Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 32-53)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى بعض الدلائل على وحدانيته في خلق السماوات والأرض ، وما بثَّ فيهما من مخلوقات لا تُحصى ، أتبعه بذكر آية أخرى تدل على وجود الإِله القادر الحكيم ، وهي السفن الضخمة التي تشبه الجبال تسير بقدرته تعالى فوق سطح البحر ، محمَّلة بالأقوات والأرزاق ، وختم السورة الكريمة ببيان إثبات الوحي وصدق القرآن . اللغَة : { ٱلْجَوَارِ } جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تجري في الماء { كَٱلأَعْلاَمِ } جمع علم وهو الجبل العظيم الشاهق قالت الخنساء : @ وإِنَّ صخْراً لتأْتمُّ الهُداةُ به كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ @@ { رَوَاكِدَ } ثوابت ساكنة لا تسير ، من ركدَ الماء إذا سكن ووقف عن الجري { مَّحِيصٍ } مهرب ومخلص من العذاب { يُوبِقْهُنَّ } يهلكهنَّ يقال : أوبقه أي أهلكه { ٱلْفَوَاحِشَ } جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحه كالزنى والقتل والشرك وغيرها { نَّكِيرٍ } منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب { عَقِيماً } لا تلد . التفسِير : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة ، وسلطانه العظيم ، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ } أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البحر لا تجري { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكل مؤمن صابر في البأساء ، شاكرٍ في الرخاء قال الصاوي : أي كثير الصبر على البلايا ، عظيم الشكر على العطايا وقال أبو حيان : وإِنما ذكر السفن الجارية في البحر ، لما فيها من عظيم دلائل القدرة ، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف ، يغوص فيه الثقيل ، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص ، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإِذا أراد أن ترسوا أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها ، { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل ، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله قال القرطبي : أي ليعلم الكفار إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى الله ، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي فما أعطيتم أيها الناس من شيء من نعيم الدنيا وزهرتها الفانية ، فإِنما هو نعيم زائل ، تتمتعون به مدة حياتكم ثم يزول { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } أي وما عند الله من الثواب والنعيم ، خيرٌ من الدنيا وما فيها ، لأنَّ نعيم الآخرة دائم مستمر ، فلا تُقدِّموا الفاني على الباقي { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } أي للذين صدَّقوا الله ورسوله وصبروا على ترك الملاذ في الدنيا { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ } أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين { وَٱلْفَوَاحِشَ } قال ابن عباس : يعني الزنى { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي إِذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا قال الصاوي : من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب ، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة ، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حينئذٍ الغضب لا الحلم ، وعليه قول الشافعي " من استُغضب ولم يغضب فهو حمار " وقال الشاعر " وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل " { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة قال البيضاوي : نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أي أدوها بشروطها وآدابها ، وحافظوا عليها في أوقاتها { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون ، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي وينفقون مما أعطاهم الله في سبيل الله بالإِحسان إلى خلق الله { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أي ينتقمون ممن بغى عليهم ، ولا يستسلمون لظلم المعتدي قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يُذلّوا أنفسهم فتجترىء عليهم الفساق قال أبو السعود : وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل ، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة قال الإِمام الفخر : لما قال تعالى { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل دون زيادة ، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } أي فمن عفا عن الظالم ، وأصلح بينه وبين عدوه ، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل قال ابن كثير : شرع تعالى العدل وهو القصاص ، وندب إلى الفضل وهو العفو ، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث " وما زاد اللهُ تعالى عبداً بعفوٍ إلا عزاً " { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } أي إنه جل وعلا يبغض البادئين بالظلم ، والمعتدين في الانتقام { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي انتصر ممن ظلمه دون عدوان { فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } أي فليس عليهم عقوبة ولا مؤاخذة ، لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ } إي إنما العقوبة والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناس بعدوانهم { وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } أي