Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 13-18)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لمَّا دعا تعالى إِلى مكارم الأخلاق ونهى عن مساوئها ، وحذَّر المؤمنين من بعض الأفعال القبيحة ، دعا الناس هنا جميعاً للتعارف والتآلف ونهاهم عن التفاخر بالأنساب ، ثم بيَّن صفات المؤمن الكامل . اللغَة : { يَلِتْكُمْ } ينقصكم { قَبَآئِلَ } جمع قبيلة وهي الجماعة التي يربطها حسبٌ أو نسبٌ ، وهي أخصُّ من الشعب ، لأن الشعب الجمع العظيم المنتسبون إِلى أصل واحد ، فالشعب يجمع القبيلة ، والقبيلة تجمع البطون والأفخاذ { يَرْتَابُواْ } يشكُّوا والريب : الشكُ { يَمُنُّونَ } المنُّ : الامتنان على الشخص والاعتداد عليه بفعل المعروف ، وأصله في اللغة القطع ومنه { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ التين : 6 ] . سَبَبُ النّزول : عن ابن عباس قال : جاءت بنو أسدٍ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله : أسلمنا ، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك ، وأخذوا يمنون عليه فنزلت الآية الكريمة { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ … } الآية . التفسِير : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } الخطاب لجميع البشر أي نحن بقدرتنا خلقناكم من أصلٍ واحد ، وأوجدناكم من أب وأم فلا تفاخر بالآباء والأجداد ، ولا اعتداد بالحسب والنسب ، كلكم لآدم وآدمُ من تراب { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ } أي وجعلناكم شعوباً شتى وقبائل متعددة ، ليحصل بينكم التعارف والتآلف ، لا التناحر والتخالف قال مجاهد : ليعرف الإِنسان نسبه فيقال فلان بن فلان من قبيلة كذا ، وأصل تعارفوا تتعارفوا حذفت إِحدى التاءين تخفيفاً قال شيخ زاده : والمعنى إِن الحكمة التي من أجلها جعلكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ولا ينسبه إِلى غير آبائه ، لا أن تتفاخر بالآباء والأجداد ، والنسبُ وِإِن كان يُعتبر عرفاً وشرعاً ، حتى لا تُزوج الشريفة بالنبطيّ ، إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدراً منه وأعز ، وهو الإِيمان والتقوى ، كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أي إِنما يتفاضل الناس بالتقوى لا بالأحساب والأنساب ، فمن أراد شرفاً في الدنيا ومنزلةً في الآخرة فليتق الله كما قال صلى الله عليه وسلم : " من سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتَّق الله " وفي الحديث " الناسُ رجلان : رجل برٌّ تقيٍ كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر شقي هيّن على الله تعالى " { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي عليمٌ بالعباد ، مطلع على ظواهرهم وبواطنهم ، يعلم التقي والشقي ، والصالح والطالح { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [ النجم : 32 ] . { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } أي زعم الأعراب أنهم آمنوا قل لهم يا محمد : إِنكم لم تؤمنوا بعد ، لأن الإِيمان تصديقٌ مع ثقة واطمئنان قلب ، ولم يحصل لكم ، وإِلا لما مننتم على الرسول بالإِسلام وترك المقاتلة ، ولكنْ قولوا استسلمنا خوف القتل والسبي قال المفسرون : نزلت في نفرٍ من بني أسد ، قدموا المدينة في سنةٍ مجدبة ، وأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وفلان ، يريدون الصَّدقة ويمنّون على الرسول ، وقد دلت الآية على أن الإِيمان مرتبةٌ أعلى من الإِسلام ، الذي هو الاستسلام والانقياد بالظاهر ولهذا قال تعالى { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي ولم يدخل الإِيمان إِلى قلوبكم ولم تصلوا إِلى حقيقته بعد ، ولفظةُ " لمَّا " تفيد التوقع كأنه يقول : وسيحصل لكم الإِيمان عند اطلاعكم على محاسن الإِسلام ، وتذوقكم لحلاوة الإِيمان قال ابن كثير : وهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا منافقين ، وإِنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان في قلوبهم ، فادَّعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إِليه فأدبوا في ذلك ، ولو كانوامنافقين - كما ذهب إِليه البخاري - لعُنفوا وفُضِحوا { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } أي وإِن أطعتم الله ورسوله بالإِخلاص الصادق ، والإِيمان الكامل ، وعدم المنِّ على الرسول لا ينقصكم من أجوركم شيئاً { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم المغفرة ، واسع الرحمة ، لأن صيغة " فعول " و " فعيل " تفيد المبالغة . . ثم ذكر تعالى صفات المؤمنين الكُمَّل الصادقين في إِيمانهم فقال { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي إِنما المؤمنون الصادقون في دعوى الإِيمان ، الذين صدَّقوا الله ورسوله ، فأقروا لله بالوحدانية ، ولرسوله بالرسالة ، عن يقين راسخ وإِيمان كامل { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أي ثم لم يشكوا ويتزلزلوا في إِيمانهم بل ثبتوا على التصديق واليقين { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي وبذلوا أموالهم ومهجهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أي أولئك الذين صدقوا في ادعاء الإِيمان … وصف تعالى المؤمنين الكاملين بثلاثة أوصاف : الأول : التصديق الجازم بالله ورسوله الثاني : عدم الشك والارتياب الثالث : الجهاد بالمال والنفس ، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المؤمن الصادق { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ } الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي قل يا محمد : أتخبرون الله بما في ضمائركم وقلوبكم ؟ { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي وهو جل وعلا العليم بأحوال جميع العباد ، لا تخفى عليه خافية لا في السماوات ولا في الأرض { وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي واسع العلم رقيب على كل شيء ، لا يعزب عنه مثقال ذرة ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } أي يعدُّون إِسلامهم عليك يا محمد منَّة ، يستوجبون عليها الحمد والثناء { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } أي قل لهم لا تمتنوا عليَّ بإِسلامكم ، فإِن نفع ذلك عائد عليكم { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي بل للهِ المنةُ العظمى عليكم ، بالهداية للإِيمان والتثبيت عليه ، إن كنتم صادقين في دعوى الإِيمان { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي يعلم ما غاب عن الأبصار في السماوات والأرض { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي مطَّلع على أعمال العباد ، لا تخفى عليه خافية . . كرَّر تعالى الإِخبار بعلمه بجميع الكائنات ، وإِحاطته بجميع المخلوقات ، ليدل على سعة علمه ، وشموله لكل صغيرة وكبيرة ، في السر والعلن ، والظاهر والباطن . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الاستعارة التمثيلية { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الحجرات : 1 ] شبَّه حالهم في إِبداء الرأي وقطع الأمر في حضرة الرسول بحال ملكٍ عظيم تقدَّم للسير أمامه بعض الناس وكان الأدب يقضي أن يسيروا خلفه لا أمامه ، وهذا بطريق الاستعارة التمثيلية . 2 - التشبيه المرسل المجمل { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } [ الحجرات : 2 ] لوجود أداة التشبيه . 3 - الالتفات من الخطاب إِلى الغيبة { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } بعد قوله { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ } [ الحجرات : 7 ] وهذا من المحسنات البديعية . 4 - المقابلة بين { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 7 ] وبين { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } [ الحجرات : 7 ] . 5 - الطباق { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } [ الحجرات : 9 ] . 6 - جناس الاشتقاق { وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] . 7 - التشبيه التمثيلي { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } [ الحجرات : 12 ] مثَّل للغيبة بمن يأكل لحم الميت ، وفيه مبالغات عديدة لتصوير الاغتياب بأقبح الصور وأفحشها في الذهن . 8 - طباق السلب { آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } . 9 - الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ { أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ } . 10 - التشبيه البليغ { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] أصل الكلام المؤمنون كالإِخوة في وجوب التراحم والتناصر ، فحذف وجه الشبه وأداة التشبيه فأصبح بليغاً مع إفادة الجملة الحصر . تنبيه : سورة الحجرات تسمى سورة " الأخلاق والآداب " فقد أرشدت إِلى مكارم الأخلاق ، وفضائل الأعمال ، وجاء فيها النداء بوصف الإِيمان خمس مراتٍ ، وفي كل مرة إِرشاد إِلى مكرمة من المكارم وفضيلة من الفضائل ، وهذه الآداب الرفيعة نستعرضها في فقرات : أولاً : وجوب الطاعة والانقياد لأوامر الله ورسوله وعدم التقدم عليه بقول أو رأي { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الحجرات : 1 ] . ثانياً : احترام الرسول وتعظيم شأنه { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ … } [ الحجرات : 2 ] . ثالثاً : وجوب التثبت من الأخبار { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ … } [ الحجرات : 6 ] . رابعاً : النهي عن السخرية بالناس { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ … } [ الحجرات : 11 ] . خامساً : النهي عن التجسس والغيبة وسوء الظن { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ … } [ الحجرات : 12 ] الآية . لطيفَة : سئل بعض العلماء عما وقع بين الصحابة من قتال فقال " تلك دماءٌ قد طهَّر الله منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا ، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإِخوته " .