Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 19-31)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى الساعة وما يلقاه عند قيامها المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار من الحساب والجزاء ، ذكر هنا أنه لطيف بالعباد لا يعاجل العقوبة للعصاة مع استحقاقهم للعذاب ، ثم ذكر مآل المتقين ، ومآل المجرمين في الآخرة ، دار العدل والجزاء . اللغَة : { لَطِيفٌ } برٌّ رفيقٌ رحيم { حَرْثَ ٱلآخِرَةِ } الحرثُ في الأصل : إلقاء البذور في الأرض ، ويطلق على الزرع الحاصل منه ، ثم استعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة { ٱلْفَصْلِ } القضاء السابق { يَقْتَرِفْ } يكتسب { رَوْضَاتِ } جمع روضة وهو الموضع الكثير الأزهار والأشجار والثمار كالمنتزه وغيره { يَقْتَرِفْ } يكتسب { ٱلْغَيْثَ } المطر سمي غيثاً لأنه يُغيث الخلق { قَنَطُواْ } يئسوا { بَثَّ } فرَّق ونشر { بِمُعْجِزِينَ } فائتين من عذاب الله بالهرب . التفسِير : { ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } أي بارٌّ رحيم بالخلق كثير الإِحسان بهم ، يفيض عليهم من الخيرات والبركات مع عصيانهم قال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } أي يوسِّع الرزق على من يشاء قال القرطبي : وفي تفضيل قومٍ بالمال حكمه ، ليحتاج البعضُ إلى البعض ، وهذا من لطفه بالعباد ، وأيضاً ليمتحن الغنيَّ بالفقير ، والفقير بالغني كقوله تعالى { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } [ الفرقان : 20 ] { وَهُوَ ٱلْقَوِيُّ } أي القادر على كل ما يشاء { ٱلْعَزِيزُ } أي الغالبُ الذي لا يُغالب ولا يُدافع ثم لما بيَّن كونه لطيفاً بالعباد ، كثير الإِحسان إليهم ، أشار إلى أن الإِنسان ما دام في هذه الحياة فعليه أن يسعى في طلب الخيرات لأسباب السعادة فقال { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها ، نزدْ له في أجره وثوابه ، بمضاعفة حسناته { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي ومن كان يريد بعمله متاع الدنيا ونعيمها فقط ، نعطه بعض ما يطلبه من المتاع العاجل ممَّا قُدر له { وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } أي وليس له في الآخرة حظٌ من الثواب والنعيم قال الزمخشري : سمَّى ما يعمله العامل مما يبتَغي به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز ، وفرَّق بينهما بأن من عمل للآخرة ضوعفت حسناته ، ومن عمل للدنيا أُعطي شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه وقال في التسهيل : حرثُ الآخرة عبارة عن العمل لها ، وكذلك حرث الدنيا ، وهو مستعارٌ من حرث الأرض ، لأن الحرَّاث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل ، ثم أخذ ينكر على الكفار عبادتهم لغير الله ، مع أنه الخالق المتفضل على العباد فقال { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ } ؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي ألهؤلاء الكفار شركاء من الشياطين أو آلهة من الأوثان ، شرعوا لهم الشرك والعصيان الذي لم يأمر به الله ؟ قال شيخ زاده : وإِسنادُ الشرع إلى الأوثان ، وهي جمادات إسنادٌ مجازي ، من إسناد الفعل إلى السبب ، وسمَّاه ديناً للمشاكلة والتهكم { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لولا أنَّ الله حكم وقضى في سابق أزله أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة لحكم بين الكفار والمؤمنين ، بتعجيل العقوبة للظالم ، وإِثابة المؤمن { وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي وإِن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان لهم عذابٌ موجع مؤلم { تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ } أي ترى أيها المخاطب الكافرين يوم القيامة خائفين خوفاً شديداً من جزاء السيئات التي ارتكبوها في الدنيا { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي والجزاء عليها نازلٌ بهم يوم القيامة لا محالة ، سواءً خافوا أو لم يخافوا { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ } أي والمؤمنون الصالحون في رياض الجنة يتمتعون ، في أطيب بقاعها ، وفي أعلى منازلها { لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } أي لهم في الجنات ما يشتهونه من أنواع اللذائذ والنعيم والثواب العظيم عند رب كريم قال ابن كثير : فأين هذا من هذا ؟ أين من هو في الذل والهوان ، ممن هو في روضات الجنان ؟ فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ ؟ ولهذا قال تعالى { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } أي ذلك النعيم والجزاء هو الفوز الأكبر الذي لا يوازيه شيء قال القرطبي : أي الفضل الذي لا يوصف ، ولا تهتدي العقول إلى حقيقة صفته ، لأن الحقَّ جل وعلا إذا قال " كبير " فمن ذا الذي يقدر قدره ؟ { ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي ذلك الإِكرام والإِنعام هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين المتقين ، ليتعجلوا السرور ويزدادوا شوقاً إلى لقائه { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من الأجر والمال ، إلاَّ أن تحفظوا حقَّ القربى ولا تؤذوني حتى أبلغ رسالة ربي قال ابن كثير : أي لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً ، وإِنما أطلب أن تذروني حتى أبلغ رسالات ربي ، فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة قال ابن عباس : يقول إلا أن تصلوا ما بين وبينكم من القرابة ، وتؤذوني في نفسي لقرابتي منكم { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي ومن يكتسب ويفعل طاعةً من الطاعات نضاعف له ثوابها { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } أي غفور للذنوب شاكر لإِحسان المحسن ، لا يضيع عنده عمل العامل ، ولهذا يغفر الكثير من السيئات ، ويكثِّر القليل من الحسنات { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } ؟ أي بل أيقول كفار قريش إن محمداً اختلق الكذب على الله بنسبة القرآن إليه ؟ قال أبو حيان : وهذا استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين على هذه المقالة أي مثله لا يُنسب إلى الكذب على الله مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة { فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ } أي لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون لختم على قلبك فأنساك هذا القرآن ، وسلبه من صدرك ، ولكنك لم تفتر على الله كذباً ولهذا أيَّدك وسدَّدك قال ابن كثير : وهذه كقوله جل وعلا { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] وقال أبو السعود : والآيةُ استشهادٌ على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعاً ، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه ، ولم ينطق بحرفٍ من حروفه { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } أي يزيل الله الباطل بالكلية { وَيُحِقُّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي ويثبتُ اللهُ الحق ويوضّحه بكلامه المنزل ، وقضائه المبرم وقال ابن كثير : بكلماته أي بحججه وبراهينه { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي عالم بما في القلوب ، يعلم ما تكنه الضمائر ، وتنطوي عليه السرائر وقال القرطبي : والمراد أنك لو حدثت نفسك أن تفتري الكذب لعلمه الله وطبع على قلبك { وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } هذا امتنانٌ من الرحمن على العباد أي هو جل وعلا بفضله وكرمه يتقبل التوبة من عباده ، إِذا أقلعوا عن المعاصي وأنابوا بصدقٍ وإِخلاص نيّة { وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ } أي يصفح عن الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } أي يعلم جميع ما تصنعون من خيرٍ أو شر { وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي ويستجيب الله دعاء المؤمنين الصالحين قال الرازي : أي ويستجيبُ اللهُ للمؤمنين إلاَّ أنه حذف اللام كما حذف في قوله { وَإِذَا كَالُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] أي كالوا لهم { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } أي ويزيدهم من جوده وكرمه فوق ما سألوا واستحقوا لأنه الجواد الكريم ، البرُّ الرحيم { وَٱلْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي وأما الكافرون بالله فلهم العذاب الموجع الأليم في دار الجحيم { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ } أي ولو وسَّع الله الرزق على عباده لطغوا وبغَوْا وأفسدوا في الأرض بالمعاصي والآثام ، لأن الغنى يوجب الطغيان قال ابن كثير : أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق ، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً ، وقال قتادة : خير العيش ما لا يُلهيك ولا يُطغيك { وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } أي ولكنه تعالى يُنزّل أرزاق العباد بما تقتضيه الحكمة والمصلحة كما جاء في الحديث القدسي " إنَّ من عبادي من لا يصلُحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإِن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه " { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي عالم بأحوالهم وما يصلحهم ، فيعطي ويمنع ، ويبسط ويقبض ، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية { وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } تعديدٌ لنعمه على العباد أي هو تعالى الذي ينزّل المطر ، الذي يغيثهم من الجدب ، من بعد ما يئسوا من نزوله { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } أي ويبسط خيراته وبركاته على العباد { وَهُوَ ٱلْوَلِيُّ ٱلْحَمِيدُ } أي وهو الوليُّ الذي يتولى عباده ، المحمود بكل لسان على ما أسدى من النعماء { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي ومن دلائل قدرته ، وعجائب حكمته ، الدالة على وحدانيته ، خلقُ السماوات والأرض بهذا الشكل البديع { وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } أي وما نشر وفرَّق في السماوات والأرض من مخلوقات قال ابن كثير : وهذا يشمل الملائكة والإِنس والجن ، وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم وأنواعهم وقال مجاهد : هم الناسُ والملائكة { وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } أي وهو تعالى قادر على جمع الخلائق للحشر والحساب والجزاء ، في أيِّ وقتٍ شاء { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي وما أصابكم أيها الناس مصيبة من المصائب في النفس أو المال فإِنما هي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها قال الجلال : وعبَّر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تُزاول بها { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي ويصفح عن كثير من الذنوب فلا يعاقبكم عليها ، ولو آخذكم بكل ما كسبتم لهلكتم وفي الحديث " لا يصيب ابن آدم خدش عود ، أو عثرة قدمٍ ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلا بذنبٍ ، وما يعفو عنه أكثر " { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أي ولستم أيها المشركون فائتين من عذاب الله ، ولا هاربين من قضائه ، وإِن هربتم من أقطارها كل مهرب { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي وليس لكم غير الله وليٌّ يتولى أموركم ويتعهد مصالحكم ، ولا نصير يدفع عنكم عذابه وانتقامه . فَائِدَة : المصائب التي تُصيب الناس لتكفير السيئات ، وأما الأنبياء فإِنما هي لرفع الدرجات لأنهم معصومون عن الذنوب والآثام . تنبيه : قال بعض العلماء : لا يستبعد أن يكون في الكواكب السيارة ، والعوالم العلوية مخلوقات - غير الملائكة - تشبه مخلوقات الأرض ، وأن يكون فيها حيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا كما تدل الدلائل الفلكية على وجود حياةٍ في المريخ ، واستدلوا بهذه الآية { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } الآية ، أقول : يحتمل أن يوجد في هذا الفضاء الواسع ، مخلوقات حيَّة غير الإِنسان ، أما الإِنسان فإِننا نقطع بأنه لا يوجد إلا فوق سطح هذا الكوكب الأرضي لقوله تعالى : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [ الأعراف : 25 ] .