Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 20-35)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى أحوال بعض الأشقياء ، أعقبه بذكر حال الكفار الفجار في الآخرة ، ثم ذكر قصة عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم مع ما كانوا عليه من القوة والشدة ، تذكيراً لكفار قريش بعاقبة التكذيب والطغيان ، وختم السورة الكريمة بقصة النفر من الجنِّ الذين آمنوا بالقرآن حين سمعوه ودعوا قومهم إِلى الإِيمان . اللغَة : { ٱلْهُونِ } الهوان والذل { ٱلأَحْقَافِ } الرمال العظيمة جمع حِقْف وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوجَّ ، والأحقاف ديار عاد { لِتَأْفِكَنَا } لتصرفنا وتزيلنا ، والإِفك : الكذب { عَارِضاً } سحاباً يعرض في الأفق { تُدَمِّرُ } تُهلك ، والتدميرُ الهلاك وكذلك الدَّمار { صَرَّفْنَا } بعثنا ووجهنا { يَعْيَ } يضعف ويعجز من الإِعياء وهو التعب والعجز . التفسِير : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } أي وذكّرهم يا محمد يوم يُكشف الغطاء عن نار جهنم ، وتبرز للكافرين فيقرَّبون منها وينظرون إِليها { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } في الكلام حذف أي ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً أذهبتم طيباتكم أي لقد نلتم وأصبتم لذائد الدنيا وشهواتها فلم يبق لكم نصيب اليوم في الآخرة قال في البحر : والطيبات هنا المستلذات من المآكل والمشارب ، والملابس والمفارش . والمراكب والمواطىء ، وغير ذلك مما يتنعَّم به أهل الرفاهية { وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } أي وتمتعتم بتلك اللذائذ والطيبات في الدنيا قال المفسرون : المراد بالآية إِنكم لم تؤمنوا حتى تنالوا نعيم الآخرة ، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها عن الإِيمان والطاعة ، وأفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي ، وآثرتم الفاني على الباقي ، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء من النعيم ، ولهذا قال بعده { فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } أي ففي هذا اليوم - يوم الجزاء - تنالون عذاب الذُلِّ والهَوان { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } أي بسبب استكباركم في الدنيا عن الإِيمان وعن الطاعة { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي وبسبب فسقكم وخروجكم عن طاعة الله ، وارتكاب الفجور والآثام قال الإِمام الفخر : وهذه الآية لا تدل على المنع من التنعم ، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر ، وإِنما وبَّخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والإِيمان به ، وأما المؤمن فإِنه يؤدي بإِيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ودليله { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ } [ الأعراف : 32 ] ! ! نعم لا يُنكر أن الاحتراز عن التنعم أولى ، وعليه يُحمل قول عمر " لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعاماً ، وأحسنكم لباساً ، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة " وقال في التسهيل : الآية في الكفار بدليل قوله تعالى { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وهي مع ذلك واعظةٌ لأهل التقوى من المؤمنين ، ولذلك قال عمر لجابر ابن عبد الله - وقد رآه اشترى لحماً - أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه ! أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ممن قال الله فيهم { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } ! ! { وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ } أي اذكر يا محمد لهؤلاء المشركين قصة نبي الله هود عليه السلام مع قومه عادٍ ليعتبروا بها { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ } أي حين حذَّر قومه من عذاب الله إِن لم يؤمنوا وهم مقيمون بالأحقاف - وهي تلالٌ عظيمة من الرمل في بلاد اليمن - قال ابن كثير : الأحقاف جمع حِقْف وهو الجبل من الرمل ، قال قتادة : كانوا حياً باليمن أهل رملٍ مشرفين على البحر بأرضٍ يُقال لها : الشَحْر { وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي وقد مضت الرسلُ بالإِنذار من قبل هودٍ ومن بعده ، والجملة اعتراضية وهي إِخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلاً متقدمين قبل هودٍ وبعده { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي حذَّرهم هود عليه السلام قائلا لهم : بأن لا تعبدوا إلا الله { إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي إِني أخاف عليكم إِن عبدتم غير الله عذاب يومٍ هائلٍ وهو يوم القيامة { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } أي قالوا جواباً لإِنذاره : أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا ؟ وهو استفهام ، يراد منه التسفيه والتجهيل لما دعاهم إليه { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أي فأتنا بالعذاب الذي وعدتنا به إِن كنت صادقاً فيما تقول قال ابن كثير : استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعاداً منهم لوقوعه { قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ } أي قال لهم هود : ليس علم وقت العذاب عندي إِنما علمه عند الله { وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ } أي وإِنما أنا مبلّغٌ ما أرسلني به الله إِليكم { وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } أي ولكنني أجدكم قوماً جهلة في سؤالكم استعجال العذاب { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي فلما رأوا السحاب معترضاً في أفق السماء متجهاً نحو أوديتهم استبشروا به { قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } أي وقالوا هذا السحاب يأتينا بالمطر قال المفسرون : كانت عاد قد أبطأ عنهم المطر ، وقُحطوا مدةً طويلةً من الزمن ، فلما رأوا ذلك السحاب العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به واستبشروا وقالوا : هذا عارضٌ ممطرنا { بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ } أي قال لهم هود : ليس الأمر كما زعمتم أنه مطر ، بل هو ما استعجلتم به من العذاب ثم فسَّره بقوله { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي هو ريحٌ عاصفة مدمّرة فيها عذابٌ فظيع مؤلم { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي تُخَرِّب وتُهلك كل شيء أتت عليه من رجالٍ ومواشٍ وأموال ، بأمره تعالى وإِذنه قال ابن عباس : أول ما جاءت الريح على قوم عاد ، كانت تأتي على الرجال والمواشي فترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء حتى يصبح الواحد منهم كالريشة ، ثم تضربهم على الأرض ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، فهي التي قال الله فيها { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي تدمّر كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها ، والتدميرُ الهلاك ، وفي الحديث عن عائشة قالت : " كان صلى الله عليه وسلم إِذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه ، فقلت يا رسول الله : الناسُ إِذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إِذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية ؟ فقال يا عائشة : ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، عُذّب قوم بالريح " ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } { فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } أي فأصبحوا هلكى لا تُرى إِلا مساكنهم ، لأن الريح لم تبق منهم إِلا الآثار والديار خاوية { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي بمثل هذه العقوبة الشديدة نعاقب من كان عاصياً مجرماً قال الرازي : والمقصود منه تخويف أهل مكة ، ولهذا قال بعده { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } " إِنْ " نافية بمعنى " ما " أي ولقد مكَّنا عاداً في الذي لم نمكنكم فيه يأ أهل مكة من القوة ، والسَّعة ، وطول الأعمار ، وهو خطاب لكفار مكة على وجه التهديد { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } أي وأعطيناهم الأسماع والأبصار والقلوب ، ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على الخالق المنعم { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ } أي فما نفعتهم تلك الحواس أي نفع ، ولا دفعت عنهم شيئاً من عذاب الله قال الإِمام الفخر : المعنى أنّا فتحنا عليهم أبواب النعم : أعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل ، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبَر ، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله ، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدينا ولذاتها ، فلا جرم أنها لم تغن عنهم من عذاب الله شيئاً { إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } تعليلٌ لما سبق أي لأنهم كانوا يكفرون وينكرون آيات الله المنزَّلة على رسله ويكذبون رسله { وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلون به بطريق الاستهزاء { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ } تخويفٌ آخر لكفار مكة أي ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم يا أهل مكة والمحيطة بكم ، كقرى عاد وثمود وسبأ وقوم لوط ، والمراد بإِهلاك القرى إِهلاكُ أهلها { وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي وكررنا الحجج والدلالات ، والمواعظ والبينات ، أوضحناها وبيَّناها لهم لعلهم يرجعون عن كفرهم وضلالهم { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ } أي فهلاَّ نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها إلى الله بزعمهم ، وجعلوها شفعاءهم لتدفع عنهم العذاب ؟ ! و " لولا " تحضيضية بمعنى هلاَّ ومعناها النفي أي لم تنصرهم آلهتهم ولم تدفع عنهم عذاب الله { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } أي غابوا عن نصرتهم وهم أحوج ما يكونون إليهم ، فإِن الصديق وقت الضيق قال أبو السعود : وفي الآية تهكمٌ بهم كأنَّ عدم نصرهم كان لغيبتهم { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي وذلك الذي أصابهم هو كذبهم وافتراؤهم على الله ، حيث زعموا أن الأصنام شركاء الله وشفعاء لهم عند الله { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ } أي واذكر يا محمد حين وجهنا إِليك وبعثنا جماعةً من الجن ليستمعوا القرآن قال البيضاوي : والنفر دون العشرة ، روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده القرآن { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ } أي فلما حضروا القرآن عند تلاوته قال بعضهم لبعضٍ : اسكتوا لاستماع القرآن قال القرطبي : هذا توبيخٌ لمشركي قريش ، أي إِن الجنَّ سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله ، وأنتم معرضون مصرّون على الكفر { فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } أي فلما فُرغَ من قراءة القرآن رجعوا إِلى قومهم مخوفين لهم من عذاب الله إِن لم يؤمنوا قال الرازي : وذلك لا يكون إِلا بعد إِيمانهم ، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلاّ وقد آمنوا { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } أي سمعنا كتاباً رائعاً مجيداً منزَّلاً على رسولٍ من بعد موسى قال ابن عباس : إِن الجنَّ لم تكن قد سمعت بأمر عيسى عليه السلام { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي مصدِّقاً لما قبله من التوراة { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي هذا القرآن يرشد إِلى الحقِّ المبين ، وإِلى دين الله القويم { يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ } أي أجيبوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإِيمان وصدِّقوا برسالته { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي يمحو الله عنكم الذنوب والآثام { وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي ويخلِصْكم وينجكم من عذاب شديد مؤلمٍ { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ } هذا ترهيبٌ بعد الترغيب أي ومن لم يؤمن بالله ويستجب لدعوة رسوله ، فإِنه لا يفوت الله طلباً ، ولا يعجزه هرباً { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ } أي وليس له أنصار يمنعونه من عذاب الله { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي أولئك الذين لا يستجيبون لدعوة الله في خسرانٍ واضح ، وإِلى هنا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن ، ثم ذكر تعالى الأدلة على قدرته ووحدانيته فقال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } أي أولم يعلم هؤلاء الكفار المنكرون للبعث والنشور أن الله العظيم القدير الذي خلق السماواتِ والأرض ابتداءً من غير مثال سابق { وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } أي ولم يضعف ولم يتعب بخلقهنَّ { بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } ؟ أي قادرٌ على أن يعيد الموتى بعد الفناء ، ويحييهم بعد تمزق الأشلاء ؟ { بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي بلى إِنه تعالى قادر لا يعجزه شيء ، فكما خلقهم يعيدهم { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ } أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الأهوال والشدائد التي يرونها في الآخرة ، وذكّرهم يوم يُعرضون على النار فيقال لهم { أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ } ؟ أي أليس هذا العذاب الذي تذوقونه حقٌّ ؟ { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } [ الطور : 15 ] { قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا } أي قالوا بلى وعزة ربنا ، أكَّدوا كلامهم بالقسم طمعاً في الخلاص قال الفخر الرازي : والمقصود بالآية التهكمُ بهم ، والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 138 ] { قَالَ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي فيقال لهم : ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين كما صبر مشاهير الرسل الكرام وهم " نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى " { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي ولا تدع على كفار قريش بتعجيل العذاب فإِنه نازل بهم لا محالة { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } أي كأنهم حين يعاينون العذاب في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعةً واحدة من النهار ، لما يشاهدون من شدة العذاب وطوله { بَلاَغٌ } أي هذا بلاغ وإِنذار { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ } أي لا يكون الهلاك والدمار إِلا للكافرين الخارجين عن طاعة الله . تنبيه : قال المفسرون : " إن الجنَّ كانوا يسترقون السمع ، فلما حُرست السماء بالشهب ، قال إبليس : إِن هذا الذي حدث بالسماء من أمر حدث في الأرض ، فبعث سراياه ليعرف الخبر ، فذهب ركبٌ من نصيبين - وهم أشراف الجن - إلى تهامة ، فلما بلغوا باطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويتلو القرآن ، فاستمعوا له وقالوا : أنصتوا ثم لما انتهى صلى الله عليه وسلم من القراءة آمنوا ثم رجعوا إِلى قومهم منذرين فدعوهم إِلى الإِيمان ، وجاءوا بعد ذلك جماعات جماعات إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك سبب قوله تعالى { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ } . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - التعجيز { ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ } [ الأحقاف : 4 ] أمرٌ يراد منه التعجيز . 2 - جناس الاشتقاق { يَدْعُواْ … وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ } ومثله { وَشَهِدَ شَاهِدٌ } [ الأحقاف : 10 ] . 3 - الطباق بين { آمَنَ … وَكَفَرْتُمْ } وبين { يُنذِرَ … وَبُشْرَىٰ } . 4 - ذكر الخاص بعد العام { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ } [ الأحقاف : 15 ] ثم قال { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } [ الأحقاف : 15 ] فذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية والاهتمام بشأن الأم لحقها العظيم . 5 - الطباق بين { حَمَلَتْهُ … وَوَضَعَتْهُ } . 6 - صيغة الحصر { مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ الأحقاف : 17 ] . 7 - الاستعارة { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [ الأحقاف : 19 ] استعار الدرجات للمراتب ، للسعداء والأشقياء . 8 - الإِيجاز بالحذف مع التوبيخ والتقريع { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } أي يقال لهم أذهبتم . 9 - الإِطناب بتكرار اللفظ { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } ثم قال { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ } لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم . 10 - توافق الفواصل مما يزيد في جمال الكلام وحسن تناسقه وهو من المحسنات البديعية مثل { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الجاثية : 33 ] { وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } الخ .