Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 54, Ayat: 1-32)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { ٱلأَجْدَاثِ } جمع جدث وهو القبر { مُّهْطِعِينَ } مسرعين يقال : أهطع في سيره أي أسرع { مُّنْهَمِرٍ } انهمر الماء نزل بقوة غزيراً { وَدُسُرٍ } الدُّسر : المسامير التي تُشدُّ بها السفينة جمع دِسار ككتاب وكُتب قال في الصحاح : الدِّسار واحد الدُسرُ وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ويقال هي المسامير { مُّدَّكِرٍ } متعظ خائف وأصله مذتكر قلبت التاء دالاً ثم أدغمت الذال فيها فصارت مدّكر { صَرْصَراً } الصرصر : الشديدة الصوت مع البرد مأخوذ من صرير الباب وهو تصويته { أَعْجَازُ } جمع عجز وهو مؤخر الشيء { مُّنقَعِرٍ } المنقعر : المنقلع من أصله يقال : قعرت الشجرة قعراً قلعتها من أصلها فانقعرت { وَسُعُرٍ } جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة قال الشاعر : @ تخالُ بها سُعراً إِذا السَّفر هزَّها @@ { أَشِرٌ } الأشر : البطر ورجلٌ أشر أي بطر أبطرته النعمة . التفسِير : { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } أي دنت القيامة وقد انشق القمر { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ } أي وإِن ير كفار قريش علامة ، واضحة ومعجزة ساطعة ، تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم يعرضوا عن الإِيمان { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } أي ويقولوا هذا سحرٌ دائم ، سحر به محمدٌ أعيننا قال المفسرون : إِن كفار مكة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : إن كانت صادقاً فشقَّ لنا القمر فرقتين ، ووعدوه بالإِيمان إِن فعل ، وكانت ليلة بدر ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يعطيه ما طلبوا ، فانشقَّ القمر نصف على جبل الصفا ، ونصفٌ على جبل قيقعان المقابل له ، حتى رأوا حراء بينهما ، فقالوا : سحرنا محمد ، ثم قالوا : إن كان سحرنا فإِنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ! ! فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فإِن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح ، وإِلا فقد سحر محمد أعيننا ، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو جهل والمشركون : هذا سحرٌ مستمر أي دائم فأنزل الله { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } قال الخازن : وانشقاقُ القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرة ، ومعجزاته الباهرة ، يدل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر مرتين " وما روي عن ابن مسعود قال " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا " وما روي عن جبير بن مطعم قال " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين ، فقالت قريش : سحر محمد أعيننا فقال بعضهم : لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم " فهذه الأحاديث الصحيحة ، قد وردت بهذه المعجزة العظيمة ، مع شهادة القرآن العظيم بذلك ، فإِنه أدل دليل وأقوى مثبتٍ له وإِمكانه لا يشك فيه مؤمن ، وقيل في معنى الآية ، ينشق القمر يوم القيامة ، وهذا قول باطل لا يصح ، وشاذ لا يثبت ، لإِجماع المفسرين على خلافه ، ولأن الله ذكره بلفظ الماضي { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } وحمل الماضي على المستقبل بعيد { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } أي وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوه من قدرة الله تعالى في انشقاق القمر ، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي وكل أمرٍ من الأمور منتهٍ إِلى غاية يستقر عليها لا محالة إِن خيراً فخير ، وإِن شراً فشر قال مقاتل : لكل حديثٍ منتهى وحقيقة ينتهي إِليها وقال قتادة : إِن الخير يستقر بأهل الخير ، والشر يستقر بأهل الشر ، وكل أمرٍ مستقر بأهله { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي ولقد جاء هؤلاء الكفار من أخبار الأمم الماضية المكذبين للرسل ، ما فيه واعظ لهم عن التمادي في الكفر والضلال { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي هذا القرآن حكمة بالغة ، بلغت النهاية في الهداية والبيان { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } أي أيَّ شيءٍ تُغنى النُذُر عمن كتب الله عليه الشقاوة ، وختم على سمعه وقلبه ؟ ! قال المفسرون : المعنى لقد جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية ، فماذا تنفع الإِنذارات والمواعيد لقومٍ أصموا آذانهم عن سماع كلام الله ؟ كقوله تعالى { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المجرمين وانتظرهم { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } أي يوم يدعو إِسرافيل إِلى شيءٍ منكر فظيع ، تنكره النفوس لشدته وهوله ، وهو يوم القيامة وما فيه من البلاء والأهوال { خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } أي ذليلةً أبصارهم لا يستطيعون رفعها من شدة الهول { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي يخرجون من القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أي كأنهم في انتشارهم وسرعة إِجابتهم للداعي جرادٌ منتشر في الآفاق ، لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة قال ابن الجوزي : وإِنما شبههم بالجراد المنتشر ، لأن الجراد لا جهة له يقصدها ، فهم يخرجون من القبور فزعين ليس لأحدٍ منهم جهة يقصدها ، والداعي هو إِسرافيل { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } أي مسرعين مادّي أعناقهم إِلى الداعي لا يتلكئون ولا يتأخرون { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي يقول الكافرون هذا يوم صعبٌ شديد قال الخازن : وفيه إِشارة إِلى أنَّ ذلك اليوم يومٌ شديد على الكافرين لا على المؤمنين كقوله تعالى { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 10 ] … ثم ذكر تعالى وقائع الأمم المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب والنكال تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لكفار مكة فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } أي كذب قبل قومك يا محمد قومُ نوح { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } أي فكذبوا عبدنا نوحاً وقالوا إِنه مجنون ، وانتهروه وزجروه عن دعوى النبوة بالسب والتخويف والوعيد بقولهم { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } [ الشعراء : 116 ] قال في البحر : لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إِلى الجنون أي أنه يقول ما لا يقبله عاقل وذلك مبالغة في تكذيبهم ، وإِنما قال { عَبْدَنَا } تشريفاً له وخصوصية بالعبودية { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } أي فدعا نوح ربه وقال يا ربّ إِني ضعيف عن مقاومة هؤلاء المجرمين ، فانتقم لي منهم وانتصر لدينك قال أبو حيان : وإِنما دعا عليهم بعدما يئس منهم وتفاقم أمرهم ، وكان الواحد من قومه يخنقه إِلى أن يخر مغشياً عليه وهو يقول : اللهم اغفر لقومي فإِنهم لا يعلمون { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } أي فأرسلنا المطر من السماء منصباً بقوة وغزارة قال أبو السعود : وهو تمثيلٌ لكثرة الامطار وشدة انصبابها { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة بالماء { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي فالتقى ماء السماء وماء الأرض على حالٍ قد قدَّرها الله في الأزل وقضاها بإِهلاك المكذبين غرقاً قال قتادة : قضى عليهم في أم الكتاب إِذا كفروا أن يُغرقوا { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أي وحملنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الخشبية العريضة المشدودة بالمسامير قال في البحر : وذات الألواح والدُّسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام ، ويفهم من هذين الوصفين أنها " السفينة " فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ونحوه : قميصي مسرودة من حديد أي درع ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه ، ولو جمعت بين الصفة والموصوف لم يكن بالفصيح ، والدُّسُر : المسامير { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي تسير على وجه الماء بحفظنا وكلاءتنا وتحت رعايتنا { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي أغرقنا قوم نوح انتصاراً لعبدنا نوح لأنه كان قد كُذِّب وجُحد فضلُه قال الألوسي : أي فعلنا ذلك جزاءً لنوح لأنه كان نعمةً أنعمها الله على قومه فكفروها ، وكذلك كلُ نبيٍ نعمةٌ من الله تعالى على أمته { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً } أي تركنا تلك الحادثة " الطوفان " عبرة { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي فهل من معتبر ومتعظ ؟ { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } استفهام تهويل وتعجيب أي فكيف كان عذابي وإِنذاري لمن كذب رسلي ، ولم يتعظ بآياتي ؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ ، لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي فهل من متعظٍ بمواعظه ، معتبرٍ بقصصه وزواجره ؟ قال الخازن : وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به ، لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده ، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير ، والعربي والعجمي قال سعيد بن جبير : يسرناه للحفظ والقراءة ، وليس شيء من كُتب الله تعالى يُقرأ كلُّه ظاهراً إِلا القرآن ، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيئاً ومسهلاً لمن أراد حفظه وفهمه أو الاتعاظ به ، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي كذبت عادٌ رسولهم هوداً فكيف كان إِنذاري لهم بالعذاب ؟ ثم شرع في بيان ما حلَّ بهم من العذاب الفظيع المدمر فقال { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } أي أرسلنا عليهم ريحاً عاصفة باردة شديدة الهبوب والصوت قال ابن عباس : الصرصر : الشديدة البرد وقال السدي : الشديدة الصوت { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } أي في يومٍ مشئوم دائم الشؤم ، استمر عليهم بشؤمه فلم يبق منهم أحدٌ إِلا هلك فيه قال ابن كثير : استمر عليهم نحسه ودماره ، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي { تَنزِعُ ٱلنَّاسَ } أي تقلع الريح القوم ثم ترمي بهم على رءوسهم فتدقُّ رقابهم وتتركهم { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أي كأنهم أُصول نخلٍ قد انقلعت من مغارسها وسقطت على الأرض ، شبهوا بالنخل لطولهم وضخامة أجسامهم قال الخازن : كانت الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على رءوسهم فتدق رقابهم ، وتفصل رءوسهم من أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رءوس كعجز النخلة الملقاة على الأرض { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } تهويلٌ لما حلَّ بهم من العذاب وتعجيبٌ من أمرهم أي كيف كان عذابي وإِنذاري لهم ؟ ألم يكن هائلاً فظيعاً ؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؟ كرره للتنبيه على فضل الله على المؤمنين بتيسير حفظ القرآن أي ولقد سهلنا القرآن للحفظ والفهم ، فهل من متعظٍ ومعتبر بزواجر القرآن ! ؟ ثم أخبر تعالى عن قوم ثمود المكذبين لرسولهم صالح عليه السلام فقال { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ } أي كذبت ثمود بالإِنذارات والمواعظ التي أنذرهم بها نبيهم صالح { فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } أي أنتَّبع إِنساناً مثلنا من آحاد الناس ، ليس من الأشراف ولا العظماء ، ونحن جماعة كثيرون ؟ قال في البحر : قالوا ذلك حسداً منهم واستبعاداً أن يكون نوع البشر يفضل بعضُه بعضاً هذا الفضل ، فقالوا : أنكون جمعاً ونتبع واحداً منا ؟ ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ويفيض نور الهدى على من رضيه { إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } أي إنا إِذا اتبعناه لفي خطأٍ وذهابٍ عن الحقِّ واضح ، وجنون دائم قال ابن عباس : سُعُر أي جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } استفهام إِنكاري أي هل خصَّ بالوحي والرسالة وحده دوننا ، وفينا من هو أكثر منه مالاً وأحسن حالاً ؟ قال الإِمام الفخر : وفي الآية إِشارة إِلى ما كانوا ينكرونه بطريق المبالغة ، وذلك لأن الإِلقاء إِنزالٌ بسرعة ، فكأنهم قالوا : الملك جسيم والسماء بعيدة فكيف ينزل عليه الوحي في لحظة ؟ وقولهم " عليه " إِنكارٌ آخر كأنهم قالوا : ما أُلقي عليه ذكرٌ أصلاً ، وعلى فرض نزوله فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء ؟ وقولهم { أَأُلْقِيَ } بدلاً من قولهم " أألقى الله " إِشارة إِلى أن الإِلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي بل هو كاذب في دعوى النبوة ، متجاوز في حد الكذب ، متكبرٌ بطِرٌ يريد العلو علينا ، وإِنما وصفوه بأنه { أَشِرٌ } مبالغة منهم في رفض دعواه كأنهم قالوا إنه كذب لا لضرورةٍ وحاجةٍ إِلى الخلاص كما يكذب الضعيف ، وإِنما تكبَّر وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد أن تتبعوه فكذب على الله ، فلا يلتفت إِلى كلامه لأنه جمع بين رذيلتين : الكذب والتكبر ، وكلٌ منهما مانع من اتباعه ، قال تعالى تهديداً لهم وردّاً لبهتانهم { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ } أي سيعلمون في الآخرة من هو الكذَّاب الأشر ، هل هو صالح عليه السلام أم قومه المكذبون المجرمون ؟ قال الألوسي : المراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون ، لكنْ أورد ذلك مورد الإِبهام إِيماءً إِلى أنه مما لا يكاد يخفى { إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ } أي مخرجوا الناقة من الصخرة الصماء محنة لهم واختباراً كما شاءوا وطلبوا قال ابن كثير : أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء ، من صخرة صماء طبق ما سألوا ، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به { فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ } أي فانتظرهم وتبصَّرْ ما يصنعون وما يُصنع بهم ، واصبر على أذاهم فإِن الله ناصرك عليهم { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي وأعلِمْهم أنَّ الماء الذي يمرُّ بواديهم مقسومٌ بين ثمود وبين الناقة كقوله تعالى { لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] قال ابن عباس : إِذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقةُ شيئاً من الماء وتسقيهم لبناً وكانوا في نعيم ، وإِذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تُبق لهم شيئاً ، وإِنما قال تعالى { بَيْنَهُمْ } تغليباً للعقلاء { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } أي كل نصيب وحصة من الماء يحضرها من كانت نوبته ، فإِذا كان يوم الناقة حضرت شربها ، وإِذا كان يومهم حضروا شربهم { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ } أي فنادت قبيلة ثمود أشقى القوم واسمه " قدار بن سالف " لقتل الناقة فتناول الناقة بسيفه فقتلها غير مكترث بالأمر العظيم { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي فكيف كان عقابي وإِنذاري لهم ؟ ألم يكن فظيعاً شديداً ؟ ! { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي أهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جبريل عليه السلام فلم تبق منهم عين تطْرف { فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ } أي فصاروا هشيماً متفتتاً كيابس الشجر إِذا بلي وتحطَّم وداسته الأقدام قال الإِمام الجلال : المحتظر هو الذي يجعل لغنمه حظيرةً من يابس الشجر والشوك يحفظهن فيها من الذئاب والسباع ، وما سقط من ذلك فداسته فهو الهشيم { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي يسرناه للحفظ والاتعاظ فهل من معتبر ؟ .