Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 21-31)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى أحوال المشركين وضلالاتهم في عبادة غير الله ، أردفه بذكر دلائل الوحدانية ، ثم ذكر القرآن العظيم أشرف الكتب السماوية المنزَّلة ، ومع إقرارهم بفصاحته وإِعجازه كذَّب به المكذبون ، ثم ضرب للمشرك والموحّد مثلاً في غاية الوضوح . اللغَة : { سَلَكَهُ } أدخله { يَنَابِيعَ } جمع ينبوعٍ وهو عين الماء النابع من الأرض { يَهِـيجُ } ييبس قال الأصمعي : هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتُها وولى وقال الجوهري : هاج النَّبْت هياجاً إِذا يبس ، وأرضٌ هائجة إِذا يبس بقلُها أو اصفرَّ { حُطَاماً } فُتاتاً وهشيماً ، من تحطَّم العود إِذا تفتَّت من اليبس { شَرَحَ } فتح ووسَّع { لِّلْقَاسِيَةِ } قسا القلبُ : إِذا صلب وكذلك عتا وعسا ، وقلبٌ قاسٍ أي صلب لا يرقُّ ولا يلين { مَّثَانِيَ } مكرراً فيه الحكم والمواعظ والأمثال { تَقْشَعِرُّ } تضطرب وتتحرك من الخوف { ٱلْخِزْيَ } الذل والهوان { مُتَشَاكِسُونَ } متنازعون ومختلفون ، ورجلٌ شكس : شرس الخُلق والطباع . التفسِير : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } أي ألم تر أيها الإِنسان العاقل أنَّ الله بقدرته أنزل المطر من السحاب { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } أي أدخله مسالك وعيوناً في الأرض وأجراه فيها قال المفسرون : وهذا دليلٌ على أن ماء العيون من المطر ، تحبسه الأرض ثم ينبع شيئاً فشيئاً قال ابن عباس : ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكنْ عروق في الأرض تغيِّره { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي ثم يُخرج بهذا الماء النازل من السماء والنابع من الأرض أنواع الزروع ، المختلفة الأشكال والألوان ، من أحمر وأبيض وأصفر ، والمختلفة الأصناف من قمح وأرز وعدس وغير ذلك قال البيضاوي : { مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي أصنافه من بر وشعير وغيرهما ، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما { ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً } أي ثم ييبس فتراه بعد خضرته مصفراً { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } أي ثم يصبح فتاتاً وهشيماً متكسراً { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أي إِنَّ فيما ذُكر لعظة وعبرة ، ودلالةً على قدرة الله ووحدانيته لذوي العقول المستنيرة … والآية فيها تمثيلٌ لحياة الإِنسان بالحياة الدنيا ، فمهما طال عمر الإِنسان فلا بدَّ من الانتهاء ، إلى أن يصير مصفر اللون ، متحطم الأعضاء ، متكسراً كالزرق بعد نضرته ، ثم تكون عاقبته الموت قال ابن كثير : هكذا الدنيا تكون خضرة ناضرة حسناء ، ثم تعود عجوزاً شوهاء ، وكذلك الشاب يعود شيخاً هرماً ، كبيراً ضعيفاً ، وبعد ذلك كله الموت ، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } أي وسَّع صدره للإِسلام ، واستضاء قلبه بنوره حتى ثبت ورسخ فيه { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } أي فهو على بصيرة ويقين من أمر دينه ، وعلى هدىً من ربه بتنوير الحق في قلبه ، وفي الآية محذوفٌ دلَّ عليه سياق الكلام تقديره كمن هو أعمى القلب ، معرضٌ عن الإِسلام ؟ قال الطبري : وتُرك الجوابُ اجتزاءً بمعرفة السامعين وبدلالة ما بعده وتقديره : كمن أقسى اللهُ قلبه وأخلاه من ذكره حتى ضاق عن استماع الحق ، واتباع الهدى { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي فويلٌ للذين لا تلين قلوبهم ولا تخشع عند ذكر الله ، بـ " ذكر الله " القرآن الذي أنزله الله تذكرة لعباده { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي أولئك الذين قست قلوبهم في بعدٍ عن الحق ظاهر . . ولما بيَّن تعالى ذلك أردفه بما يدل على أنَّ القرآن سبب لحصول النور والهداية والشفاء فقال { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } أي اللهُ نزَّل القرآن العظيم أحسن الكلام قال أبو حيان : والابتداءُ باسم " اللهُ " وإِسناد " نزَّل " لضميره ، فيه تفخيمٌ للمُنزل ، ورفعٌ من قدره كما تقول : الملكُ أكرم فلاناً ، فإِنه أفخم من أكرم الملك فلاناً ، وحكمةُ ذلك البداءةُ بالأشرف { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } أي قرآناً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الفصاحة ، والبلاغة ، والتناسب ، بدون تعارضٍ ولا تناقض { مَّثَانِيَ } أي تُثنَّى وتكرر فيه المواعظ والأحكام ، والحلال والحرام ، وتُردَّد فيه القصص والأخبار دون سأم أو ملل قال