Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 1-20)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { يَبُثُّ } ينشر ويفرِّق { تَصْرِيفِ } تقليب ، صرَّف الله الريح قلَّبها من جهة إلى جهة { وَيْلٌ } كلمة تستعمل في العذاب والدمار { أَفَّاكٍ } كذَّاب ، والإِفك : الكذبُ { أَثِيمٍ } كثير الإِثم والإِجرام { رِّجْزٍ } أشد العذاب { يُصِرُّ } أصرَّ على الشيء : عزم على البقاء عليه بقوة وشدة { يُغْنِي } ينفع أو يدفع ومنه { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } [ الحاقة : 28 ] { بَصَائِرُ } دلائل ومعالم . التفسِير : { حمۤ } الحروف المقطَّعة للتنبيه على إِعجاز القرآن { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله ، العزيز في ملكه ، الحكيم في صنعه ، الذي لا يصدر عنه إلا كل ما فيه حكمةٌ ومصلحة للعباد ، ثم أخبر تعالى عن دلائل الوحدانية والقدرة فقال { إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي إنَّ في خلق السماواتِ والأرض وما فيهما من المخلوقات العجيبة ، والأحوال الغريبة ، والأمور البديعة ، لعلامات باهرة على كمال قدرة الله وحكمته ، لقوم يصدّقون بوجود الله ووحدانيته { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي وفي خلقكم أيها الناسُ من نطفةٍ ثم من علقة ، متقلبة في أطوارٍ مختلفة إلى تمام الخلق ، وفيما ينشره تعالى ويُفرقه من أنواع المخلوقات التي تدب على وجه الأرض ، آياتٌ باهرةٌ أيضاً لقومٍ يصدّقون عن إذعانٍ ويقين بقدرة ربِّ العالمين { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي وفي تعاقب الليل والنهار ، دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه وذاك بضيائه ، بنظام محكم دقيق { وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ } أي وفيما أنزله الله تبارك وتعالى من السحاب ، من المطر الذي به حياة البشر في معاشهم وأرزاقهم قال ابن كثير : وسمَّى تعالى المطر رزقاً لأنه به يحصل الرزق { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي فأحيا بالمطر الأرض بعدما كانت هامدةً يابسة لا نبات فيها ولا زرع ، فأخرج فيها من أنواع الزروع والثمرات والنبات { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } أي وفي تقليب الرياح جنوباً وشمالاً ، باردة وحارة { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي علامات ساطعة واضحة على وجود الله ووحدانيته ، لقومٍ لهم عقول نيّرة وبصائر مشرقة قال الصاوي : ذكر الله سبحانه وتعالى من الدلائل ستةً في ثلاث آيات ، ختم الأولى بـ { لِّلْمُؤْمِنِينَ } ، والثانية بـ { يُوقِنُونَ } والثالثة بـ { يَعْقِلُونَ } ووجه التغاير بينها في التعبير أن الإِنسان إذا تأمل في السماواتِ والأرض ، وأنه لا بدَّ لهما من صانع آمن ، وإِذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إِيماناً فأيقن ، وإِذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه { تَلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ } أي هذه آيات الله وحججه وبراهينه ، الدالة على وحدانيته وقدرته ، نقصُّها عليك يا محمد بالحق المبين الذي لا غموض فيه ولا التباس { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } ؟ أي وإِذا لم يصدِّق كفار مكة بكلام الله ، ولم يؤمنوا بحججه وبراهينه ، فبأي كلامٍ يؤمنون ويصدِّقون ؟ والغرضُ استعظام تكذيبهم للقرآن بعد وضوح بيانه وإِعجازه { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي هلاك ودمارٌ لكل كذَّاب مبالغٍ في اقتراف الآثام قال الرازي : وهذا وعيدٌ عظيم ، والأَفَّاك الكذَّاب ، والأثيمُ المبالغ في اقتراف الآثام { يَسْمَعُ آيَاتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ } أي يسمع آيات القرآن تُقرأ عليه ، وهي في غاية الوضوح والبيان { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } أي ثم يدوم على حاله من الكفر ، ويتمادى في غيّه وضلاله ، مستكبراً عن الإِيمان بالآيات كأنه لم يسمعها { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي فبشّره يا محمد بعذاب شديد مؤلم ، وسمَّاه " بشارة " تهكماً بهم ، لأن البشارة هي الخبر السارُّ قال في التسهيل : وإِنما عطفه بـ " ثم " لاستعظام الإِصرار على الكفر بعد سماعه آيات الله ، واستبعاد ذلك في العقل والطبع قال المفسرون : نزلت في " النضر بن الحارث " كان يشتري أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن ، والآيةُ عامةٌ في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً } أي إِذا بلغه شيء من الآيات التي أنزلها الله على محمد ، سخر واستهزأ بها { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي أولئك الأفاكون المستهزءون بالقرآن لهم عذاب شديد مع الذل والإِهانة { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ } أي أمامهم جهنم تنتظرهم لما كانوا فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق { وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً } أي لا ينفعهم ما ملكوه في الدينا من المال والولد { وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ } أي ولا تنفعهم الأصنام التي عبدوها من دون الله { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي ولهم عذاب دائم مؤلم قال أبو السعود : وتوسيط النفي { وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ } مع أن عدم إِغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إِغناء الأموال والأولاد ، مبنيٌ على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم ، وفيه تهكم بهم { هَـٰذَا هُدًى } أي هذا القرآن كامل في الهداية لمن آمن به واتَّبعه { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } أي جحدوا بالقرآن مع سطوعه ، وفيه زيادة تشنيع على كفرهم به ، وتفظيع حالهم { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } أي لهم عذاب من أشدِّ أنواع العذاب مؤلمٌ موجعٌ قال الزمخشري : والرجزُ أشدُّ العذاب ، والمراد بـ { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } القرآن . . ثم لمَّا توعَّدهم بأنواع العذاب ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة ليشكروه ويوحّدوه فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ } أي الله تعالى بقدرته وحكمته هو الذي ذلَّل لكم البحر على ضخامته وعِظمه { لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } أي لتسير السفنُ على سطحه بمشيئته وإرادته ، دون أن تغوص في أعماقه قال الإِمام الفخر : خلَق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها السفن ، وخلق الخشبة على وجهٍ تبقى طافيةً على وجه الماء دون أن تغوص فيه ، وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي ولتطلبوا من فضل الله بسبب التجارة ، والغوص على اللؤلؤ والمرجان ، وصيد الأسماك وغيرها { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي ولأجل أَن تشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم وتفضَّل قال القرطبي : ذكر تعالى كمال قدرته ، وتمام نعمته على عباده ، وبيَّن أنه خلقَ ما خلق لمنافعهم ، وكلُّ ذلك من فعله وخلقه ، وإِحسانٌ منه وإِنعام { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } أي وخلق لكم كل ما في هذا الكون ، من كواكب ، وجبال ، وبحار ، وأنهار ، ونباتٍ ، وأشجار ، الجميع من فضله وإِحسانه وامتنانه ، من عنده وحده جلَّ وعلا { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي إِنَّ فيما ذُكر لعبراً وعظات لقوم يتأملون في بدائع صنع الله فيستدلون على قدرته ووحدانيته ويؤمنون ، ثم لما بيَّن تعالى دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ، أردفه بتعليم فضائل الأخلاق ، ومحاسن الأفعال فقال { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } أي قل يا محمد للمؤمنين يصفحوا عن الكفار ، ويتجاوزوا عمَّا يصدر عنهم من الأذى والأفعال الموحشة قال مقاتل : شتم رجلٌ من الكفار عمر بمكة فهمَّ أن يبطش به ، فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية ، والمرادُ من قوله { لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } أي لا يخافون بأسِِ الله وعقابه لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ولا بلقاء الله قال ابن كثير : أُمر المسلمون أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ، ليكون ذلك تأليفاً لهم ، ثم لما أصرُّوا على العناد ، شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد { لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وعيدٌ وتهديد أي ليجازي الكفرة المجرمين بما اقترفوه من الإِثم والإِجرام ، والتنكيرُ للتحقير { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أي من فعل خيراً في الدنيا فنفعُه لنفسه ، ومن ارتكب سوءاً وشراً فضرره عائد عليها ، ولا يكاد يسري عملٌ إلى غير عامله { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي ثم مرجعكم يوم القيامة إلى الله وحده ، فيجازي كلاً بعمله ، المحسنَ بإِحسانه ، والمسيءَ بإِساءته . . ولما ذكَّر بالنعم العامة أردفه بذكر النعم الخاصة على بني إِسرائيل فقال { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } أي والله لقد أعطينا بني إِسرائيل التوراة ، وفصل الحكومات بين الناس ، وجعلنا فيهم الأنبياء والمرسلين { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } أي ورزقناهم من أنواع النعم الكثيرة من المآكل والمشارب ، والأقوات والثمار { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ } أي وفضلناهم على سائر الأمم في زمانهم قال الصاوي : والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم كأنه قال : لا تحزن يا محمد على كفر قومك ، فإِننا آتينا بني إسرائيل الكتاب والنعم العظيمة ، فلم يشكروا بل أصرُّوا على الكفر ، فكذلك قومك { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } أي وبينا لهم في التوراة أمر الشريعة وأمر محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه قال ابن عباس : يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته بأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب وينصره أهلها { فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } أي فما اختلفوا في ذلك الأمر ، إلا من بعد ما جاءتهم الحجج والبراهين والأدلة القاطعة على صدقه { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي حسداً وعناداً وطلباً للرياسة قال الإِمام الفخر : والمقصودُ من الآية التعجبُ من هذه الحالة ، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف ، وهٰهنا صار العلم سبباً لحصول الاختلاف ، لأنه لم يكن مقصودهم نفس العلم وإِنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم ، فلذلك علموا وعاندوا { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي هو جل وعلا الذي يفصل بين العباد يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين ، وفي الآية زجرٌ للمشركين أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم العاتية الطاغية { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا } أي ثم جعلناك يا محمد على طريقةٍ واضحة ، ومنهاجٍ سديد رشيد من أمر الدين ، فاتبع ما أوحى إليك ربك من الدين القيّم { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا تتَّبع ضلالات المشركين قال البيضاوي : لا تتبع آراء الجهال التابعة للشهوات ، وهم رؤساء قريش حيث قالوا : ارجع إلى دين آبائك { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي لن يدفعوا عنك شيئاً من العذاب إن سايرتهم على ضلالهم { وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } أي وإِن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا ولا ولي لهم في الآخرة { وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي وهو تعالى ناصر ومعين المؤمنين المتقين في الدنيا والآخرة { هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي هذا القرآن نور وضياء للناس بمنزلة البصائر في القلوب ، وهو رحمة لمن آمن به وأيقن .