراده الله ، وما حكى القُصَّاص مما فيه غضٌ من منصب النبوة طرحناه ثم قال تعالى { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي فسامحناه وعفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين قال ابن كثير : أي غفرنا له ما كان منه مما يقال فيه : " حسناتُ الأبرار سيئات المقربين " { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } وإِنَّ له لقربةً وكرامة بعد المغفرة { وَحُسْنَ مَـآبٍ } أي وحسن مرجع في الآخرة { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } أي استخلفناك على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } اي فاحكم بينهم بالعدل وبشريعة الله التي أنزلها عليك { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي لا تتَّبع هوى النفس في الحكومات وغيرها فيضلك اتباع الهوى عن دين الله القويم ، وشرعه المستقيم { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ } أي إن الذين ينحرفون عن دين الله وشرعه لهم عذاب شديد يوم القيامة { بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } أي بسبب نسياهم وتركهم سلوك سبيل الله ، وعدم إِيمانهم بيوم الحساب ، لأنهم لو آمنوا به لأعدوا الزاد ليوم المعاد ، قال أبو حيان : وجعلُه تعالى داود خليفةً في الأرض يدلُ على مكانته عليه السلام واصطفائه له ، ويدفع في صدر من نسب إِليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوة . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - المجاز المرسل { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } القرن مائة عام والهلاك لأهله ففيه مجاز . 2 - وضع الظاهر مكان الضمير { وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ } بدل وقالوا لتسجيل جريمة الكفر عليهم . 3 - صيغة المبالغة في كل من { كَذَّابٌ } ، { ٱلْعَزِيزِ } ، { ٱلْوَهَّابِ } ، { أَوَّابٌ } . 4 - التنوين للتقليل والتحقير وزيادة { ما } لتأكيد القلة { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ } . 5 - تأكيد الجملة الخبرية بإن واللام لزيادة التعجب والإِنكار { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } . 6 - الاستعارة البليغة { وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } شبه المُلْك بخيمةٍ عظيمة شُدَّت أطنابها بالأوتاد لتثبت وترسخ ولا تقتلعها الرياح ففيه استعارة مكنيَّة وذكرُ الأوتاد تخييل . 7 - الطباق { يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } لأن المراد المساء والصباح . 8 - أسلوب التشويق { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ } ورد الأسلوب بطريق التشويق . 9 - أسلوب الإِطناب { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } الخ . 10 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ … فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ … جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ } مما يزيد في روعة الكلام وجماله . لطيفَة : روى ابن كثير أن أبا زرعة دخل على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد أخبرني أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت القرآن وفقهت ! فقال يا أمير المؤمنين أقول ؟ قال : قل في أمان الله ، قال يا أمير المؤمنين : أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام ؟ إن الله تعالى جمع له بين الخلافة والنبوة ثم توعده في كتابه فقال { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ … } الآية ، فكانت موعظة بليغة .