Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 1-37)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { ٱلْحُبُكِ } الطرائق جمع حبيكة كطريقة وزناً ومعنى قال الزجاج : الحُبك الطرائق الحسنة ، والمحبوك في اللغة ما أُجيد عمله وقال ابن الأَعرابي : كلُّ شيءٍ أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته { ٱلْخَرَّاصُونَ } جمع خرَّاص وهو الكذَّاب { غَمْرَةٍ } الغمرة ما ستر الشيء وغطَّاه ومنه نهر غمر { يَهْجَعُونَ } ينامون والهجوع النومُ ليلاً { أَوْجَسَ } أحسَّ وشعر { صَرَّةٍ } صيحة وضجة { مُّسَوَّمَةً } معلَّمة . التفسِير : { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } هذا قسمٌ أقسم تعالى به أي أُقسم بالرياح التي تذرو التراب فتفرّقه ، وتحمل الرمال من مكان إِلى مكان { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } أي وأقسم بالسحب التي تحمل أثقال الأمطار ، وهي محمَّلة بالماء الذي فيه حياة البشر { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } أي وأقسم بالسفن التي تجري على وجه الماء جرياً سهلاً بيسر وهي تحمل ذرية بني آدم { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } أي وأقسم بالملائكة التي تقسم الأرزاق والأَمطار بين العباد ، وكل ملك مخصَّص بأمر ، فجبريل صاحب الوحي إِلى الأنبياء ، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة ، وإِسرافيل صاحب الصور ، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح قال المفسرون : أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرفها ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعه وقدرته ، ثم ذكر جواب القسم فقال { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } أي إِن الذي توعدونه من الثواب والعقاب ، والحشر والنشر ، لأمرٌ صدقٌ محقَّق لا كذب فيه { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } أي وإِنَّ الجزاء لكائنٌ لا محالة ، ثم ذكر تعالى قسماً آخر فقال { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } أي وأقسم بالسماء ذات الطرائق المحكمة والبنيان المتقن قال ابن عباس : ذات الخلق الحسن المستوي { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } جواب القسم أي إِنكم أيها الكفار لفي قول مضطرب في أمر محمد ، فمنكم من يقول إِنه ساحر ، ومنكم من يقول إِنه شاعر ، وبعضكم يقول إِنه مجنون إِلى غير ما هنالك من أقوال مختلفة { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي يُصرف عن الإِيمان بالقرآن وبمحمد عليه السلام ، من صُرِف عن الهداية في علم الله تعالى وحُرم السعادة { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } أي لُعن الكذابون الذين قالوا إِن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر وكذاب وشاعر قال ابن الأنباري : والقتلُ إِذا أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة ، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } أي الذين هم غافلون لاهون عن أمر الآخرة { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } أي يقولون تكذيباً واستهزاءً : متى يوم الحساب والجزاء ؟ قال تعالى رداً عليهم { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } أي هذا الجزاء كائن يوم يدخلون جهنم ويُحرقون بها { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أي تقول لهم خزنة النار : ذوقوا تعذيبكم وجزاءكم { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } أي هذا الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاءً … ولما ذكر حال الكفار ذكر المؤمنين الأبرار فقال { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي هم في بساتين فيها عيون جاريةٌ ، تجري فيها على نهاية ما يُتنزه به { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي راضين بما أعطاهم ربهم من الكرامة والنعيم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي كانوا في دار الدنيا محسنين في الأعمال ، ثم ذكر طرفاً من إِحسانهم فقال { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي كانوا ينامون قليلاً من الليل ويصلُّون أكثره قال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون من إلا قليلاً { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي وفي أواخر الليل يسغفرون الله من تقصيرهم ، فهم مع إِحسانهم يعدُّون أنفسهم مذنبين ، ولذلك يكثرون الاستغفار بالأسحار قال أبو