Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 1-20)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { زُلْفَىۤ } قربى ومنه { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الشعراء : 90 ] أي قرّبت لهم { يُكَوِّرُ } التكوير : اللَّفُ والليُّ يقال : كوَّر العمامة أي لفَّها { خَوَّلَهُ } أعطاه وملَّكه { قَانِتٌ } مطيع خاضع عابد { أَندَاداً } أوثاناً وأصناماً { ظُلَلٌ } جمع ظُلَّة وهي ما يُظل الإِنسان من سقف ونحوه { ٱلطَّاغُوتَ } من الطغيان وهو مجاوزة الحدِّ والمراد بالطاغوت كل ما عُبد من دون الله من وثن أو بشر أو حجر { أَنَابُوۤاْ } رجعوا { غُرَفٌ } منازل رفيعة عالية في الجنة ، والغرفة : المنزلة والمكانة السامية ومنه { أُوْلَـٰئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ } [ الفرقان : 75 ] . التفسِير : { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله جل وعلا { ٱلْعَزِيزِ } أي القادر الذي لا يُغلب { ٱلْحَكِيمِ } أي الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتقدير وتدبير { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } أي نحن أنزلنا عليك يا محمد القرآن العظيم متضمناً الحق الذي لا مرية فيه ، والصدق الذي لا يشوبه باطل أو هزل { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } أي فاعبد الله وحده مخلصاً له في عبادتك ، ولا تقصد بعملك ونيتك غير ربك { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } أي ألا فانتبهوا أيها الناس : إن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم لأنه المتفرد بصفات الألوهية ، المطَّلع على السرائر والضمائر ، ومعنى " الخالص " الصافي من شوائب الشرك والرياء { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أي وهؤلاء المشركون الذين عبدوا من دونه الأوثان يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } أي ما نعبد هذه الآلهة والأصنام إلا ليقربونا إلى الله قربى ويشفعوا لنا عنده قال الصاوي : كان المشركون إذا قيل لهم : من خلقكم ؟ ومن خلق السماواتِ والأرض ؟ ومن ربكم ورب آبائكم الأولين ؟ فيقولون : الله ، فيقال لهم : فما معنى عبادتكم الأصنام ؟ فيقولون : لتقربنا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي يحكم بين الخلائق يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين ، فيدخل المؤمنين الجنة ، والكافرين النار { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ } أي لا يوفق للهدى ، ولا يرشد للدين الحق من كان كاذباً على ربه ، مبالغاً في كفره ، وفي الآية إشارة إلى كذبهم في تلك الدعوى { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } أي لو شاء الله اتخاذ ولد على سبيل الفرض والتقدير { لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي لاختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بطريق التوالد المعروف ولكنه لم يشأ ذلك لقوله { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] وقوله { مِمَّا يَخْلُقُ } أي من المخلوقات التي أنشأها واخترعها { سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } أي تنزه جل وعلا وتقدس عن الشريك والولد ، لأنه هو الإِله الواحد الأحد ، المنزَّه عن النظير والمثيل ، القاهر لعباده بعظمته وجلاله قال في التسهيل : نزَّه تعالى نفسه من اتخاذ الولد ، ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد ، لأنه لو كان له ولدٌ لكان من جنسه ولا جنس له لأنه واحد ، ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد ، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى ، فكيف يكون شريكاً له ؟ ثم ذكر تعالى دلائل قدرته وحدانيته وعظمته ، فقال : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات ، بالحق الواضح والبرهان الساطع { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } أي يغشي الليل على النهار ، ويغشي النهار على الليل ، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على اللابس قال القرطبي : وتكويرُ الليل على النهار تغشيتُه إياه حتى يُذهب ضوءه ، ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتادة وهو معنى قوله تعالى : يُغشي الليلَ النهار يطلبه حثيثاً { وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } أي ذلَّلهما لمصالح العباد { كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } أي كلٌ منهما يسير إلى مدة معلومة عند الله تعالى ، ثم ينقضي يوم القيامة حين تكور الشمس وتنكدر النجوم { أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } أي