Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 23-45)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لمّا حكى تعالى في الآيات السابقة إِنكار المشركين للبعث ، وأقام الأدلة والبراهين على البعث والنشور ، ذكر هنا الأهوال والشدائد التي يلقاها الكافر في الآخرة ، والنعيم الذي أعدَّه للمؤمنين الأبرار في الجنة ، وختم السورة الكريمة ببيان دلائل البعث وأحواله وأطواره . اللغَة : { وَأُزْلِفَتِ } قُربت يقال : زلف يزلف أي قرب ، وأزلفه قرَّبه { أَوَّابٍ } رجَّاع إِلى الله من آب يئوب أوباً إِذا رجع { بَطْشاً } البطش : الأخذ بالشدة والعنف { نَقَّبُواْ } طوَّفوا وساروا وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه قال الشاعر : @ نقَّبوا في البلاد من حذر الموت وجالوا في الأرض كلَّ مجال @@ { مَّحِيصٍ } مفر ومهرب من حاص يحيص حيصاً إِذا أراد الهرب { لُّغُوبٍ } تعب . سَبَبُ النّزول : عن قتادة أن اليهود قالوا إِن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة ، وأنه تعب فاستراح يوم السبت وسمَّوه يوم الراحة فكذبهم تعالى فيما قالوا فنزلت { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } . التفسِير : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي وقال الملك الموكل به ، هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرتُ ديوان عمله { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } أي يقول تعالى للملكين " السائق والشهيد " إقذفا في جهنم كلَّ كافر معاند للحقِّ لا يؤمن بيوم الحساب { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي مبالغ في المنع لكل حقٍّ واجب عليه في ماله { مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } أي ظالم غاشم شاكٍ في الدين { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } أي أشرك بالله ولم يؤمن بوحدانيته { فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } أي فألقياه في نار جهنم ، وكرر اللفظ { فَأَلْقِيَاهُ } للتوكيد { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } أي قال قرينه وهو الشيطان المقيَّض له ربنا ما أضللتُه { وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي ولكنَّه ضلَّ باختياره ، وآثر العمى على الهدى من غير إِكراهٍ أو إجبار ، وفي الآية محذوفٌ دل عليه السياق كأن الكافر قال يا رب إِن شيطاني هو الذي أطغاني ، فيقول قرينه : ربنا ما أطغيتُه بل كان هو نفسه ضالاً معانداً للحق فأعنته عليه { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } أي فيقول الله عز وجل للكافرين وقرنائهم من الشياطين : لا تتخاصموا هنا فما ينفع الخصام ولا الجدال ، وقد سبق أن أنذرتكم على ألسنة الرسل بعذابي ، وحذرتكم شديد عقابي ، فلم تنفعكم الآياتُ والنُّذر { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } أي ما يُغيَّر كلامي ، ولا يُبدَّل حكمي بعقاب الكفرة المجرمين قال المفسرون : المراد وعدُه تعالى بعذاب الكافر وتخليده في النار بقوله تعالى { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي ولست ظالماً حتى أعذب أحداً بدون استحقاق ، وأعاقبه بدون جرم { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } ؟ أي اذكر ذلك اليوم الرهيب يوم يقول الله تعالى لجهنم هل امتلأت ، وتقول هل هناك من زيادة ؟ وفي الحديث " لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول هل من مزيد ، حتى يضع ربُّ العزة فيها قدمه ، فتقول : قَطْ . قَطْ وعزتك وكرمك - أي قد اكتفيتُ - وينزوي بعضُها إِلى بعض " والظاهر أن السؤال والجواب على حقيقتهما ، والله على كل شيء قدير ، فإِن إِنطاق الجماد والشجر والحجر جائز عقلاً ، وحاصلٌ شرعاً ، وقد أخبر القرآن الكريم أنَّ نملة تكلمت ، وأن كل شيء يسبح بحمد الله ، وورد في صحيح مسلم أن المسلمين في آخر الزمان يقاتلون اليهود ، حتى يختبىء اليهودي وراء الشجر والحجر ، فينطق الله الشجر والحجر … الخ وقيل : إِن الآية على التمثيل وأنها تصويرٌ لسعة جهنم وتباعد أقطارها بحيث لو ألقي فيها جميع الكفرة والمجرمين فإِنها تتسع لهم ، وهو كقولهم " قال الحائط للمسمار لم تشقني ؟ قال : سلْ منْ يدقني " ثم أخبر تعالى عن حال السعداء بعد أن ذكر حال الأشقياء فقال { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي قُرّبت وأدنيت الجنة من المؤمنين المتقين مكاناً غير بعيد ، بحيث تكون بمرأى منهم مبالغة في إِكرامهم { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أي يقال لهم : هذا الذي ترونه من النعيم هو ما وعده الله لكل عبدٍ أوَّاب أي رجَّاعٍ إِلى الله ، حافظٍ لعهده وأمره { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أي خاف الرحمن فأطاعه دون أن يراه لقوة يقينه ، وجاء بقلبٍ تائب خاضع خاشع { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } أي يقال لهم : أدخلوا الجنة بسلامة من العذاب والهموم والأكدار ، ذلك هو يوم البقاء الذي لا انتهاء له أبداً ، لأنه لا موت في الجنة ولا فناء { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } أي لهم في الجنة من كل ما تشتهيه أنفسهم ، وتلذ به أعينهم { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } أي وعندنا زيادة على ذلك الإِنعام والإِكرام ، وهو النظر إِلى وجه الله الكريم … ثمَّ خوَّف تعالى كفار مكة بما حدث للمكذبين قبلهم فقال { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } أي وأهلكنا قبل كفار قريش أمماً كثيرين من الكفار المجرمين { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي هم أقوى من كفار قريش قوة ، وأعظم منهم فتكاً وبطشاً { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي فساروا في البلاد ، وطوَّفوا فيها وجالوا في أقطارها ، فهل كان لهم من الموت مهرب ؟ وهل كان لهم من عذاب الله مخلص ؟ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } أي إن فيما ذُكر من إهلاك القرى الظالمة ، لتذكرة وموعظة لمن كان له عقل يتدبر به ، أو أصغى إِلى الموعظة وهو حاضر القلب ليتذكر ويعتبر قال سفيان : لا يكون حاضراً وقلبه غائب وقال الضحاك : العرب تقول : ألقى فلان سمعه إِذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب ، وعبَّر عن العقل بالقلب لأنه موضعه كما قال تعالى { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } هذه الآية ردٌّ على اليهود حيث زعموا أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، أوَّلُها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة وأنه تعب فاستراح يوم السبت واستلقى على ظهره فوق العرش ، فكذبهم الله تعالى والمعنى والله خلق السماوات السبع في ارتفاعها وعظمتها ، والأرض في كثافتها وسعتها ، وما بينهما من المخلوقات البديعة في ستة أيام ، وما مسَّنا من إِعياء وتعب { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } أي فاصبرْ يا محمد على ما يقوله اليهود وغيرهم من كفار قريش ، واهجرهم هجراً جميلاً { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } أي ونزِّه ربك عما لا يليق به ، وصلِّ له واعبدْه وقتي الفجر والعصر ، وخصَّهما بالذكر لزيادة فضلهما وشرفهما { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } أي ومن الليل فصلِّ للهِ تهجداً وأعقاب الصلوات المفروضة قال ابن كثير : كانت الصلاة المفروضة قبل الإِسراء ثنتان قبل طلوع الشمس ، وثنتان قبل الغروب ، وكان قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أُمته حولاً ثم نسخ في حق الأمة وجوبه ، ثم بعد ذلك نسخ كل ذلك ليلة الإِسراء بخمس صلواتٍ ، وبقي منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب { وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي واستمع يا محمد النداء والصوت حين ينادي إِسرافيل بالحشر من موضع قريب يصل صوته إِلى الكل على السواء قال أبو السعود : وفيه تهويلٌ وتفظيع لشأن المخبر به ، والمنادي هو إِسرافيل عليه السلام يقول : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتمزقة ، والشعور المتفرقة ، إِن الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ } أي يسمعون صيحة البعث التي تأتي بالحقِّ - وهي النفخة الثانية في الصور - { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } ذلك هو يوم الخروج من القبور { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ } أي نُحيي الخلائق ونميتُهم في الدنيا ، وإِلينا رجوعهم للجزاء في الآخرة ، لا إِلى غيرنا { يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً } أي يوم تنشقُّ الأرضُ عنهم فيخرجون من القبور مسرعين إِلى موقف الحساب استجابةً لنداء المنادي { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي ذلك جمع وبعث سهلٌ هيّنٌ علينا لا يحتاج إِلى عناء { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } أي نحن أعلم بما يقول كفار قريش من إِنكار البعث والسخرية والاستهزاء بك وبرسالتك ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ لهم { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي وما أنت يا محمد بمسلَّط عليهم تجبرهم على الإِسلام ، إِنما بعثت مذكّر { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } أي عظْ بهذا القرآن من يخاف وعيدي . . ختم السورة الكريمة بالتذكير بالقرآن كما افتتحها بالقسم بالقرآن ليتناسق البدء مع الختام : البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيا يلي : 1 - الإِظهار في موطن الإِضمار { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ } [ ق : 2 ] بدل فقالوا للتسجيل عليهم بالكفر . 2 - الاستفهام الإِنكاري لاستبعاد البعث { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } [ ق : 2 ] . 3 - الإِضراب عن السابق لبيان ما هو أفظع وأشنع من التعجب { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ } [ ق : 5 ] وهو التكذيب بآيات الله وبرسوله المؤيد بالمعجزات . 4 - التشبيه المرسل المجمل { كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ } [ ق : 11 ] شبَّه إِحياء الموتى بإِخراج النبات من الأرض الميتة . 5 - الاسعتارة التمثيلية { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] مثَّل علمه تعالى بأحوال العبد ، وبخطرات النفس ، بحبل الوريد القريب من القلب ، وهو تمثيلٌ للقرب بطريق الاستعارة كقول العرب : هو مني مقعد القابلة ، وهو مني معقد الإِزار . 6 - الحذف بالإِيجاز { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] أصله عن اليمين قعيدٌ ، وعن الشمال قعيد ، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وبين اليمين والشمال طباقٌ وهو من المحسنات البديعية . 7 - الاستعارة التصريحية { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } [ ق : 19 ] استعار لفظ السَّكرة للهول والشدة التي يلقاها المحتضر عند وفاته . 8 - الجناس الناقص بين { عَنِيدٍ } و { عَتِيدٌ } لتغاير حرفيْ النون والتاء . 9 - الطباق بين { نُحْيِـي } و { نُمِيتُ } . 10 - توافق الفواصل والسجع اللطيف غير المتكلف مثل { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } [ ق : 20 ] { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } ومثل { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ … ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } الخ وهو من المحسنات البديعية ، لما فيه من جميل الوقع على السمع .