السعود : أي هم مع قلة نومهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار بالأسحار ، كأنهم أسلفوا ليلهم باقتراف الجرائم ، وهو مدح ثانٍ للمحسنين { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } مدحٌ ثالث أي وفي أموالهم نصيب معلوم قد أوجبوه على أنفسهم بمقتضى الكرم للسائل المحتاج ، وللمتعفف الذي لا يسأل لتعففه { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } أي وفي الأرض دلائل واضحة على قدرة الله سبحانه ووحدانيته للموقنين بالله وعظمته ، الذين يعرفونه بصنعه قال ابن كثير : أي وفي الأرض من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة ، مما فيها من صنوف النباتات والحيوانات ، والجبال والقفار ، والبحار ، والأنهار ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم ، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم ، والسعادة والشقاوة ، وما في تركيبهم من الخلق البديع ، ولهذا قال بعده { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أي وفي أنفسكم آياتٌ وعبرٌ من مبدأ خلقكم إِلى منتهاه ، أفلا تبصرون قدرة الله في خلقكم لتعرفوا قدرته على البعث ؟ قال ابن عباس : يريد اختلاف الصور ، والألسنة ، والألوان ، والطبائع ، والسمع والبصر والعقل إِلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم وقال قتادة : من تفكَّر في خلق نفسه عرف أنه إِنما خُلق ولُيّنت مفاصله للعبادة { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } أي وفي السماء أسباب رزقكم ومعاشكم وهو المطر الذي به حياة البلاد والعباد ، وما توعدون به من الثواب والعقاب مكتوب كذلك في السماء قال الصاوي : والآيةُ قُصد بها الامتنان والوعد والوعيد { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } أي أٌقسم بربِّ السماءِ والأرض إِن ما توعدون به من الرزق والبعث والنشور لحقٌّ كائن لا محالة مثل نطقكم ، فكما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون فكذلك يجب ألا تشكوا في الرزق والبعث قال المفسرون : وهذا على سبيل التشبيه والتمثيل أي رزقكم مقسوم في السماء كنطقكم فلا تشكوا في ذلك ، وهذا كقول القائل : هذا حق كما أنك هٰهنا ، وهذا حقٌ كما أنك ترى وتسمع ، فالرزق مثل النطق لا يفارق الشخص في حالٍ من الأحوال وفي الحديث " لو أن أحدكم فرَّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت " . ثم ذكر تعالى قصة ضيف إِبراهيم تسلية لقلب النبي الكريم فقال { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } ؟ الاستفهام للتشويق ولتفخيم شأن تلك القصة كما يقول القائل : هل بلغك الخير الفلاني ؟ يريد تشويقه إِلى استماعه والمعنى هل وصل إِلى سمعك يا محمد خبر ضيوف إِبراهيم المعظَّمين ؟ قال ابن عباس : يريد جبريل وميكائيل وإِسرافيل عليهم السلام ، سُمُّوا مكرمين لكرامتهم عند الله عز وجل { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً } أي حين دخلوا على إِبراهيم فقالوا : نسلِّم عليك سلاماً { قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي قال عليكم سلامٌ أنتم قومٌ غرباء لا نعرفكم فمن أنتم ؟ قال ابن كثير : وإِنما أنكرهم لأنهم قدموا عليه في صورة شبانٍ حسانٍ عليهم مهابة عظيمة ولهذا أنكرهم وقال أبو حيان : والذي يناسب حال إِبراهيم عليه السلام أنه لا يخاطبهم بذلك ، إِذْ فيه من عدم الإِنس ما لا يخفى ، وإِنما قال ذلك في نفسه ، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه ، بحيث لا يسمع ذلك الأضياف { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ } أي فمضى إِلى أهله في سرعة وخفية عن ضيفه ، لأن من أدب المضيف أن يبادر بإِحضار الضيافة من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يمنعه الضيف ، أو يُثقل عليه في التأخير قال ابن قتيبة : عدل إِليهم في خفية ولا يكون الرَّواغُ إِلا أن تُخفي ذهابك ومجيئك { فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي فجاءهم بعجل سمينٍ مشوي ، والعجلُ ولدُ البقرة وكان عامة ما له البقر ، واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } أي فأدناه منهم ووضعه بين أيديهم فلم يأكلوا فقال لهم في تلطف وبشاشة : ألا تأكلون هذا الطعام ؟ قال ابن كثير : وفي الآية تلطف في العبارة وعرض حسن ، وقد انتظمت الآية آداب الضيافة ، فإِنه جاء بطعامٍ من حيث لا يشعرون بسرعة ، ولم يمتنَّ عليهم أولاً فقال نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعةٍ وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجل فتيٌّ سمين مشوي ، فقربه إِليهم ولم يضعه وقال اقتربوا بل وضعه بين أيديهم ، ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال : ألا تأكلون ؟ على سبيل العرض والتلطف كما يقول القائل : إِن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أي فأضمر في نفسه الخوف منهم لما رأى إِعراضهم عن الطعام { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } أي قالوا له لا تخف إِنا رسل ربك { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } أي وبشروه بولدٍ يولد له من زوجته سارة يكون عالماً عند بلوغه قال أبو حيان : وفيه تبشيرٌ بحياته حتى يكون من العلماء ، والجمهور على أن المبشر به هو إِسحاق لقوله تعالى في سورة هود { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } أي فأقبلت سارة نحوهم حين سمعت البشارة في صيحةٍ وضجة قال المفسرون : لما سمعت بالبشارة وكانت في زاوية من زوايا البيت جاءت نحوهم في صيحة عظيمة تريد أن تستفسر الخبر { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } أي فلطمت وجهها على عادة النساء عند التعجب قال ابن عباس : لطمت وجهها تعجباً كما تتعجب النساء من الأمر الغريب { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد ؟ والعقيم هي التي لم تلد قطّ لانقطاع حبلها قبل الإِمام الجلال : كان عمرها تسعاً وتسعين سنة ، وعمر إِبراهيم مائة وعشرين { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } أي الأمر كما أخبرناك هكذا حكم وقضى ربك من الأزل فلا تعجبي ولا تشكّي فيه { إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } أي الحكيم في صنعه ، العليم بمصالح خلقه { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } أي ما شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم أيها الملائكة الأبرار ؟ قال البيضاوي : لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إِلا لأمرٍ عظيم سأل عنه { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي قالوا إِن الله أرسلنا لإِهلاك قوم لوط الذين ارتكبوا أفحش الجرائم " اللواط " وكانوا ذوي جرائم متعددة ، وهي كبار المعاصي من كفر وعصيان { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } أي لنهلكهم بحجارةٍ من طين متحجر مطبوخ بالنار وهو السجيل قال أبو حيان : والسجيلُ طينٌ يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصبح في صلابة الحجارة { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } أي معلَّمة من عند الله بعلامة ، على كل واحدةٍ منها اسم صاحبها الذي يهلك بها { لِلْمُسْرِفِينَ } أي المجاوزين الحدَّ في الفجور قال الصاوي : كان في قرى لوط ستمائة ألف فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض فاقتلع قراهم ، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم ثم قلبها ، ثم أرسل الحجارة على من كان خارجاً عنها { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي فأخرجنا من كان في قرى أهل لوط من المؤمنين لئلا يهلكوا { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي فما كان فيها بعد البحث والتفتيش غير أهل بيت واحد من المسلمين قال مجاهد : هم لوطٌ وابنتاه ، والغرضُ من الآية بيان قلة المؤمنين الناجين من العذاب ، وكثرة الكافرين المستحقين للهلاك قال الإِمام الجلال : وصفوا بالإِيمان والإِسلام أي هم مصدقون بقلوبهم ، عاملون بجوارحهم الطاعات { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً } أي أبقينا في تلك القرى المهلكة بعد إِهلاك الظالمين علامةً على هلاكهم بجعل عاليها سافلها { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } أي للذين يخافون عذاب الله فإِنهم المعتبرون به قال ابن كثير : ومعنى الآية { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً } أي جعلناها عبرةً بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال ، وجعلنا محلتهم بحيرةً منتنة خبيثة ففي ذلك عبرةٌ للمؤمنين الذين يخافون العذاب الأليم . تنبيه : قال الإِمام الرازي : في قصة ضيف إِبراهيم تسلية لقلب النبي الكريم صلى لله عليه وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله ، واختار تعالى إِبراهيم لكونه شيخ المرسلين ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم على سنته في بعض الأشياء ، وفيها إِنذار لقومه بما جرى من الضيف ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين .