Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 1-19)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { شِرْكٌ } شركة ونصيب { أَثَارَةٍ } بقية من الشيء { تُفِيضُونَ } الإِفاضة في الشيء : الخوضُ فيه والاندفاع يقال : أفاضوا في الحديث اندفعوا فيه ، وأفاض الناس من عرفات أي دفعوا منها { بِدْعاً } البدع بالكسر الشيء المبتدع قال الرازي : والبِدعُ والبديع من كل شيء المبدع ، والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله بحكم السُنَّة { إِفْكٌ } كذب { كُرْهاً } بكرهٍ ومشقة { فِصَالُهُ } فطامه { أَوْزِعْنِيۤ } ألهمني { أُفٍّ } كلمة تضجّر وتبرم { خَلَتِ } مضت . التفسِير : { حـمۤ } الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } أي هذا الكتاب المجيد منزَّل من عند الإِله العزيز في ملكه ، الحكيم في صنعه { مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي ما خلقنا السماواتِ والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثاً ، وإِنما خلقناهما خلقاً متلبساً بالحكمة ، لندل على وحدانيتنا وكمال قدرتنا { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي وإِلى زمنٍ معيَّن هو زمن فنائهما يوم القيامة { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } أي وهؤلاء الكفار معرضون عما خُوّفوه من العذاب ومن أهوال الآخرة ، لا يتفكرون فيه ولا يستعدون له … ثم لما بيَّن وجود الإِله العزيز الحكيم ردَّ على عبدة الأصنام فقال { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين : أخبروني عن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، وتزعمون أنا آلهة { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } ؟ أي أرشدوني وأخبروني أيَّ شيءٍ خلقوا من أجزاء الأرض ، وممَّا على سطحها من إِنسان أو حيوان ؟ { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } ؟ أي أمْ لهم مشاركة ونصيب مع الله في خلق السماواتِ ؟ { ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ } أي هاتوا كتاباً من الكتب المنزلة من عند الله قبل هذا القرآن يأمركم بعبادة هذه الأصنام ؟ وهو أمر تعجيز لأنهم ليس لهم كتابٌ يدل على الإِشراك بالله ، بل الكتب كلُّها ناطقة بالتوحيد { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أي أو بقية من علمٍ من علوم الأولين شاهدة بذلك { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي إِن كنتم صادقين في دعواكم أنها شركاء مع الله قال في البحر : طلب منهم أن يأتوا بكتابٍ يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله ، أو بقيةٍ من علوم الأولين ، والغرضُ توبيخهم لأن كل كتب الله المنزَّلة ناطقة بالتوحيد وإِبطال الشرك ، فليس لهم مستند من نقل أو عقل … ثم أخبر تعالى عن ضلال المشركين فقال { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } ؟ أي لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يعبد أصناماً لا تسمع دعاء الداعين ، ولا تعلم حاجاتِ المحتاجين ، ولا تستجيب لمن ناداها أبداً لأنها جمادات لا تسمع ولا تعقل { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } أي وهم لا يسمعون ولا يفهمون دعاء العابدين ، وفيه تهكم بها وبعبدتها ، وإِنما ذكر الأصنام بضمير العقلاء ، لأنهم لما عبدوها ونزَّلوها منزلة من يضر وينفع ، صحَّ أن توصف بعدم الاستجابة وبعدم السمع والنفع ، مجاراة لزعم الكفار { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً } أي وإِذا جمع الناس للحساب يوم القيامة كانت الأصنام أعداءً لعابديها يضرونهم ولا ينفعونهم { وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } أي وتتبرأ الأصنام من الذين عبدوها قال المفسرون : إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عابديها وتقول { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] وهذه الآية كقوله تعالى { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] واللهُ على كل شيء قدير { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن واضحات ظاهرات أنها من كلام الله { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } أي قال الكافرون عن القرآن الحق لما جاءهم من عند الله { هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي هذا سحرٌ لا شبهة فيه ظاهر كونه سحراً ، وإِنما وضع الظاهر { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } موضع الضمير تسجيلاً عليهم بكمال الكفر والضلالة قال في البحر : وفي قوله { لَمَّا جَآءَهُمْ } تنبيهٌ على أنهم لم يتأملوا ما يُتلى عليهم ، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً ، ووصفوه بأنه { مُّبِينٌ } أي ظاهر أنه سحر لا شبهة فيه { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أي أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من تلقاء نفسه ؟ وهو إِنكار توبيخي { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي قل إن افتريتُه - على سبيل الفرض - فالله حسبي في ذلك وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه ، ولا تقدرون أنتم على أن تردُّوا عني عذاب الله ، فكيف أفتريه من أجلكم وأتعرض لعقابه ؟ { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي هو جل وعلا أعلمُ بما تخوضون في القرآن وتقدحون به من قولكم هو شعر ، هو سحر ، هو افتراء ، وغير ذلك من وجوه الطعن { كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي كفى أن يكون تعالى شاهداً بيني وبينكم ، يشهد لي بالصدق والتبليغ ، ويشهد عليكم بالجحود والتكذيب { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي وهو الغفور لمن تاب ، الرحيم بعباده المؤمنين قال أبو حيان : وفيه وعدٌ لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر ، وإِشعارٌ بحلمه تعالى عليهم إِذْ لم يعاجلهم بالعقوبة { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ } أي لست أول رسول طرق العالم ، ولا جئت بأمرٍ لم يجىء به أحدٌ قبلي ، بل جئت بما جاء به ناسٌ كثيرون قبلي ، فلأيّ شيءٍ تنكرون ذلك عليَّ ؟ والبدْعُ والبديعُ من الأشياء هو الذي لم يُر مثله قال ابن كثير : أي ما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إِليكم ، فقد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي ولا أدري بما يقضي اللهُ عليَّ وعليكم ، فإِن قدر الله مغيَّب { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ } أي لا أتبع إلا ما ينزله اللهُ عليَّ من الوحي ، ولا أبتدع شيئاً من عندي { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي وما أنا إلا رسولٌ منذرٌ لكم من عذاب الله ، بيّن الإِنذار بالشواهد الظاهرة ، والمعجزات الباهرة { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ } أي قل يا محمد : أخبروني يا معشر المشركين إن كان هذا القرآن كلام الله حقاً وقد كذبتم به وجحدتموه وجوابه محذوف تقديره : كيف يكون حالكم ؟ { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ } أي وقد شهد رجل من علماء بني إِسرائيل على صدق القرآن ، فآمن به واستكبرتم أنتم عن الإِيمان ، كيف يكون حالكم ، ألستم أضل الناس وأظلم الناس ؟ قال الزمخشري : وجوابُ الشرط محذوف تقديره : إِن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين ؟ ودلَّ على هذا المحذوف قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا يوفق للخير والإِيمان من كان فاجراً ظالماً قال المفسرون : والشاهدُ من بني إِسرائيل هو " عبد الله بن سلام " وذلك حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاء إليه ابن سلام ليمتحنه ، فلما نظر إلى وجهه علم أنه ليس بوجه كذاب ، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر ، فقال له : إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أُمه ؟ فلما أجابه صلى الله عليه وسلم قال : أشهد أنك رسول الله حقاً . . الخ ثم ردَّ تعالى على شبهةٍ أُخرى من شبه المشركين فقال { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } أي وقال كفار مكة في حق المؤمنين : لو كان هذا القرآن والدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الضعفاء ! ! وقال ابن كثير : يعنون " بلالاً " و " عماراً " و " صهيباً " و " خباباً " وأشباههم من المستضعَفين والعبيد والإِماء ممن أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } أي ولمّا لم يهتدوا بالقرآن مع وضوح إِعجازه ، قالوا هذا كذبٌ قديم مأثور عن الأقدمين ، أتى به محمد ونسبه إلى الله تعالى { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً } أي ومن قبل القرآن التوراة التي أنزلها الله على موسى قدوةً يؤتم بها في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإِمام ، ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها قال الإِمام الفخر : ووجه تعلق الآية بما قبلها أن المشركين طعنوا في صحة القرآن ، وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء الصعاليك ، فردَّ الله عليهم بأنكم لا تنازعون أن الله أنزل التوراة على موسى ، وجعل هذا الكتاب - التوراة - إِماماً يقتدى به ، ثم إِن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فإِذا سلمتم كونها من عند الله ، فاقبلوا حكمها بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسولٌ حقاً من عند الله { وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً } أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن ، مصدِّقٌ للكتب قبله بلسانٍ عربي فصيح ، فكيف ينكرونه وهو أفصح بياناً ، وأظهر برهاناً ، وأبلغ إِعجازاً من التوراة ؟ { لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ } أي ليخوِّف كفار مكة الظالمين من عذاب الجحيم ، ويبشر المؤمنين المحسنين بجنات النعيم . . ولما بيَّن تعالى أحوال المشركين المكذبين بالقرآن ، أردفه بذكر أحوال المؤمنين المستقيمين على شريعة الله فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } أي جمعوا بين الإِيمان والتوحيد والاستقامة على شريعة الله { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فلا يلحقهم مكروهٌ في الآخرة يخافون منه { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا في الدنيا { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا } أي أولئك المؤمنون المستقيمون في دينهم ، هم أهل الجنة ماكثين فيها أبداً { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي نالوا ذلك النعيم جزاءً لهم على أعمالهم