ويتكبرون في الأرض تجبراً وفساداً بالمعاصي والاعتداء على الناس في النفوس والأموال { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي أولئك الظالمون الباغون لهم عذاب مؤلم موجع بسبب ظلمهم وبغيهم { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } أي ولمن صبر على الأذى ، وترك الانتصار لوجه الله تعالى ، فإِن ذلك الصبر والتجاوز من الأمور الحميدة التي أمر الله بها وأكد عليها قال الصاوي : كرَّر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه وللإِشارة إلى أنه محمود العاقبة { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } أي ومن يضلله اللهُ فليس له ناصر ولا هادٍ يهديه إلى الحق { وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } أي وترى الكافرين حين شاهدوا عذاب جهنم { يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لهول ما يشاهدون من العذاب ويقولون : هل هناك طريق لعودتنا إلى الدنيا ؟ قال القرطبي : يطلبون أن يُردُّوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله عز وجل فلا يجابون { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي وتراهم أيها المخاطب يُعرضون على النار { خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ } أي متضائلين صاغرين مما يلحقهم من الذل والهوان { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } أي يسارقون النظر خوفاً منها وفزعاً كما ينظر من قُدِّم ليقتل بالسيف ، فإِنه لا يقدر أن ينظر إليه بملء عينه قال ابن عباس : ينظرون بطرفٍ ذابلٍ ذليل وقال قتادة والسدي : يُسارقون النظر من شدة الخوف { وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حلَّ بالكفار : إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء ، فإِنهم خسروا أنفسهم وأهليهم بخلودهم في نار جهنم { أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } أي ألا إنهم في عذاب دائمٍ لا ينقطع { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } أي وما كان لهم من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله كما كانوا يرجون ذلك في الدنيا { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } أي ومن يضلله اللهُ فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا ، وإِلى الجنة في الآخرة ، لأنه قد سُدَّت عليه طريق النجاة قال ابن كثير : من يضلله الله فليس له خلاص { ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ } أي استجيبوا أيها الناسُ إلى ما دعاكم إليه ربكم من الإِيمان والطاعة { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ } أي من قبل أن يأتي ذلك اليوم الرهيب الذي لا يقدر أحدٌ على ردِّه ، لأنه ليس له دافع ولا مانع { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ } أي ليس لكم مفر تلتجئون إليه { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } أي وليس لكم منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب وقال أبو السعود : أي ما لكم إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوَّن في صحائف أعمالكم وتشهد عليه جوارحكم { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } أي فإِن أعرض المشركون عن الإِيمان ولم يقبلوا هداية الرحمن { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي فما أرسلناك يا محمداً رقيباً على أعمالهم ولا محاسباً لهم { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } أي ما عليك إلاَّ أن تبلغهم رسالة ربك وقد فعلت قال أبو حيان : والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيسٌ له ، وإِزالةٌ لهمِّه بهم ، ثم أخبر تعالى أن طبيعة الإِنسان الكفران لنعم الله فقال { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } المرادُ بالإِنسان الجنس بدليل قوله { وَإِن تُصِبْهُمْ } والمعنى إنا إذا أكرمنا الإِنسان بنعمةٍ من النعم من صحة وغنى وأمنٍ وغيرها بطر وتكبَّر { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } أي وإِن أصاب الناسَ جدبٌ ونقمة ، وبلاءٌ وشدة ، بسبب ما اقترفوه من آثام فإِن الإِنسان مبالغٌ في الجحود والكفران ، ينسى النعمة ويذكر البلية قال الصاوي : والحكمةُ في تصدير النعمة بـ " إذا " والبلاء بـ " إنْ " هو الإِشارة إلى أن النعمة محققة الحصول بخلاف البلاء ، لأن رحمة الله تغلب عضبه وقال الإِمام الفخر : نِعَمُ اللهِ في الدنيا وإِن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سمَّاها ذوقاً ، فبيَّن تعالى أن الإِنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير في الدنيا فإِنه يفرح بها ويعظم غروره بسببها ويقع في العجب والكبر ، ويظن أنه فاز بكل المُنى ، وذلك لجهله بحال الدنيا وبحال الآخرة { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي هو تعالى المالك للكون كلِّه ، علويه وسفليّه ، والمتصرف فيه بالخلق والإِيجاد ، كيفما شاء ، والمقصودُ من الآية أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه ، وأن يعلم أن الكل ملك الله وحده ، وبيده مقاليد التصرف في السماوات والأرض ، يعطي ويمنع ، لا رادَّ لقضائه ولا معقّب لحكمه { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً } أي يخص من شاء من عباده بالإِناث دون البنين { وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } أي ويخص من شاء بالذكور دون الإِناث { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } أي