Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 18-29)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لمَّا ذكر تعالى حال المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر تعالى حال المؤمنين المجاهدين الذين بايعوا الرسول " بيعة الرضوان " تسجيلاً لرضى الله تعالى عنهم ، وتخليداً لمآثرهم الكريمة ، وختم السورة الكريمة بالثناء على الصحابة الأبرار ، بأبلغ ثناء وأكرم تمجيد . اللغَة : { أَظْفَرَكُمْ } أظهركم وأعلاكم ، ظفر بالشيء غلب عليه ، وأظفره غلبه { مَعْكُوفاً } محبوساً ومنه الاعتكاف { مَّعَرَّةٌ } المعرَّة : العيب والمشقة اللاصقة بالإِنسان من العُرِّ وهو الجرب { تَزَيَّلُواْ } تميَّزوا { ٱلْحَمِيَّةَ } الأنفة والغضب الشديد { سِيمَاهُمْ } علامتهم { شَطْأَهُ } الشطء : الفراخ قال الجوهري : شطءُ الزرع والنبات فراخُه والجمع أشطاء { آزَرَهُ } قوَّاه وأعانه وشدَّه . سَبَبُ النّزول : عن أنس رضي الله عنه أن ثمانين من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من التنعيم متسلحين يريدون الغدر به وبأصحابه فأخذناهم أسرى فأنزل الله تعالى { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ … } الآية . التفسِير : { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد رضي الله عن المؤمنين حين بايعوك يا محمد " بيعة الرضوان " تحت ظل الشجرة بالحديبية قال المفسرون : كان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحديبية أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة يخبرهم أنه إِنما جاء معتمراً ، وأنه لا يريد حرباً ، فلما ذهب عثمان حبسوه عندهم ، وجاء الخبر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إِلى البيعة على أن يدخلوا مكة حرباً ، وبايعوه على الموت ، فكانت بيعة الرضوان ، فلما بلغ المشركين ذلك أخذهم الرعب وأطلقوا عثمان وطلبوا الصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يأتي في العام القابل ، ويدخلها ويقيم فيها ثلاثة أيام ، وكانت هذه البيعة تحت شجرة سمرة بالحديبية وقد سميت " بيعة الرضوان " ولما رجع المسلمون يعلوهم الحزنُ والكآبة ، أراد الله تسليتهم وإِذهاب الحزن عنهم فأنزل هذه السورة على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من الحديبية { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] وكان عدد الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاً وأربعمائة رجل ، وفيهم نزلت الآية الكريمة { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } ولم يتخلف عن البيعة إلا " الجد ابن قيس " من المنافقين ، وحضر هذه البيعة روح القدس جبريل الأمين ، ولهذا سُطرت في الكتاب المبين { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي فعلم تعالى ما في قلوبهم من الصدق والوفاء ، عند مبايعتهم لك على حرب الأعداء { فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } أي رزقهم الطمأنينة وسكون النفس عند البيعة { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } أي وجازاهم على بيعة الرضوان بفتح خيبر ، وما فيها من النصر والغنائم ، زيادةً على ثواب الآخرة { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } أي وجعل لهم الغنائم الكثيرة التي غنموها من خيبر قال ابن كثير : هو ما أجرى الله عز وجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير العامِّ بفتح خبير ، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم ، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى { وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي غالباً على أمره ، حكيماً في تدبيره وصنعه ، ولهذا نصركم عليهم وغنَّمكم أرضهم وديارهم وأموالهم { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } أي وعدكم الله معشر المؤمنين - على جهادكم وصبركم - الفتوحات الكثيرة ، والغنائم الوفيرة تأخذونها من أعدائكم ، قال ابن عباس : هي المغانم التي تكون إِلى يوم القيامة قال في البحر : ولقد اتَّسع نطاق الإِسلام ، وفتح المسلمون فتوحاً لا تُحصى ، وغنموا مغانم لا تُعدُّ وذلك في شرق البلاد وغربها ، حتى في الهند والسودان - تصديقاً لوعده تعالى - وقدم علينا أحد ملوك غانة من بلاد التكرور ، وقد فتح أكثر من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان ، وأسلموا معه وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } أي فعجَّل لكم غنائم خيبر بدون جهد وقتال { وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ } أي ومنع أيدي الناس أن تمتد إِليكم بسوء قال المفسرون : المراد أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان ، حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرغب { وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي ولتكون الغنائم ، وفتح مكة ، ودخول المسجد الحرام علامة واضحة تعرفون بها صدق الرسول فيما أخبركم به عن الله { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي ويهديكم تعالى إِلى الطريق القويم ، الموصل إِلى جنات النعيم بجهادكم وإِخلاصكم قال الإِمام الفخر : والآية للإِشارة إِلى أنَّ ما أعطاهم من الفتح والمغانم ، ليس هو كل الثواب ، بل الجزاء أمامهم ، وإِنما هي شيء عاجل عجَّله لهم لينتفعوا به ، ولتكون آية لمن بعدهم من المؤمنين ، تدل على صدق وعد الله في وصول ما وعدهم به كما وصل إِليكم { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } أي وغنيمةً أخرى يسَّرها لكم ، لم تكونوا بقدرتكم تستطيعون عليها ، ولكنَّ الله بفضله وكرمه فتحها لكم ، والمراد بها فتح مكة { قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا } أي قد استولى الله عليها بقدرته ووهبها لكم ، فهي كالشيء المحاط به من جوانبه محبوسٌ لكم لا يفوتكم { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } أي قادراً على كل شيء ، لا يعجزه شيء أبداً ، فهو القادر على نصرة أوليائه ، وهزم أعدائه قال ابن كثير : المعنى أي وغنيمةً أخرى وفتحاً آخر معيناً ، لم تكونوا تقدرون عليها ، قد يسَّرها الله عليكم وأحاط بها لكم ، فإِنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون والمرادُ بها في هذه الآية " فتح مكة " وهو اختيار الطبري { وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ } تذكيرٌ لهم بنعمةٍ أخرى أي ولو قاتلكم أهل مكة ولم يقع الصلح بينكم وبينهم ، لغلبوا وانهزموا أمامكم ولم يثبتوا { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي ثم لا يجدون من يتولّى أمرهم بالحفظ والرعاية ، ولا من ينصرهم من عذاب الله { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ } أي تلك طريقة الله وعادتُه التي سنَّها فيمن مضى من الأمم ، من هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين قال في البحر : أي سنَّ الله لأنبيائه ورسله سنة قديمة وهي قوله { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } [ المجادلة : 21 ] { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } أي وسنته تعالى لا تتبدَّل ولا تتغيَّر { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } أي وهو تعالى بقدرته وتدبيره صرف أيدي كفار مكة عنكم كما صرف عنهم أيديكم بالحديبية التي هي قريبة من البلد الحرام قال ابن كثير : هذا امتنانٌ من الله تعالى على عباده المؤمنين ، حين كفَّ أيدي المشركين عنهم ، فلم يصل إِليهم منهم سوء ، وكفَّ أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام ، بل صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً ، فيه خيرة للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي من بعد ما أخذتموهم أسارى وتمكنتم منهم قال الجلال : وذلك أن ثمانين من المشركين طافوا بعسكر المؤمنين ليصيبوا منهم ، فأُخذوا وأُتي بهم إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم ، فكان ذلك سبب الصلح وقال في التسهيل : وروي في سببها أن جماعةً من فتيان قريش خرجوا إِلى الحديبية ، ليصيبوا من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث إِليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في جماعةٍ من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم قوماً ، وساقوهم إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم ، فكفُّ أيدي الكفار هو هزيمتهم وأسرهم ، وكفُّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إِطلاقهم من الأسر وسلامتهم من القتل { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } أي هو تعالى بصير بأعمالكم وأحوالكم ، يعلم ما فيه مصلحة لكم ، ولذلك حجزكم عن الكافرين رحمةً بكم ، وحرمةً لبيته العتيق لئلا تسفك فيه الدماء … ثم ذكر تعالى استحقاق المشركين للعذاب والدمار فقال { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي هم كفار قريش المعتدون الذين كفروا بالله والرسول ، ومنعوا المؤمنين عن دخول المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة عام الحديبية { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أي وصدُّوا الهدي أيضاً - وهو ما يُهدى لبيت الله لفقراء الحرم - معكوفاً أي محبوساً عن أن يبلغ مكانه الذي يذبح فيه وهو الحرم قال القرطبي : يعني قريشاً منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام عام الحديبية ، حين أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بالعمرة ، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله ، وهذا كانوا لا يعتقدونه ، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم الحمية الجاهلية على أن يفعلوا ما لا يعتقدونه ديناً ، فوبخهم الله على ذلك وتوعَّدهم عليه ، وأدخل الأنس على رسول الله ببيانه ووعده { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } أي ولولا أن في مكة رجالاً ونساءً من المؤمنين المستضعفين ، الذين يخفون إِيمانهم خوفاً من المشركين { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } أي لا تعرفونهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين { أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي كراهة أن توقعوا بهم وتقتلوا منهم دون علم منكم بإِيمانهم ، فينالكم بقتلهم إِثم وعيب وجواب " لولا " محذوفٌ تقديره : لأذن لكم في دخول مكة ، ولسلَّطكم على المشركين قال الصاوي : والجواب محذوف قدَّره الجلال بقوله : لأذِنَ لكم في الفتح ، ومعنى الآية : لولا كراهة أن تُهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكفار ، حال كونكم جاهلين بهم فيصيبكم بإِهلاكهم مكروه لما كفَّ أيديكم عنهم ، ولأذن لكم في فتح مكة { لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي إِنما فعل ذلك ليخلّص المؤمنين من بين أظهر المشركين ، وليرجع كثيرٌ منهم إِلى الإِسلام قال القرطبي : أي لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ، ليُسلم بعد الصلح من قضى أن يُسلم من أهل مكة ، وكذلك كان ، أسلم الكثير منهم وحسن إِسلامُه ، ودخلوا في رحمته وجنته { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي لو تفرقوا وتميَّز بعضهم عن بعض ، وانفصل المؤمنون عن الكفار ، لعذبنا الكافرين منهم أشدَّ العذاب ، بالقتل والسبي والتشريد من الأوطان { إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ } أي حين دخل إِلى قلوب الكفار الأنفة والكبرياء بالباطل ، فرفضوا أن يكتبوا في كتاب الصلح " بسم الله الرحمن الرحيم " ورفضوا أن يكتبوا " محمد رسولُ الله " وقولهم : لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكنْ اكتبْ اسمك واسم أبيك { حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } أي أنفةً وغطرسةً وعصبيةً جاهلية { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي جعل الطمأنينة والوقار في قلب الرسول والمؤمنين ، ولم تلحقهم العصبية الجاهلية كما لحقت المشركين { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } أي اختار لهم كلمة التقوى - إِلزام تكريم وتشريف - وهي كلمة التوحيد " لا إِله إِلا الله " هذا قول الجمهور ، والظاهر : أن المراد بكلمة التقوى هي إِخلاصهم وطاعتهم لله ورسوله ، وعدم شقّ عصا الطاعة عندما كُتبت بنود الصلح ، وكانت مجحفةً بحقوق المسلمين في الظاهر ، فثبَّت الله المؤمنين على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في هذا الصلح كل الخير للمسلمين { وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أي وكانوا أحقَّ بهذه الفضيلة من كفار مكة ، لأن الله اختارهم لدينه وصحبة نبيه { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي عالما بمن هو أهل للفضل ، فيخصه بمزيد من الخير والتكريم . . ثم أخبر تعالى عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام - وهي رؤيا حق - لأنها جزء من الوحي فقال { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } اللام موطئة للقسم ، و " قد " للتحقيق أي والله لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة محققة لم يدخلها الشيطان لأنها رؤيا حق قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه أنه دخل مكة هو وأصحابه وطافوا بالبيت ، ثم حلق بعضهم وقصَّر بعضهم ، فحدَّث بها أصحابه ففرحوا واستبشروا ، فلما خرج إِلى الحديبية مع الصحابة ، وصدَّه المشركون عن دخول مكة ، ووقع ما وقع من قضية الصلح ، ارتاب المنافقون وقالوا : واللهِ ما حلقنا ولا قصَّرنا ولا رأينا البيت ، فأين هي الرؤيا ؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء فنزلت الآية { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } فأعلم تعالى أن رؤيا رسوله حقٌّ ، وأنه لم يكذب فيما رأى ، ولكنه ليس في الرؤيا أنه يدخلها عام ستٍ من الهجرة ، وإِنما أراه مجرد صورة الدخول ، وقد حقق الله له ذلك بعد عام فذلك قوله تعالى { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ } أي لتدخلن يا محمد أنت وأصحابك المسجد الحرام بمشيئة الله { آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي تدخلونها آمنين من العدو ، تؤدون مناسك العمرة ثم يحلق بعضكم رأسه ، ويقصِّر بعض { لاَ تَخَافُونَ } أي غير خائفين ، وليس فيه تكرارٌ لان المراد آمنين وقت دخولكم ، وحال المكث ، وحال الخروج { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } أي فعلم تعالى ما في الصلح من الحكمة والخير والمصلحة لكم ما لم تعلموه أنتم قال ابن جزي : يريد ما قدَّره تعالى من ظهور الإِسلام في تلك المدة ، فإِنه لما انعقد الصلح وارتفعت الحرب ، رغب الناس في الإِسلام ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية في ألف وأربعمائة ، وغزا " غزوة الفتح " بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } أي فجعل قبل ذلك فتحاً عاجلاً لكم وهو " صلح الحديبية " وسُمي فتحاً لما ترتَّب عليه من الآثار الجليلة ، والعواقب الحميدة ، ولهذا روى البخاري " عن البراء رضي الله عنه : " تعدُّون أنتم الفتح " فتح مكة " وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعدُّ الفتح " بيعة الرضوان " يوم الحديبية … " الحديث { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ } أي هو جلَّ وعلا الذي أرسل محمداً بالهداية التامة الشاملة الكاملة ، والدين الحق المستقيم دين الإِسلام { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } أي ليعليه على جميع الأديان ، ويرفعه على سائر الشرائع السماوية { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي وكفى بالله شاهداً على أن محمداً رسوله . . ثم أثنى تعالى على أصحاب رسول الله بالثناء العاطر ، وشهد لرسوله بصدق الرسالة فقال { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } أي هذا الرسول المسمَّى