Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 32-52)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر أن الخلق صائرون إلى الموت ، وأن المؤمنين والكافرين سيختصمون عند ربهم في أمر التوحيد والشرك ، وأنه تعالى يفصل بينهم ، ذكر هنا جزاء كلٍ من الفريقين ، ثم أتبعه بذكر قبائح المشركين واعتدادهم بشفاعة الأوثان والأصنام . اللغَة : { مَثْوًى } مأوى ومقام ، مشتقٌ من ثَوى بالمكان إِذا أقام به { يُخْزِيهِ } يُهينه ويُذله { ٱشْمَأَزَّتْ } نفرتْ وانقبضتْ { فَاطِرَ } خالق ومبدع { يَحْتَسِبُونَ } يظنون ويؤملون يقال : جاءه الأمر من حيث لا يحتسب أي من حيث لا يظن { حَاقَ } نزل وأحاط بهم من كل جانب { خَوَّلْنَاهُ } منحناه وأعطيناه تفضلاً وكرماً { مُعْجِزِينَ } فائتين من العذاب { يَقْدِرُ } يضيق ويُقتِّر . التفسِير : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ } الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك له والولد { وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } أي وكذَّب بالقرآن والشريعة وقت مجيئه من غير تدبر ولا تأمل ؟ أي لا أحد أظلم ممن حاله ذلك ، فإِنه أظلم من كل ظالم { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } ؟ أي أليس في جهنم مقام ومأوى لهؤلاء الكافرين المكذبين ؟ والاستفهام هنا تقريري أي بلى لهم مأوى ومكان { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } أي وأما الذين جاءوا بالصدق وهم الأنبياء ، والذين صدَّقوا به وهم المؤمنون أتباعُ الرسل { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } أي فأولئك الموصوفون بالصفات الحميدة هم أهل التقوى والصلاح الذين يستحقون كل إحسان وإكرام { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } أي لهم كل ما يشتهون في الجنة من الحور ، والقصور ، والملاذِّ ، والنعيم { ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي ذلك الذي ينالونه هو ثواب كل محسن ، أحسن في هذه الحياة قال بعض المفسرين : " الذي جاء بالصدق " هو محمد صلى الله عليه وسلم " وصدَّق به " هو أبو بكر رضي الله عنه ، والاختيارُ أن يكون على العموم حتى يشترك في هذه الصفة كل الرسل الكرام ، وكل من دعا إلى هذا الصدق عن عقيدة وإِيمان من أتباع الرسل ، ويدل عليه { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } بصيغة الجمع ، وهذا اختيار ابن عطية { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ } أي هؤلاء الذين صدَّقوا الأنبياء سيغفر الله لهم ما أسلفوا من الأعمال السيئة فلا يعاقبهم بها { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ويثيبهم على طاعاتهم في الدنيا بحساب الأحسن الذي عملوه فضلاً منه وكرماً قال المفسرون : العدلُ أن تُحسب الحسنات وتُحسب السيئات ، ثم يكون الجزاء ، والفضلُ هو الذي يتجلى به الله على عباده المتقين ، فيكفر عنهم أسوأ أعمالهم ، فلا يبقى لها حساب في ميزانهم ، وأن يجزيهم أجرهم بحساب أحسن الأعمال ، فتزيد حسناتُهم وتعلو وترجّح كفة الميزان ، وهذا من زيادة الكرم والإِحسان { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } ؟ الهمزة للتقرير أي أليس الله كافياً عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من شر من يريده بسوء ؟ قال أبو السعود : هذه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت له قريش : لتكفنَّ عن شتم آلهتنا ، أو ليصيبنَّك منها خبل أو جنون وقال أبو حيان : قالت قريش : لئن لم ينته محمد عن سبِّ آلهتنا وتعييبنا لنسلِّطنها عليه فتصيبه بخبَل وتعتريه بسوء ، فأنزل الله { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } أي هو كافٍ عبده ، وإضافته إليه تشريفٌ عظيمٌ لنبيّه { وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ } أي ويخوفونك يا محمد بهذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع { وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ } أي ومن أشقاه الله وأضلَّه فلن يهديه أحدٌ كائناً من كان { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } أي ومن أراد الله سعادته فهداه إلى الحق ، ووفقه لسلوك طريق المهتدين ، فلن يقدر أحدٌ على إضلاله { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ } ؟ أي هو تعالى منيع الجناب لا يُضام من لجأ إلى بابه ، وهو القادر على أن ينتقم من أعدائه لأوليائه ، لأنه غالب لا يُغلب ، ذو انتقام من أعدائه ، وفي الآية وعيدٌ للمشركين ، ووعدٌ للمؤمنين { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } هذه الآية إقامة برهان على تزييف طريقة عبدة الأوثان أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين عمَّن خلق السماوات والأرضَ ليقولُنَّ اللهُ خالقهما ، لوضوح الدليل على تفرده تعالى بالخالقية قال الرازي : إنَّ العلم بوجود الإِله القادر الحكيم ، لا نزاع فيه بين جمهور الخلائق ، وفطرةُ العقل شاهدةٌ بصحة هذا العلم ، فإِنَّ من تأمل في عجائب أحوال السماوات والأرض ، وفي عجائب أحوال النبات والحيوان ، وفي عجائب بدن الإِنسان وما فيه من أنواع الحِكَم الغريبة ، والمصالح العجيبة ، علم أنه لا بدَّ من الاعتراف بالإِله القادر الحيكم الرحيم ، ولهذا أقر المشركون بوجود الله { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي قل لهم يا محمد توبيخاً وتبكيتاً : أخبروني - بعد أن تحققتم أن خالق العالم هو الله - عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله { إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } ؟ أخبروني لو أراد الله أن يصيبني بشدة أو بلاء ، هل تستطيع هذه الأصنام أن تدفع عني ذلك السوء والضُّرَّ ؟ { أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } ؟ أي ولو أراد الله بي نفعاً من نعمة ورخاء هل تستطيع أن تمنع عني هذه الرحمة ؟ والجواب محذوفٌ لدلالة الكلام عليه يعني فسيقولون : لا ، لا تكشف السوء ، ولا تمنع الرحمة { قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } أي الله كافيني فلا ألتفت إلى غيره ، وعليه وحده يعتمد المعتمدون ، والغرضُ الاحتجاجُ على المشركين في عبادة ما لا يضرُّ ولا ينفع ، وإِقامة البرهان على الوحدانية { قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ } أي اعملوا على طريقتكم من المكر والكيد والخداع { إِنِّي عَامِلٌ } أي إني عاملٌ على طريقتي ، من الدعوة إلى الله وإظهار دينه { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي فسوف تعلمون لمن سيكون العذاب الذي يذل ويخزي الإِنسان { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي وينزل عليه عذاب دائمٌ لا ينقطع وهو عذاب النار ، هل هذا العذاب سيصيبني أو يصيبكم ؟ والغرض التهديد والتخويف قال أبو السعود : وفي الآية مبالغة في الوعيد ، وإِشعارٌ بأن حاله عليه السلام لا تزال تزداد قوةً بنصر الله وتأييده ، وفي خزي أعدائه دليل غلبته عليه الصلاة والسلام ، وقد عذبهم الله وأخزاهم يوم بدر { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ } أي نحن أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن المعجز في بيانه ، الساطع في برهانه ، لجميع الخلق ، بالحقِّ الواضح الذي لا يلتبس به الباطل { فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أين فمن اهتدى فنفعه يعود عليه ، ومن ضلَّ فضرر ضلاله لا يعود إلا عليه { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ } أي لستَ بموكَّل عليهم حتى تجبرهم على الإِيمان قال الصاوي : وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم والمعنى : ليس هداهم بيدك حتى تقهرهم وتجبرهم عليه ، وإِنما هو بيدنا ، فإِن شئنا هديناهم وإِن شئنا أبقيناهم على ما هم عليه من الضلال { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } أي يقبضها من الأبدان عند فناء آجالها وهي الوفاة الكبرى { وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا } أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي الوفاة الصغرى قال في التسهيل : هذه الآية للاعتبار ومعناها أن الله يتوفى النفوس على وجهين : أحدهما : وفاة كاملة حقيقية وهي الموت ، والآخر : وفاة النوم لأن النائم كالميت ، في كونه لا يُبصر ولا يسمع ، ومنه قوله تعالى { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } [ الأنعام : 60 ] وفي الآية عطف والتقدير : ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وقال ابن كثير : أخبر تعالى بأنه المتصرف في الوجود كما يشاء ، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى ، بما يرسل من الحفظة - الملائكة - الذين يقبضونها من الأبدان ، والوفاة الصغرى عند المنام { فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ } أي فيمسك الروح التي قضى على صاحبها الموتَ فلا يردها إلى البدن { وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي ويرسل الأنفس النائمة إلى بدنها عند اليقظة إلى وقت محدود ، هو أجل موتها الحقيقي قال ابن عباس : إنَّ أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام ، فتتعارف ما شاء الله لها ، فإِذا أرادت الرجوع إلى أجسادها ، أمسك الله أرواح الأموات عنده ، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها قال القرطبي : وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته تعالى ، وانفراده بالألوهية ، وأنه يحيي ويميت ، ويفعل ما يشاء ، لا يقدر على ذلك سواه ، ولهذا قال { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي إن في هذه الأفعال العجيبة لعلامات واضحة قاطعة ، على كمال قدرة الله وعلمه ، لقومٍ يجيلون أفكارهم فيها فيعتبرون { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ } أمْ للإِضراب أي لم يتفكروا بل اتخذوا لهم شفعاء من الأوثان والأصنام ، فانظر إلى فرط جهالتهم حيث اتخذوا من لا يملك شيئاً أصلاً شفعاء لهم عند الله قال ابن كثير : هذا ذمٌ للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله - وهي الأصنام - والأوثان التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم ، بلا دليل ولا برهان ، وهي لا تملك شيئاً من الأمر ، وليس لها عقل تعقل به ، ولا سمعٌ تسمع به ، ولا بصرٌ تبصر به ، بل هي جمادات أسوأ حالاً بكثير من الحيوانات { قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } الاستفهام توبيخي أي قل لهم يا محمد : أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا على هذه الصفة جمادات لا تقدر على شيء ، ولا عقل لها ولا شعور ؟ { قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } أي قل لهم : الشفاعةُ للهِ وحده ، لا يملكها أحدٌ إلا الله تعالى ، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإِذنه { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي هو المتصرف في المُلك والملكوت قال البيضاوي : أي هو تعالى مالك المُلكِ كله ، لا يملك أحدٌ أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي ثم مصيركم إليه يوم القيامة ، فيحكم بينكم بعدله ، ويجازي كلاً بعمله . . ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من أفعالهم القبيحة فقال { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ } أي وإِذا أُفرد الله بالذكر ، ولم يذكر معه آلهتهم وقيل أمام المشركين : لا إله إلا اللهُ { ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } أي نفرت وانقبضت من شدة الكراهة قلوب هؤلاء المشركين { وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي وإِذا ذكرت الأوثان والأصنام إِذا هم يفرحون ويُسرون قال الإِمام الفخر : هذا نوع آخر من قبائح المشركين ، فإِنك إذا ذكرتَ الله وحده وقلت : لا إِله إلا الله وحده لا شريك له ، ظهرتْ آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم ، وإِذا ذكرتَ الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم ، وذلك يدل على الجهل والحماقة ، لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات ، وذكر الأصنام الجمادات رأسُ الجهالات والحماقات ، فنفرتُهم عن ذكر الله ، واستبشارهم بذكر الأصنام ، من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ ، والحُمق الشديد { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي قل يا الله يا خالق ومبدع السماوات والأرض { عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي يا عالم السرِّ والعلانية ، يا من لا تخفى عليه خافية ، مما هو غائب عن الأعين أو مشاهد بالأبصار { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي أنت تفصل بين الخلائق بعدلك وقضائك ، فافصل بيني وبين هؤلاء المشركين قال في البحر : لما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله ، واستبشارهم بذكر الأصنام أمر رسوله أن يدعوه بأسمائه العظمى من القدرة والعلم ليفصل بينه وبين أعدائه ، وفي ذلك وعيد للمشركين وتسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وقال الصاوي : أي التجىءْ إلى ربك بالدعاء والتضرع فإِنه القادر على كل شيء { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي ولو أنَّ لهؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب القرآن والرسول { مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي لو ملكوا كل ما في الأرض من أموال ، وملكوا مثل ذلك معه { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي لجعلوا كل ما لديهم من أموال وذخائر ، فديةً لأنفسهم من ذلك العقاب الشديد يوم القيامة { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } أي وظهر له من أنواع العقوبات ما لم يكن في حسابهم قال أبو السعود : وهذه غايةٌ من الوعيد لا غاية وراءها ، ونظيرها في الوعد { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ } أي وظهر لهم في ذلك اليوم المفزع سيئات أعمالهم التي اكتسبوها { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي وأحاط ونزل بهم من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون به قال ابن كثير : أي أحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدنيا { فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا } أي فإِذا أصاب هذا الإِنسان الكافر شيءٌ من الشدة والبلاء ، تضرَّع إلى الله وأناب إليه { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا } أي ثم إذا أعطيناه نعمة منا تفضلا عليه وكرماً { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } أي قال ذلك الإِنسان الكافر الجاحد إِنما أعطيته على علمٍ مني بوجوه المكاسب والمتاجر { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي ليس الأمر كما زعم بل هي اختبارٌ وامتحانٌ له ، لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي ؟ { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار وابتلاء فلذلك يبطرون { قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي قال تلك الكلمة والمقالة الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [ القصص : 78 ] { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي فما نفعهم ما جمعوه من الأموال ، ولا ما كسبوه من الحُطام { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي فنالهم جزاء أعمالهم السيئة { وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ } أي والذين ظلموا من هؤلاء المشركين - كفار قريش - { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي سينالهم جزاء أعمالهم القبيحة كما أصاب أولئك قال البيضاوي : وقد أصابهم ذلك فإِنهم قد قُحطوا سبع سنين حتى أكلوا الجيف وقُتل ببدرٍ صناديدهم { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي وليسوا بفائتين من عذابنا ، لا يعجزوننا هرباً ولا يفوتوننا طلباً … ثم ردَّ عليهم زعمهم فيما أوتوا من المال وسعة الحال فقال { أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ؟ أي أولم يعلم هؤلاء المشركون أن الله يوسِّع الرزق على قوم ، ويضيّقه على آخرين ؟ فليس أمر الرزق تابعاً لذكاء الإِنسان أو غبائه ، إِنما هو تابعٌ للقسمة والحكمة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي إِن في الذي ذكر لعبراً وحججاً لقوم يصدِّقون بآيات الله قال القرطبي : وخصَّ المؤمن بالذكر ، لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها ، ويعلم أن سعة الرزق قد يكون استدراجاً ، وأن تقتيره قد يكون إعظاماً .