هو جل وعلا كامل القدرة لا يغلبه شيء ، عظيم الرحمة والمغفرة والإِحسان قال الصاوي : صُدِّرت الجملة بحرف التنبيه " ألا " للدلالة على كمال الاعتناء بمضمونها كأنه قال : تنبهوا يا عبادي فإِني أنا الغالب على أمري ، الستَّار لذنوب خلقي فأخلصوا عبادتكم ولا تشركوا بي أحداً . { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي خلقكم أيها الناس من نفسٍ واحدة هي آدم ، وهذا من جملة أدلة وحدانيته ، وانفراده بالعزة والقهر ، وجميع صفات الألوهية { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي ثم خلق من آدم حواء ليحصل التجانس والتناسل قال الطربي : المعنى : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم ( ثم خلق منها زوجها ) يعني حواء خلقها من ضلعٍ من أضلاعه { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي وأوجد لكم من الأنعام المأكولة وهي الإِبل ، والبقر ، والغنم ، والمعز ، ثمانية أزواج من كل نوعٍ ذكراً وأنثى قال قتادة : من الإِبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، كلُّ واحدٍ زوج ، وسميت أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى ، والأنثى زوج الذكر قال المفسرون : والإِنزالُ عبارةٌ عن نزول أمره وقضائه { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } أي يخلقكم في بطون أمهاتكم أطواراً ، فإِن الإِنسان يكون نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة إلى أن يتم خلقه ، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } هي البطن ، والرحم ، والمشيمة ، وهو الكيس الذي يغلّفُ الجنين { ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ } أي ذلكم الخالق المبدع المصوّر هو الله ربُّ العالمين ، ربكم وربُّ آبائكم الأولين { لَهُ ٱلْمُلْكُ } أي له الملك والتصرف التام ، في الإِيجاد والإِعدام { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبود بحقٍ إلا الله ولا ربَّ لكم سواه { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } ؟ أي فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ ثم بعد أن ذكَّرهم بآياته ونعمه ، حذَّرهم من الكفر والجحود لفضله وإحسانه فقال { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } أي إن تكفروا أيها الناس بعدما شاهدتم من آثار قدرته وفنون نعمائه ، فإِن الله مستغنٍ عنكم وعن إيمانكم وشكركم وعبادتكم { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } أي لا يرضى الكفر لأحدٍ من البشر قال الرازي : أشار تعالى إلى أنه وإِن كان لا ينفعه إيمان ، ولا يضره كفران ، إلا أنه لا يرضى بالكفر بمعنى أنه لا يمدح صاحبه ولا يثيبه عليه وإِن كان واقعاً بمشيئته وقضائه { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } أي وإِن تشكروا ربكم يرضى هذا الشكر منكم ، لأجلكم ومنفعتكم لا لانتفاعه بطاعتكم قال أبو السعود : عدم رضائه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرَّتهم ، رحمة بهم لا لتضرره تعالى بذلك ، ورضاه بشكرهم لأجلهم ومنفعتهم لأنه سبب فوزهم بسعادة الدارين ، ولهذا فرَّق بين اللفظين فقال " ولا يرضى لعباده الكفر " وقال هنا " يرضه لكم " لأن المراد بالأول تعميم الحكم ثم تعليله بكونهم عباده { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أي ولا تحمل نفسٌ ذنب نفسٍ أخرى ، بل كلٌ يؤاخذ بذنبه { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ } أي ثم مرجعكم ومصيركم إليه تعالى { فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي يعلم ما تكنه السرائر وتخفيه الضمائر ، وفيه تهديدٌ وبشارة للمطيع { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ } أي وإِذا أصاب الإِنسان الكافر شدة من فقر ومرضٍ وبلاء { دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي تضرع إلى ربه في إزالة تلك الشدة ، مقبلاً إليه مخبتاً مطيعاً { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ } أي ثم إذا أعطاه نعمةً منه وفرَّج عنه كربته { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوۤ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي نسي الضر الذي كان يدعو ربه لكشفه وتمرَّد وطغى { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي وجعل لله شركاء في العبادة ليصد عن دين الله وطاعته { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } أمرٌ للتهديد أي تمتع بهذه الحياة الدنيا الفانية ، وتلذَّذ فيها وأنت على كفرك ، عمراً قليلاً وزمناً يسيراً { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } أي فمصيرك إلى نار جهنم ، وأنت من المخلدين فيها { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً } استفهام حذف جوابه لدلالة الكلام عليه أي أم من هو مطيع عابد في ساعات الليل يتعبد ربه في صلاته ساجداً وقائماً كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً ؟ قال القرطبي : بيَّن تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي حال كونه خائفاً من عذاب الآخرة ، راجياً رحمة ربه وهي الجنة ، هل يستوي هذا المؤمن التقي مع ذلك الكافر الفاجر ؟ لا يستوون عند الله ، ثم ضرب مثلاً فقال { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ؟ أي هل يتساوى العالم والجاهل ؟ فكما لا يستوي هذان كذلك لا يستوي المطيع والعاصي { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي إنما يعتبر ويتعظ أصحاب العقول السليمة قال الإِمام الفخر : واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة ، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العمل ، وختم فيها بذكر العلم ، أما العمل فهو القنوت ، والسجود ، والقيام ، وأما العلم ففي قوله { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ؟ وهذا يدل على أن كمال الإِنسان محصورٌ في هذين المقصودين ، فالعمل هو البداية ، والعلم والمكاشفة هو النهاية ، وفي الكلام حذف تقديره أمَّنْ هو قانتٌ كغيره ؟ وإِنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه ، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر ، ثم مثَّل بالذين يعلمون ، وفيه تنبيه عظيم على فضيلة العلم { قُلْ يٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين يجمعوا بين الإِيمان وتقوى الله وهي البعدُ عن محارم الله قال المفسرون : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة والغرضُ منها التأنيس لهم والتنشيط إلى الهجرة ومعنى التقوى : امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، وكأن العبد بذلك يجعل بينه وبين النار وقاية { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة عظيمة في الآخرة وهي الجنة دار الأبرار { وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ } أي وأرض الله فسيحة فهاجروا من دار الكفر إلى دار الإِيمان ، ولا تقيموا في أرضٍ لا تتمكنون فيها من إقامة شعائر الله { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي إنما يعطى الصابرون جزاءهم بغير حصر ، وبدون عدد أو وزن قال الأوزاعي : ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف غرفاً { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } أي قل يا محمد أُمرت بإِخلاص العبادة لله وحده لا شريك له قال المفسرون : وإِنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أنَّ غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي وأُمرت أيضاً بأن أكون أولَ المسلمين من هذه الأمة قال القرطبي : وكذلك كان ، فإِنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها ، وأسلم وجهه لله وآمن به ودعا إليه { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي وأخاف إن عصيت أمره أن يعذبني يوم القيامة بنار جهنم قال الصاوي : والمقصود منها زجر الغير عن المعاصي ، لأنه صلى الله عليه وسلم إِذا كان خائفاً مع كمال طهارته وعصمته فغيره أولى ، وذلك سنة الأنبياء والصالحين حيث يخبرون غيرهم بما اتصفوا به ليكونوا مثلهم { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } أي قل لهم يا محمد لا أعبد إلا الله وحده ، مخلصاً له طاعتي وعبادتي من كل شائبة ، وليس هذا بتكرار لأن الأول إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالعبادة ، والثاني إخبار بخوفه من عذاب الله إن عصى أمره ، والثالث إخبار بامتثاله الأمر مع إفادة الحصر كأنه يقول : أعبد الله ولا أعبد أحداً سواه { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } صيغة أمر على جهة التهديد والوعيد أي اعبدوا ما شئتم من دون الله من الأوثان والأصنام فسوف ترون عاقبة كفركم كقوله { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] { قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي حقيقة الخسران الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، حيث صاروا إلى نار مؤبدة يصلون سعيرها يوم القيامة ، فهؤلاء هم الخاسرون كل الخسران قال ابن عباس : إنَّ لكل رجلٍ منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة ، فإِن أطاع اللهَ أُعطي ذلك ، وإِن كان من أهل النار حُرم ذلك ، فخسر نفسه وأهله ومنزله { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } أي