الصالحة { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } لمَّا كان رضا الله في رضا الوالدين ، وسخطه في سخطهما حثَّ تعالى العباد عليه والمعنى أمرنا الإِنسان أمراً جازماً مؤكداً بالإِحسان إلى الوالدين ، ثم بيَّن السبب فقال { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي حملته بكرهٍ ومشقة ووضعته بكرهٍ ومشقة { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } أي ومدة حمله ورضاعه عامان ونصف ، فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة قال ابن كثير : أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحَم ، وغثيان ، وثقل ، وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة ، ووضعته بمشقة أيضاً من الطَّلق وشدته ، وقد استدل العلماء بهذه الآية مع التي في لقمان { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قويٌ صحيح { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي حتى إِذا عاش هذا الطفل وبلغ كمال قوته وعقله { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي واستمر في الشباب والقوة حتى بلغ أربعين سنة وهو نهاية اكتمال العقل والرشد { قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } أي قال ربِّ ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ وعلى والديَّ حتى ربياني صغيراً { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } أي ووفقني لكي أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } أي اجعل ذريتي ونسلي صالحين قال شيخ زاده : طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء : الأول : أن يوفقه الله للشكر على النعمة والثاني : أن يوفقه للإِتيان بالطاعة المرضية عند الله والثالث : أن يصلح له في ذريته ، وهذه كمال السعادة البشرية { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي إِني يا رب تبت إليك من جميع الذنوب ، وإِني من المستمسكين بالإِسلام قال ابن كثير : وفي الآية إِرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدِّد التوبة والإِنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي أولئك الموصوفون بما ذكر نتقبل منهم طاعاتهم ونجازيهم على أعمالهم بأفضلها { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ } أي ونصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم ، في جملة أصحاب الجنة الذين نكرمهم بالعفو والغفران { وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } أي بذلك الوعد الصادق الذي وعدناهم به على ألسنة الرسل ، بأن نتقبل من محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم . . ولما مثَّل تعالى لحال الإِنسان البار بوالديه وما آل إِليه حاله من الخير والسعادة ، مثَّل لحال الإِنسان العاقِّ لوالديه وما يئول إِليه أمره من الشقاوة والتعاسة فقال { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } أي وأمَّا الولد الفاجر الذي يقول لوالديه إِذا دعواه إلى الإِيمان أفٍ لكما أي قبحاً لكما على هذه الدعوة { أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي } ؟ أي أتعدانني أن أُبعث بعد الموت وقد مضت قرونٌ من الناس قبلي ولم يُبعث منهم أحد ؟ { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ } أي وأبواه يسألان الله أن يغيثه ويهديه للإِسلام قائلين له : ويْلك آمنْ بالله وصدِّق بالبعث والنشور وإِلاَّ هلكت { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي وعدُ الله صدقٌ لا خُلف فيه { فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي فيقول ذلك الشقي : ما هذا الذي تقولان من أمر البعث إلاّ خرافات وأباطيل سطَّرها الألولون في الكتب مما لا أصل له قال تعالى { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي أولئك المجرمون هم الذين حقَّ عليهم قول الله بأنهم أهل النار قال القرطبي : أي وجب عليهم العذاب وهي كلمة الله كما في الحديث " هؤلاء في النار ولا أبالي " { فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } أي في جملة أمم من أصحاب النار قد مضت قبلهم من الكفرة الفجار من الجن والإِنس { إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } أي كانوا كافرين لذلك ضاع سعيهم وخسروا آخرتهم ، وهو تعليل لدخولهم جهنم قال الإِمام الفخر : قال بعضهم : إِن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق قبل إِسلامه ، والصحيحُ أنه لا يراد بالآية شخص معيَّن ، بل المراد منها كل من كان موصوفاً بهذه الصفة ، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحقِّ فأباه وأنكره ، ويدل عليه أن الله تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه { أُفٍّ لَّكُمَآ } بأنه من الذين حقَّ عليهم القول بالعذاب ، ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إِسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أي لكلٍ من المؤمنين والكافرين مراتب ومنازل بحسب أعمالهم ، فمراتب المؤمنين في الجنة عالية ، ومراتب الكافرين في جهنم سافلة { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي وليعطيهم جزاء أعمالهم وافيه كاملة ، المؤمنون بحسب الدرجات ، والكافرون بحسب الدركات ، من غير نقصان بالثواب ، ولا زيادة في العقاب .