يجعلهم إن شاء من النوعين فيجمع للإِنسان بين البنين والبنات { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } أي ويجعل بعض الرجال عقيماً فلا يولد له ، وبعض النساء عقيماً فلا تلد قال البيضاوي : والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة ، على مقتضى المشيئة ، فيهب لبعضٍ إمّا صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى ، أو الصنفين جمعاً ، ويُعقم آخرين ، والمراد من الآية بيان نفاذ قدرته تعالى في الكائنات كيف يشاء ، ولهذا قال { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } أي مبالغ في العلم والقدرة ، يفعل ما فيه مصلحة وحكمة قال ابن كثير : جعل تعالى الناس أربعة أقسام : منهم من يعطيه البنات ، ومنهم من يعطيه البنين ، ومنهم من يعطيه النوعين الذكر والإِناث ، ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد ، فسبحان العليم القدير . . ثم ذكر تعالى الوحي وأقسامه وأنواعه فقال : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } أي وما صحَّ لأحدٍ من البشر أياً كان أن يكلمه الله إلا بطريق الوحي في المنام أو بالإِلهام ، لأن رؤيا الأنبياء حقٌ كما وقع للخليل إبراهيم عليه السلام { إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [ الصافات : 102 ] { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي أو يكلمه من وراء حجاب كما كلَّم موسى عليه السلام { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } أي أو يرسل ملكاً فيبلغ الوحي إلى الرسول بأمره تعالى ما يشاء تبليغه كما نزل جبريل بالوحي على الأنبياء قال في التسهيل : بيَّن تعالى في الآية أن كلامه لعباده على ثلاثة أوجه : أحدها الوحي بطريق الإلهام أو المنام ، والآخر أن يُسمعه كلامه من وراء حجاب ، والثالث : الوحي بواسطة الملك ، وهذا خاص بالأنبياء ، والثاني خاص بموسى وبمحمد إذ كلمه الله ليلة الإِسراء ، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء وقال الصاوي : وقد يقع الإِلهام لغير الأنبياء كالأولياء ، غير أن إلهام الأولياء قد يختلط به الشيطان لأنهم غير معصومين ، بخلاف الأنبياء فإِلهامهم محفوظ منه { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } أي إنه تعالى متعالٍ عن صفات المخلوقين ، حكيم في أفعاله وصنعه ، تجري أفعاله على موجب الحكمة { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } أي وكما أوحينا إلى غيرك من الرسل أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن ، وسمَّاه روحاً لأن فيه حياة النفوس من موت الجهل ، وكان مالك بن دينار يقول : يا أهل القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ فإِن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } أي ما كنت يا محمد تعرف قبل الوحي ما هو القرآن ، ولا كنت تعرف شرائع الإِيمان ومعالمه على وجه التفصيل { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } أي ولكن جعلنا هذا القرآن نوراً وضياءً نهدي به عبادنا المتقين { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي وإنك يا محمد لترشد إلى دين قيمٍ مستقيم هو الإِسلام { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي هذا الدين الذي لا اعوجاج فيه هو دينُ الله الذي له كل ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } أي ألا إلى الله وحده ترجع الأمور فيفصل فيها بين العباد بحكمه العادل وقضائه المبرم . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - المجاز المرسل { لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } [ الشورى : 7 ] أي لتنذر أهل مكة لأن الإِنذار لأهل القرية لا لها . وفي الآية احتباك حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر وتقديره : لتنذر أم القرى العذاب ، وتنذر الناس يوم الجمع . 2 - توالي المؤكدات مع صيغة المبالغة { أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [ الشورى : 5 ] وهي ألا ، وإن ، وضمير الفصل . 3 - الطباق بين { ٱلْجَنَّةِ … وٱلسَّعِيرِ } وبين { يَبْسُطُ … ويَقْدِرُ } وبين { ذُكْرَاناً … وَإِنَاثاً } . 4 - طباق السلب { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } [ الشورى : 18 ] . 5 - الاستعارة { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ } [ الشورى : 20 ] الآية شبه العمل للآخرة بالزارع يزرع الزرع ليجني منه الثمرة والحب ، بطريق الاستعارة التمثيلية وهي من لطائف الاستعارة . 6 - المقابلة { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ وَيُحِقُّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } [ الشورى : 24 ] . 7 - عطف العام على الخاص { يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } [ الشورى : 28 ] فالغيث خاص والرحمة عام . 8 - التشبيه المرسل المجمل { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } أي كالجبال في الضخامة والعظم . 9 - التقسيم { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } . 10 - جناس الاشتقاق { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ } [ الشورى : 30 ] . 11 - صيغة المبالغة { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي عظيم الصبر ، كبير الشكر . 12 - المشاكلة { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة . 13 - توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية وهو كثير في القرآن العظيم .