محمداً هو رسولُ الله حقاً لا كما يقول المشركون { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } أي وأصحابه الأبرار الأخيار غلاظٌ على الكفار متراحمون فيما بينهم كقوله تعالى { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] قال أبو السعود : أي يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة ، ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة قال المفسرون : وذلك لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] وقد بلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمسَّ أبدانهم ، وكان الواحد منهم إِذا رأى أخاه في الدين صافحه وعانقه { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } أي تراهم أيها السامع راكعين ساجدين من كثرة صلاتهم وعبادتهم ، رهبانٌ بالليل أسودٌ بالنهار { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } أي يطلبون بعبادتهم رحمة الله ورضوانه قال ابن كثير : وصفهم بكثرة الصلاة وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإِخلاص لله عز وجل والاحتساب عنده بجزيل الثواب ، وهو الجنة المشتملة على فضل الله ورضاه { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } أي علامتهم وسمتُهم كائنة في جباههم من كثرة السجود والصلاة قال القرطبي : لاحت في وجوههم علامات التهجد بالليل وأمارات السهر ، قال ابن جريج : هو الوقار والبهاء ، وقال مجاهد : هو الخشوع والتواضع ، قال منصور سألت مجاهداً عن قوله تعالى { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } أهو أثرٌ يكون بين عيني الرجل ؟ قال : لا ، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلباً من الحجارة ، ولكنه نورٌ في وجوههم من الخشوع { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } أي ذلك وصفهم في التوراة : الشدة على الكفار ، والرحمة بالمؤمنين ، وكثرة الصلاة والسجود { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي ومثلهم في الإِنجيل كزرعٍ أخرج فراخه وفروعه { فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ } أي فقوَّاه حتى صار غليظاً { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } أي فقام الزرع واستقام على أصوله { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } أي يعجب هذا الزرع الزراع ، بقوته وكثافته وحسن منظره ، ليغتاظ بهم الكفار قال الضحّاك : هذا مثل في غاية البيان ، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والشطءُ أصحابُه ، كانوا قليلاً فكثروا ، وضعفاء فقووا ، وقال القرطبي : وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعوة ضعيفاً ، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالاً بعد حال حتى يغلظ نباته ، وأفراخه ، فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } أي وعدهم تعالى بالآخرة بالمغفرة التامة والأجر العظيم والرزق الكريم في جنات النعيم ، اللهم ارزقنا محبتهم يا رب العالمين . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { مَا تَقَدَّمَ … وَمَا تَأَخَّرَ } وبين { وَمُبَشِّراً … وَنَذِيراً } وبين { بُكْرَةً … وَأَصِيلاً } وبين { نَّكَثَ … و أَوْفَىٰ } وبين { أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } [ الفتح : 11 ] وبين { يَغْفِرُ … وَيُعَذِّبُ } وبين { مُحَلِّقِينَ … وَمُقَصِّرِينَ } وبين { أَشِدَّآءُ … و رُحَمَآءُ } . 2 - المقابلة بين { لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ … } [ الفتح : 5 ] الآية وبين { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ } [ الفتح : 6 ] الآية . 3 - الاستعارة التصريحية المكنية { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] شبَّه المعاهدة على التضحية بالأنفس في سبيل الله طلباً لمرضاته بدفع السِّلع في نظير الأموال ، واستعير اسم المشبَّه به للمشبه واشتق من البيع يبايعون بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل الله ، والمكنية في قوله { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } شبَّه اطلاع الله على مبايعتهم ومجازاته على طاعتهم بملكٍ وضع يده على يد أميره ورعيته ، وطوى ذكر المشبَّه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو اليد على طريق الاستعارة المكنية ، ففي الآية استعارتان . 4 - الكناية { لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ } كناية عن الهزيمة لأن المنهزم يدير ظهره لعدوه للهرب . 5 - التعبير بصيغة المضارع لاستحضار صورة المبايعة { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ … } . 6 - الالتفات من ضمير الغائب إِلى الخطاب { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ } بعد قوله تعالى { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } وذلك لتشريف المؤمنين في مقام الامتنان . 7 - الإِطناب بتكرار الحرج { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } [ الفتح : 17 ] لتأكيد نفي الإِثم عن أصحاب الأعذار . 8 - التشبيه التمثيلي { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ … } الآية لأن وجه الشبه منتزعٌ من متعدد . 9 - مراعاة الفواصل في نهاية الآيات وهو من المحسنات البديعية .