ألا فانتبهوا أيها القوم ذلك هو الخسرانُ الواضح الذي ليس بعده خسرانٌ ! قال أبو حيان : بالغ في بيان الخسران بأداة التنبيه " ألاَ " وبالإِشارة إليه " ذلك " وتأكيده بأداة الحصر " هو " وتعريفه بأل ووصفه بأنه بيّن { ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل ، ثم لما ذكر خسرانهم في الدنيا ذكر حالهم ومآلهم في الآخرة فقال { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } أي تغشاهم نار جهنم من فوقهم ومن تحتهم ، وتحيط بهم من جميع جوانبهم ، ومعنى الظلل أطباقٌ من نار جنهم ، وتسميتها ظُللاً تهكمٌ بهم ، لأنها محرقة والظلةُ تقي من الحر { ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } أي ذلك العذاب الشديد الفظيع ، إِنما يقصه تعالى ليخوف به عباده ، لينزجروا عن المحارم والمآثم { يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } أي يا أوليائي خافوا عذابي ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي ، قال الزمخشري : وهذه عظة من الله تعالى لعباده ونصيحة بالغة … والحكمة من ذكر أحوال النار تخويف المؤمنين منها ليتقوها بطاعة ربهم { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } لما ذكر وعيد عبدة الأوثان ، ذكر وعد أهل الفضل والإِحسان ، ممن احترز عن الشرك والعصيان ، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد ، فيحصل كمال الترغيب والترهيب والمعنى : والذين انتهوا عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان ، وتباعدوا عنها كل البعد قال أبو السعود : " الطاغوت " البالغ أقصى غاية الطغيان كالرحموت والعظموت ، والمراد به الشيطان وصف به للمبالغة { وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي رجعوا إلى طاعة الله وعبادته { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } أي لهم البشرى السارة من الله تعالى بالفوز العظيم بجنات النعيم { فَبَشِّرْ عِبَادِ * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي فبشِّر عبادي المتقين الذين يستمعون الحديث والكلام فيتبعون أحسن ما فيه قال ابن عباس : هو الرجل يسمع الحسن والقبيح ، فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به . . وهذا ثناء من الله تعالى عليهم بنفوذ بصائرهم ، وتمييزهم الأحسن من الكلام ، فإِذا سمعوا قولاً تبصَّروه وعملوا بما فيه ، وأحسنُ الكلام كلام الله وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وإنما وضع الظاهر { فَبَشِّرْ عِبَادِ } بدل الضمير ( فبشرهم ) تشريفاً لهم وتكريماً بالإِضافة إليه سبحانه { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ } أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين هداهم الله لما يرضاه ، ووفقهم لنيل رضاه { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة ، والفطر المستقيمة { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ } أي أفمن وجبت له الشقاوة من الله تعالى ، وجوابه محذوفٌ دلَّ عليه ما بعده أي هل تقدر على هدايته ؟ لا ثم قال تعالى { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ } ؟ أي هل تستطيع يا محمد أن تنقذ من هو في الضلال والهلاك ؟ قال القرطبي : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إِيمان قومه وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت الآية ، وقال ابن عباس : يريد " أبا لهب " وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان ، وكرر الاستفهام " أفأنت " تأكيداً لطول الكلام والمعنى : أفمن حقَّ عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ؟ { لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ } أي لكنْ المؤمنين الأبرار ، المتقون للهِ في الدنيا ، المتمسكون بشريعته وطاعته { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ } أي لهم في الجنة درجات عالية وقصورٌ شاهقة بعضها فوق بعض مبنية من زبرجدٍ وياقوت { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي تجري من تحت قصورها وأشجارها أنهار الجنة من غير أخدود { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ } أي وعدهم الله بذلك وعداً مؤكداً لا يمكن أن يتخلف لأنه وعد العزيز القدير . تنبيه : قال الزمخشري : أفاد قوله تعالى { يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا نُقَّاداً في الدين ، يميزون بين الحسن والأحسن ، والفاضل والأفضل ، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها دليلاً ، وأبينها أمارة ، وألا يكونوا في مذهبهم كما قال القائل " ولا تكن مثل عيرٍ قيد فانقادا " .