الطبري : تُثنَّى - أي تكرر - فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي تعتري هؤلاء المؤمنين خشيةٌ ، وتأخذهم قشعريرة عند تلاوة آيات القرآنُ ، هيبةً من الرحمن وإِجلالاً لكلامه { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أي تطمئن وتسكن قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله قال المفسرون : إنهم عند سماع آيات الرحمة والإِحسان تلين جلودهم وقلوبهم وقال العارفون : إِذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا ، وإِن لاح لهم أثرٌ من عالم الجمال عاشوا قال ابن كثير : هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار ، إِذا قرءوا آيات الوعد والوعيد ، والتخويف والتهديد ، تقشعر جلودهم من الخشية والخوف وإِذا قرءوا آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم ، لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه { ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ } أي ذلك القرآن الذي تلك صفتُه هو هدى الله يهدي به من شاء من خلقه { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي ومن يخذلْه اللهُ فيجعل قلبه قاسياً مظلماً ، فليس له مرشدٌ ولا هاد بعد الله { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي فمن يجعل وجهه وقاية من عذاب جهنم الشديد ، وخبره محذوف تقديره كمن هو آمنٌ من العذاب ؟ قال المفسرون : الوجه أشرف الأعضاء فإِذا وقع الإِنسان في شيء من المخاوف فإِنه يجعل يده وقاية لوجهه ، وأيدي الكفار مغلولة يوم القيامة ، فإِذا ألقوا في النار لم يجدوا شيئاً يتقونها به إلا وجوههم { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي وتقول خزنة جهنم للكافرين : ذوقوا وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا من الكفر والمعاصي { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي كذَّب من قبلهم من الأمم السالفة فأتاهم العذاب من جهةٍ لا تخطر ببالهم { فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي فأذاقهم الله الذُلَّ والصغار والهوان في الدنيا { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي ولعذاب الآخرة الذي أُعدَّ لهم أعظم بكثير من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لو كان عندهم علمٌ وفهم ما كذبوا { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي ولقد بينا ووضحنا للناس في هذا القرآن من كل الأمثال النافعة ، والأخبار الواضحة ما يحتاجون إليه { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي لعلهم يتعظون ويعتبرون بتلك الأمثال والزواجر { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي حال كونه قرآناً عربياً لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، ولا تعارض ولا تناقض { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي لكي يتقوا الله ويجتنبوا محارمه . . ثم ذكر تعالى مثلاً لمن يشرك بالله ولمن يوحِّده فقال { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ } أي ضرب الله لكم أيها الناس هذا المثل : رجلٌ من المماليك اشترك فيه ملاكٌ سيئو الأخلاق ، بينهم اختلاف وتنازع ، يتجاذبونه في حوائجهم ، هذا يأمره بأمرٍ وذاك يأمره بمخالفته ، وهو متحيِّر موزّع القلب ، لا يدري لمن يرضي ؟ { وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ } هذا من تتمة المثل أي ورجلاً آخر لا يملكه إلا شخص واحد ، حسن الأخلاق ، فهو عبد مملوك لسيد واحد ، يخدمه بإِخلاص ويتفانى في خدمته ، ولا يلقى من سيده إلا إحساناً { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } أي هل يستوي هذا وهذا في حسن الحال ، وراحة البال ؟ فكذلك لا يتساوى المؤمن الموحِّد مع المشرك الذي يعبد آلهة شتى . قال ابن عباس : هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص وقال الرازي : وهذا مثلٌ ضُرب في غاية الحُسن في تقبيح الشرك ، وتحسين التوحيد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } لما كان المثل بيناً واضحاً في غاية الجلاء والوضوح ختم به الآية والمعنى : الحمد لله على إقامة الحجة عليهم بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الحق فهم لفرط جهلهم يشركون بالله { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } أي إنك يا محمد ستموت كما يموت هؤلاء ، ولا يخلَّد أحد في هذه الدار { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } أي ثم تجتمعون عند الله في الدار الآخرة ، وتختصمون فيما بينكم من المظالم وأمر الدنيا والدين ويفصل بينكم أحكم الحاكمين .