Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 55, Ayat: 1-45)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { بِحُسْبَانٍ } الحُسبان بضم الحاء مصدر مثل الغُفران والكُفران ومعناه الحساب { الأَنَامِ } الخلق وكلُّ ما دبَّ على وجه الأرض { ٱلْعَصْفِ } ورق الزرع الأخضر إِذا يبس { ٱلرَّيْحَانُ } كل نبات طيب الريح ، سمي ريحاناً لرائحته الطيبة { مَّارِجٍ } المارج : اللهب الذي يعلو النار قال الليث : هو الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد { ٱلْجَوَارِ } جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تمشي على سطح الماء { ٱلأَعْلاَمِ } الجبال جمع علم وهو الجبل الطويل قال الشاعر : " إِذا قطعن علماً بدا علمٌ " { تَنفُذُواْ } النفوذ : الخروج من الشي بسرعة { شُوَاظٌ } الشُواظ : اللهب الذي لا دخان له { ٱلدِّهَانِ } الجلد الأحمر { آنٍ } نهاية في الحرارة . التفسِير : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } أي الله الرحمنُ علَّم القرآن ، ويسَّره للحفظ والفهم قال مقاتل : لما نزل قوله تعالى { ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ } [ الفرقان : 60 ] قال كفار مكة ، وما الرحمن ؟ فأنكروه وقالوا لا نعرف الرحمن فقال تعالى { ٱلرَّحْمَـٰنُ } الذي أنكروه هو الذي { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } وقال الخازن : إن الله عز وجل عدَّد نعمه على عباده ، فقدَّم أعظمها نعمة ، وأعلاها رتبة ، وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إِلى أنبيائه ، وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه ، وأكثره ذكراً ، وأحسنه في أبواب الدين أثراً ، وهو سنام الكتب السماوية المنزَّلة على أفضل البرية { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } أي خلق الإِنسان السميع البصير الناطق ، والمرادُ بالإِنسان الجنسُ { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } أي ألهمه النطق الذي يستطيع به أن يُبين عن مقاصده ورغباته ، ويتميَّز به عن سائر الحيوان قال البيضاوي : والمقصودُ تعداد ما أنعم الله به على نوع الإِنسان ، حثاً على شكره ، وتنبيهاً على تقصيرهم فيه ، وإِنما قدَّم تعليم القرآن على خلق الإِنسان ، لأنه أصل النعم الدينية فقدَّم الأهم { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي الشمس والقمر يجريان بحساب معلوم في بروجهما ، ويتنقلان في منازلهما لمصالح العباد قال ابن كثير : أي يجريان متعاقبين بحساب مقنَّن لا يختلف ولا يضطرب { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } أي والنجمُ والشجر ينقادان للرحمن فيما يريده منهما ، هذا بالتنقل بالبروج ، وذاك بإِخراج الثمار { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } أي والسماء خلقها عالية محكمة البناء رفيعة القدر والشأن ، وأمر بالميزان عند الأخذ والإِعطاء لينال الإِنسان حقه وافياً { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } أي لئلا تبخسوا في الميزان { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } أي اجعلوا الوزن مستقيماً بالعدل والإِنصاف { وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } أي لا تطففوا الوزن ولا تُنقصوه كقوله تعالى { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ] { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } أي والأرض بسطها لأجل الخلق ، ليستقروا عليها ، وينتفعوا بما خلق الله على ظهرها قال ابن كثير : أي أرساها بالجبال الشامخات لتستقر بما على وجهها من الأنام وهم الخلائق ، المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أرجائها { فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي فيها من أنواع الفواكه المختلفة الألوان والطعوم والروائح { وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } أي وفيها النخل التي يطلع فيها أوعية الثمر قال ابن كثير : أفرد النخل بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً ، والأكمام هي أوعية الطلع كما قال ابن عباس ، وهو الذي يطلع فيه القنو ، ثم ينشق عنه العنقود فيكون بُسراً ثم رُطباً ، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ } أي وفيها أنواع الحب كالحنطة والشعير وسائر ما يُتغذى به ، ذو التبن الذي هو غذاء الحيوان { وَٱلرَّيْحَانُ } أي وفيها كل مشموم طيب الريح من النبات كالورد ، والفُلّ ، والياسمين وما شاكلها قال في البحر : ذكر تعالى الفاكهة أولاً ونكَّر لفظها لأن الانتفاع بها نفسها ، ثم ثنَّى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو التمر ، لكثرة الانتفاع بها من ليفٍ ، وسعف ، وجريدٍ ، وجذوع ، وجُمَّار ، وثمر ، ثم ذكر الحب الذي هو قوام عيش الإِنسان وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق ، ووصفه بقوله { ذُو ٱلْعَصْفِ } تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب ، وما يقوت بهائمهم من ورقه وهو التبنُ ، وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ليحصل ما به يُتفكه ، وما به يُتقوَّت ، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة ، ولما عدَّد نعمه خاطب الإِنس والجن بقوله { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان ؟ أليست نعم الله عليكم كثيرة لا تُحصى ؟ عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا ، فقال : مالي أسمع الجنَّ أحسن جواباً لربها منكم ؟ ما أتيتُ على قول الله تعالى { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا : لا بشيءٍ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " . ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } أي خلق أباكم آدم من طين يابسٍ يسمع له صلصلة أي صوتٌ إِذا نُقر قال المفسرون : ذكر تعالى في هذه السورة أنه خلق آدم { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } وفي سورة الحِجر { مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] أي من طين أسود متغير ، وفي الصافات { مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] أي يلتصق باليد ، وفي آل عمران { كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ولا تنافي بينهما ، وذلك لأن الله تعالى أخذه من تراب الأرض ، فعجنه بالماء فصار طيناً لازباً أي متلاصقاً يلصق باليد ، ثم تركه حتى صار حمأً مسنوناً أي طيناً أسود منتناً ، ثم صوَّره كما تُصوَّر الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إِذا نُقر صوَّت ، فالمذكور هٰهنا آخر الأطوار { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } أي وخلق الجنَّ من لهبٍ خالصٍ لا دخان فيه من النار قال ابن عباس : { مِن مَّارِجٍ } أي لهبٍ خالصٍ لا دخان فيه وقال مجاهد : هو اللهب المختلط بسواد النار ، وفي الحديث " خُلقت الملائكة من نور ، وخُلق الجانُّ من مارجٍ من نار ، وخُلق آدم مما وُصف لكم " { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان ؟ قال أبو حيان : والتكرار في هذه الفواصل للتأكيد والتنبيه والتحريك ، وقال ابن قتيبة : إِن هذا التكرار إِنما هو لاختلاف النعم ، فكلما ذكر نعمةً كرر قوله { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وقد ذُكرت هذه الآية إِحدى وثلاثين مرة ، والاستفهام فيها للتقريع والتوبيخ { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } أي هو جل وعلا ربُّ مشرق الشمس والقمر ، وربُّ مغربهما ، ولمّا ذكر الشمس والقمر في قوله { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } ذكر هنا أنه رب مشرقهما ومغربهما { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله التي لا تحصى تكذبان ؟ { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } أي أرسل البحر الملح والبحر العذب يتجاوران ويلتقيان ولا يمتزجان { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } أي بينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة قال ابن كثير : والمراد بالبحرين : الملح والحلو ، فالملح هذه البحار ، والحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس ، وجعل الله بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا فيفسد كل واحد منهما الآخر { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله تكذبان ؟ { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } أي يُخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان ، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان ، قال الألوسي : واللؤلؤ صغار الدُر ، والمرجان كباره قاله ابن عباس ، وعن ابن مسعود أن المرجان الخرز الأحمر ، والآية بيانٌ لعجائب صنع الله حيث يخرج من الماء الملح أنواع الحلية كالدر والياقوت والمرجان ، فسبحان الواحد المنَّان { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعمة من نعم الله تكذبان ؟ { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } أي وله جل وعلا السفن المرفوعات الجارياتُ في البحر كالجبال في العظم والضخامة قال القرطبي : { كَٱلأَعْلاَمِ } أي كالجبال ، والعلمُ الجبل الطويل ، فالسفن في البحر كالجبال في البر ، ووجه الامتنان بها أن الله تعالى سيَّر هذه السفن الضخمة التي تشبه الجبال على وجه الماء ، وهو جسم لطيف مائع يحمل فوقه هذه السفن الكبار المحمَّلة بالأرزاق والمكاسب والمتاجر من قطر إِلى قطر ، ومن إقليم إِلى إقليم قال شيخ زاده : واعلم أن أصول الأشياء أربعة : الترابُ ، والماءُ ، والهواءُ ، والنارُ ، فبيَّن تعالى بقوله { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ } أن التراب أصلٌ لمخلوق شريف مكرَّم ، وبيَّن قوله { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } أن النار أيضاً أصلٌ لمخلوق آخر عجيب الشأن ، وبيَّن بقوله { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } أن الماء أيضاً أصل لمخلوق آخر له قدرٌ وقيمة ، ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفن المشابهة للجبال فقال { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } وخصَّ السفن بالذكر لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه ، وهم معترفون بذلك حيث يقولون : " لك الفُلك ولك المُلك " وإِذا خافوا الغرق دعوا الله تعالى خاصة { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان ؟ { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } أي كل من على وجه الأرض من الإِنسان والحيوان هالك وسيموت { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي ويبقى ذات الله الواحد الأحد ، ذو العظمة والكبرياء والإِنعام والإِكرام كقوله { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] قال ابن عباس : الوجهُ عبارة عن الله جل وعلا الباقي الدائم قال القرطبي : ووجه النعمة في فناء الخلق التسويةُ بينهم في الموت ومع الموت تستوي الأقدام ، والموتُ سبب النقلة من دار الفناء إِلى دار الثواب والجزاء { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي يفتقر إِليه تعالى كل من في السماوات والأرض ، ويطلبون منه العون والرزق بلسان المقال أو بلسان الحال { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } أي كل ساعة ولحظة هو تعالى في شأن من شئون الخلق ، يغفر ذنباً ، ويفرّج كرباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين قال المفسرون : هي شئونٌ يُبديها ولا يبتديها أي يظهرها للخلق ولا ينشئها من جديد لأن القلم جفَّ على ما كان وما سيكون إِلى يوم القيامة ، فهو تعالى يرفع من يشاء ويضع من يشاء ، ويشفي سقيماً ويمرض سليماً ، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ، ويفقر غنياً ويغني فقيراً قال مقاتل : إن الآية نزلت في اليهود قالوا : إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئاً ، فردَّ الله عليهم بذلك { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان أيها الإِنس والجان ؟ { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } أي سنحاسبكم على أعمالكم يا معشر الإِنس والجنِّ قال ابن عباس : هذا وعيدٌ من الله تعالى للعباد ، وليس بالله تعالى شغل وهو فارغ قال في البحر : أي ننظر في أموركم يوم القيامة ، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ فيه ، وجرى هذا على كلام العرب يقول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك أي سأتجرد للانتقام منك من كل ما شغلني وقال البيضاوي : أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة ، وفيه تهديد مستعارٌ من قولك لمن تهدده : سأفرغ لك ، فإِن المتجرد للشيء يكون أقوى عليه ، وأجدَّ فيه ، والثقلان : الإِنسُ والجنُّ سميا بذلك لثقلهما على الأرض { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ } أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماواتِ والأرض هاربين من الله ، فارين من قضائه فأخرجوا منها ، وخلصوا أنفسكم من عقابه ، والأمر للتعجيز { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي لا تقدرون على الخروج إِلا بقوةٍ وقهر وغلبة ، وأنَّى لكم ذلك ؟ قال ابن كثير : معنى الآية أنكم لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره ، بل هو محيطٌ بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه ، أينما ذهبتم أحيط بكم ، وهذا في مقام الحشر حيث الملائكة محدقةٌ بالخلائق سبع صفوف من كل جانب ، فلا يقدر أحد على الذهاب إِلا بسلطان أي إِلا بأمر الله وإِرادته { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } [ القيامة : 10 ] ؟ وهذا إِنما يكون في القيامة لا في الدنيا بدليل قوله تعالى بعده { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ تقدم تفسيره { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } أي يرسل عليكما يوم القيامة لهب النار الحامية { وَنُحَاسٌ } أي ونحاسٌ مذاب يصبُّ فوق رءوسكم قال مجاهد : هو الصفر المعروف يصب على رءوسهم يوم القيامة وقال ابن عباس : { نحاسٌ } هو الدخان الذي لا لهب فيه ، وقول مجاهد أظهر { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } أي فلا ينصر بعضكم بعضاً ، ولا يخلصه من عذاب الله قال ابن كثير : ومعنى الآية لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكةُ وزبانية جهنم ، بإِرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا فلا تجدون لكم ناصراً { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ } أي فإِذا انصدعت يوم القيامة لتنزل الملائكة منها لتحيط بالخلائق من كل جانب { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } أي فكانت مثل الورد الأحمر من حرارة النار ، ومثل الأديم الأحمر أي الجلد الأحمر قاله ابن عباس : وذلك من شدة الهول ، ومن رهبة ذلك اليوم العظيم { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } أي ففي ذلك اليوم الرهيب يوم تنشق السماء ، لا يُسأل أحد من المذنبين من الإِنس والجن عن ذنبه ، لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه كاسوداد الوجوه ، وزرقة العيون قال الإِمام الفخر : لا يُسأل أحد عن ذنبه ، فلا يقال له : أنتَ المذنب أو غيرك ؟ ولا يقال : من المذنب منكم ؟ بل يعرفون بسواد وجوههم وغيره { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي يُعرف يوم القيامة أهل الإِجرام بعلامات تظهر عليهم وهي ما يغشاهم من الكآبة والحزن قال الحسن : سواد الوجه وزرقة الأعين كقوله تعالى { وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] وقوله { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } أي فتأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في جهنم قال ابن عباس : يُؤخذ بناصية المجرم وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب ثم يلقى في النار { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } تقدم تفسيره { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } أي يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً : هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم قال ابن كثير : أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ، ها هي حاضرةٌ تشاهدونها عياناً { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي يترددون بين نار جهنم وبين ماءٍ حار بلغ النهاية في الحرارة قال قتادة : يطوفون مرةً بين الحميم ، ومرة بين الجحيم ، والجحيم النارُ ، والحميم الشراب الذي انتهى حره { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الإنس والجان ؟ .