Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 53-75)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى أحوال الفجرة المشركين ، وذكر ما يكونون عليه في الآخرة من الذل والهوان ، دعا المؤمنين إلى الإِنابة والتوبة قبل فوات الأوان ، وختم السورة بذكر عظمة الله وجلاله يوم الحشر الأكبر ، حيث يكون العدل الإِلهي والقسطاسُ المستقيم ، ويساق السعداء إلى الجنة زمراً ، والأشقياء إلى النار زمراً { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً … } الآية . اللغَة : { بَغْتَةً } فجأة { مَثْوَى } مكان إقامة يقال : ثوى بالمكان أقام فيه { مَقَالِيدُ } خزائن ومفاتيح { زُمَراً } جماعات جماعات جمع زُمرة وهي الجماعة { خَزَنَتُهَا } حُرَّاسها الموكلون عليها { نَتَبَوَّأُ } تبوأ المكانَ حلَّ ونزل فيه { حَآفِّينَ } محيطين به من أطرافه وجهاته . التفسِير : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } أخبر يا محمد عبادي المؤمنين الذين أفرطوا في الجناية على أنفسهم بالمعاصي والآثام { لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } أي لا تيأسوا من مغفرة الله ورحمته { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } أي إنه تعالى يعفو عن جميع الذنوب لمن شاء ، وإِن كانت مثل زبد البحر { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي عظيم المغفرة واسع الرحمة ، وظاهر الآية أنها دعوة للمؤمنين إلى عدم اليأس من رحمة الله لقوله { يٰعِبَادِيَ } وقال ابن كثير : هي دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإِنابة ، وإِخبارٌ بأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له بالطاعة والخضوع والعمل الصالح { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ } من قبل حلول نقمته تعالى بكم { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي ثم لا تجدون من يمنعكم من عذابه { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } أي اتبعوا القرآن العظيم ، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، والزموا أحسن كتاب أنزل إليكم فيه سعادتكم وفلاحكم { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وأنتم غافلون ، لا تدرون بمجيئه لتتداركوا وتتأهبوا { أَن تَقُولَ نَفْسٌ } أي لئلا تقول بعض النفوس التي أسرفت في العصيان { يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } أي يا حسرتي وندامتي على تفريطي وتقصيري في طاعة الله وفي حقه قال مجاهد : يا حسرتا على ما ضيعت من أمر الله { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } أي وإِنَّ الحال والشأن أنني كنت من المستهزئين بشريعة الله ودينه قال قتادة : لم يكفه أن ضيَّع طاعة الله حتى سخر من أهلها { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } " أو " للتنويع أي يقول الكافر والفاجر هذا أو هذا والمعنى لو أن الله هداني لاهتديت إلى الحق ، وأطعت الله ، وكنت من عباده الصالحين قال ابن كثير : يتحسر المجرم ويودُّ لو كان من المحسنين المخلصين ، المطيعين لله عزَّ وجل { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي أو تقول تلك النفس الفاجرة حين مشاهدتها العذاب لو أنَّ لي رجعةً إلى الدنيا لأعمل بطاعة الله ، وأُحسن سيرتي وعملي { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي } هو جواب قوله { لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي } والمعنى بلى قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل ، وإِنزاله الكتب { فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } أي فكذبت بالآيات ، وتكبرت عن الإِيمان ، وكنت من الجاحدين قال الصاوي : إن الكافر أولاً يتسحر ، ثم يحتج بحجج واهية ، ثم يتمنى الرجوع إلى الدنيا ، ولو رُدَّ لعاد إلى ضلاله كما قال تعالى { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } أي ويوم القيامة ترى أيها المخاطب الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك له والولد وجوههم سوداء مظلمة بكذبهم وافترائهم { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } استفهام تقريري أي أليس في جهنم مقام ومأوى للمستكبرين عن الإِيمان ، وعن طاعة الرحمن ؟ بلى إنَّ لهم منزلاً ومأوى في دار الجحيم … ولما ذكر حال الكاذبين على الله ، ذكر حال المتقين لله فقال { وَيُنَجِّي ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ } أي وينجي الله المتقين بسبب سعادتهم وفوزهم بمطلوبهم وهو الجنة دار الأبرار { لاَ يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي لا ينالهم هلعٌ ولا جزع ، ولا هم يحزنون في الآخرة ، بل هم آمنون { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] ثم عاد إلى دلائل الألوهية والتوحيد ، بعد أن أفاض في الوعد والوعيد فقال { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } أي الله جل وعلا خالق جميع الأشياء وموجد جميع المخلوقات ، والمتصرف فيها كيف يشاء ، لا إله غيره ولا ربَّ سواه { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي هو القائم بتدبير كل شيء { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائن كل الأشياء ، لا يملك أمرها ولا يتصرف فيها غيره قال ابن عباس : " مقاليد " مفاتيح ، وقال السدي : خزائن السماواتِ والأرض بيده { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي والذين كذَّبوا بآيات القرآن الظاهرة ، والمعجزات الباهرة ، أولئك هم الخاسرون أشدَّ الخسران { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } ؟ أي قل يا محمد أتأمرونني أن أعبد غير الله بعد سطوع الآيات والدلائل على وحدانيته يا أيها الجاهلون ؟ قال ابن كثير : إن المشركين من جهلهم دعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم ، ويعبدوا معه إلهَه فنزلت الآية { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } اللام موطئة للقسم أي واللهِ لقد أوحي إليك وإِلى الأنبياء قبلك { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } أي لئن أشركت يا محمد ليبطلنَّ ويفسدنَّ عملك الصالح { وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي ولتكونَنَّ في الآخرة من جملة الخاسرين بسبب ذلك . . وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وإِلاّ فالرسول صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله ، وحاشا له أن يشرك بالله ، وهو الذي جاء لإِقامة صرح الإِيمان والتوحيد قال أبو السعود : والكلام واردٌ على طريقة الفرض لتهييج الرسل ، وإِقناط الكفرة ، والإِيذان بغاية شناعة الإِشراك وقبحه { بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ } أي أخلص العبادة لله وحده ، ولا تعبد أحداً سواه . { وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ } أي وكن من الشاكرين لإِنعام ربك { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي وما عرفوا الله حق معرفته ، ولا عظّموه حقَّ تعظيمه قال أبو حيان : أي ما عظّموه حقَّ تعظيمه ، وما قدروه في أنفسهم حقَّ تقديره ، إذ أشركوا معه غيره ، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة … ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه فقال { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } الجملة حالية والمعنى ما عظَّموه حقَّ تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة ، التي هي غاية العظمة والجلال ، فالأرضُ مع سعتها وبسطتها يوم القيامة تحت قبضته وسلطانه { وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } أي والسماوات مضمومات ومجموعات بقدرته تعالى قال الزمخشري : والغرضُ من هذا الكلام تصويرُ عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهابٍ بالقبضة واليمين إلى جهة وفي الحديث " يقبضُ اللهُ تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملكُ أين ملوكُ الأرض ؟ " { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزَّه الله وتقدس عما يصفه به المشركون من صفاتِ العجز والنقص ، ثم ذكر تعالى أهوال الآخرة فقال { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } هو قرنٌ ينفخ فيه إِسرافيل عليه السلام بأمر الله ، والمراد بالنفخة هنا " نفخة الصَّعق " التي تكون بعد نفخة الفزع قال ابن كثير : وهي النفخة الثانية التي يموت بها الأحياء من أهل السماواتِ والأرض { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } أي فخَّر ميتاً كل من في السماوات والأرض { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } أي إلاَّ من شاء الله بقاءه كحملة العرش ، والحور العين والولدان { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ } أي نُفخ فيه نفخةٌ أخرى وهي نفخةُ الإِحياء { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } أي فإِذا جميع الخلائق الأموات يقومون من القبور ينظرون ماذا يُؤمرون { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } أي وأضاءت أرض المحشر بنور الله يوم القيامة ، حين تجلى الباري جل وعلا لفصل القضاء بين العباد { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ } أي أحضرت صحائف أعمال الخلائق للحساب { وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ } أي وجيء بالأنبياء ليسألهم رب العزة عما أجابتهم به أممهم ، وبالشهداء وهم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم ، وقال السدي : هم الذين استشهدوا في سبيل الله { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ } أي وقُضي بين العباد جميعاً بالقسط والعدل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي وهم في الآخرة لا يظلمون شيئاً من أعمالهم ، لا بنقص ثواب ، ولا بزيادة عقاب قال ابن جبير : لا يُنقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي جوزي كل إنسانٍ بما عمل من خير أو شر { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } أي هو تعالى أعلم بما عمل كل إنسان ، ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد ، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحجة . . ثم فصَّل تعالى مآل كلٍ من الأشقياء والسعداء فقال { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } أي وسيق الكفرة المجرمون إلى نار جهنم جماعاتٍ جماعات ، كما يساق الأشقياء في الدنيا إلى السجون { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي حتى إِذا وصلوا إليها فتحت أبواب جهنم فجأة لتستقبلهم { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } ؟ أي وقال لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً : ألم يأتكم رسلٌ من البشر يتلون عليكم الكتب المنزلة من السماء ؟ { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } ؟ أي ويخوفونكم من شر هذا اليوم العصيب ؟ { قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } أي قالوا بلى قد جاءونا وأنذرونا ، وأقاموا علينا الحجج والبراهين ، ولكننا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقاوة قال القرطبي : وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم ، والمراد بكلمة العذاب قوله تعالى { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] { قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي قيل لهم ادخلوا جهنَّم لتصلوا سعيرها ماكثين فيها أبداً ، بلا زوال ولا انتقال { فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ } أي فبئس المقام والمأوى جهنم للمتكبرين عن الإِيمان بالله وتصديق رسله { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } أي وسيق الأبرار المتقون لله إلى الجنة جماعاتٍ جماعات راكبين على النجائب قال القرطبي : سوقُ أهل النار طردُهم إليها بالخزي والهوان ، كما يفعل بالمجرمين الخارجين على السلطان ، وسوقُ أهل الجنان سوقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان ، لأنه لا يُذهب بهم إلا راكبين ، كما يفعل بالوافدين على الملوك ، فشتَّان ما بين السوقين { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي حتى إِذا جاءوها وقد فتحت أبوابُها كقوله تعالى { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ ص : 50 ] قال الصاوي : والحكمةُ في زيادة الواو هنا " وفُتحت " دون التي قبلها ، أن أبواب السجون تكون مغلقة إلى أن يجيئها أصحاب الجرائم ، فتفتح لهم ثم تُغلق عليهم ، بخلاف أبواب السرور والفرح فإِنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها فناسب دخول الواو هنا دون التي قبلها { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } أي وقال لهم حراس الجنة : سلامٌ عليكم أيها المتقون الأبرار { طِبْتُمْ } أي طهرتم من دنس المعاصي والذنوب ، فادخلوا الجنة دار الخلود ، قال البيضاوي : وجواب " إذا " محذوف ، للدلالة على أنَّ لهم من الكرامة والتعظيم ، ما لا يحيط به الوصف والبيان قال ابن كثير : وتقديره إِذا كان هذا سُعِدوا ، وطابوا ، وسُرّوا وفرحوا بقدر ما يكون لهم من النعيم { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي وقالوا عند دخولهم الجنة واستقرارهم فيها : الحمد لله الذي حقَّق لنا ما وعدنا به من دخول الجنة قال المفسرون : والإِشارة إلى وعده تعالى لهم بقوله { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] { وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } أي وملَّكنا أرض الجنة نتصرف فيها تصرف المالك في ملكه وننزل فيها حيث نشاء ، ولا ينازعنا فيها أحد { فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } أي فنعم أجر العاملين بطاعة الله الجنة { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } أي وترى يا محمد الملائكة محيطين بعرش الرحمن ، محدقين به من كل جانب { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أي يسبحون الله ويمجدونه تلذذاً لا تعبداً { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْحَقِّ } أي وقُضي بين العباد بالعدل { وَقِيلَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي وقيل الحمد لله على عدله وقضائه قال المفسرون : القائل هم المؤمنون والكافرون ، المؤمنون يحمدون الله على فضله ، والكافرون يحمدونه على عدله قال ابن كثير : نطق الكون أجمعه ، ناطقه وبهيمه ، لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله ، ولهذا لم يسند القول إلى قائل ، بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين ( تَكْفُرُوۤاْ … و … تَشْكُرُواْ ) وبين { يَرْجُواْ … ويَحْذَرُ } وبين { فَوْقِهِمْ … وتَحْتِهِمْ } وبين { ضُرٍّ … ورَحْمَةٍ } وبين { ٱلْغَيْبِ … وَٱلشَّهَادَةِ } وبين { يَبْسُطُ … وَيَقْدِرُ } وبين { ٱهْتَـدَىٰ … وضَـلَّ } الخ . 2 - جناس الاشتقاق { يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] وكذلك في قوله { أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ } [ الزمر : 10 ] . 3 - الأسلوب التهكمي { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ } [ الزمر : 16 ] إطلاق الظلة عليها تهكم لأنها محرقة ، والظلة تقي من الحر . 4 - المقابلة الرائعة { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ … } [ الزمر : 45 ] الآية فقد قابل بين الله والأصنام ، وبين السرور والاشمئزاز ، وكذلك توجد مقابلة بين آيتي السعداء والأشقياء { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } وقابل ذلك بقوله { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً … } والمقابلةُ أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ، ثم يُؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب وهو من المحسنات البديعية . 5 - الإِيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الزمر : 22 ] حذف خبره وتقديره كمن طبع الله على قلبه ؟ ومثله { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ } [ الزمر : 9 ] أي كمن هو كافرٌ جاحدٌ لربه ؟ 6 - الأمر الذي يراد منه التهديد { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ } [ الزمر : 8 ] ومثله { ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ } [ الزمر : 39 ] للمبالغة في الوعيد . 7 - المجاز المرسل { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ } [ الزمر : 19 ] أطلق المسبب وأراد السبب ، لأن الضلال سبب لدخول النار . 8 - الاستعارة { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي مفاتيح خيراتهما ، ومعادن بركاتهما فشبَّه الخيرات والبركات بخزائن واستعار لها لفظ المقاليد ، بمعنى المفاتيح ، ومعنى الآية خزائن رحمته وفضله بيده تعالى . 9 - الاستعارة التمثيلية { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } مثَّل لعظمته وكمال قدرته ، وحقارة الأجرام العظام التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة لقدرته تعالى بمن قبض شيئاً عظيماً بكفه ، وطوى السماوات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية ، قال في تلخيص البيان : وفي الآية استعارة ومعنى ذلك أن الأرض في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض ، فتستولي عليه كفه ، ويحوزه ملكه ، ولا يشاركه غيره ، والسماوات مجموعات في ملكه ومضمومات بقدرته وقال الزمخشري : والآية لتصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله ، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة ، لأن الغرض الدلالة على القدرة الباهرة ، ولا ترى باباً في علم البيان أدق ولا أرقَّ ولا ألطف من هذا الباب . 10 - الكناية { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } جنبُ الله كنايةٌ عن حقِّ الله وطاعته ، وهذا من لطيف الكنايات . 11 - الالتفات من التكلم إلى الغيبة { لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } والأصل : لا تقنطوا من رحمتي قال علماء البيان : وفي الآية الكريمة { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ … } الآية من أنواع المعاني والبيان أمور حسان : منها إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم ، ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها الالتفات من المتكلم إلى الغيبة { مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } ومنها إضافة الرحمة للفظ الجلالة الجامع لجميع الأسماء والصفات ، ومنها الإِتيان بالجملة المعرَّفة الطرفين المؤكدة بإِن وضمير الفصل { إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } . 12 - توافق الفواصل في الحرف الأخير ، وهو نهاية في الروعة والجمال اقرأ مثلاً قوله تعالى { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ وَجِـيءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } ألا تأخذك روعة هذا البيان ، برونقه ، وجماله ، وأدائه ، فينطلق لسانك بذكر الرحمن ؟ !