Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 1-56)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اللغَة : { رُجَّتِ } زلزلت وحرّكت تحريكاً شديداً { بُسَّتِ } فُتِّت حتى صارت كالدقيق المبسوس { هَبَآءً } الهباء ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة { ثُلَّةٌ } جماعة من ثللت الشيء أي قطعته قاله الزجاج فمعنى ثُلة كمعنى فرقة وزناً ومعنى { مَّوْضُونَةٍ } منسوجة محكمة النسج كأن بعضها أُدخل في بعض قال الأعشى : @ ومن نسج داود موضونة تُساق مع الحيّ عسيراً فعيراً @@ { يُصَدَّعُونَ } صُدع القوم الخمر لحقهم الصُداع في رءوسهم منها { يُنزِفُونَ } يسكرون فتذهب عقولهم { مَّخْضُودٍ } خُضد شوكه أي قُطع قال أمية بن أبي الصلت : @ إن الحدائقَ في الجنان ظليلةٌ فيها الكواعبُ سِدْرها مخْضود @@ { طَلْحٍ } الطلح : شجر الموز { مَّنضُودٍ } متراكب بعضه فوق بعض { عُرُباً } جمع عروب وهي المتحببة إِلى زوجها { سَمُومٍ } ريح حارة تدخل في مسام البدن { يَحْمُومٍ } اليحموم الشديد السواد { ٱلْحَمِيمِ } الماء المغلي { ٱلْهِيمِ } الإِبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها . التفسِير : { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } أي إِذا قامت القيامة التي لا بد من وقوعها ، وحدثت الداهية الطامة التي ينخلع لها قلب الإِنسان ، كان من الأهوال ما لا يصفه الخيال قال البيضاوي : سميت واقعة لتحقق وقوعها وقال ابن عباس : الواقعة اسم من أسماء القيامة كالصاخة والآزفة والطامة ، وهذه الأشياء تقتضي عظم شأنها { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي لا يكون عند وقوعها نفس كاذبة تكذِّب بوقوعها كحال المكذبين اليوم ، لأن كل نفسٍ تؤمن حينئذٍ لأنها ترى العذاب عياناً كقوله تعالى { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [ غافر : 84 ] { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي هي خافضة لأقوام رافعةٌ لآخرين ، تخفض أعداء الله في النار ، وترفع أولياء الله في الجنة قال الحسن : تخفض أقواماً إِلى الجحيم وإِن كانوا في الدنيا أعزة ، وترفع آخرين إِلى أعلى عليين وإِن كانوا في الدنيا وضعاء … ثم بيَّن تعالى متى يكون ذلك فقال { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } أي زلزلت زلزالاً عنيفاً ، واضطربت اضطراباً شديداً ، بحيث ينهدم كل ما فوقها من بناء شامخ ، وطودٍ راسخ قال المفسرون : تُرجُّ كما يرجُّ الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها من بناء ، وينكسر كل ما فيها من جبال وحصون { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي فتِّتت تفتيتاً حتى صارت كالدقيق المبسوس - وهو المبلول - بعد أن كانت شامخة { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } أي فصارت غباراً متفرقاً متطايراً في الهواء ، كالذي يُرى في شعاع الشمس إِذا دخل النافذة فهذا هو الهباء ، والمنبثُّ المتفرق ، وهذه الآية كقوله تعالى { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] وقوله { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } [ النبأ : 20 ] { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } أي وكنتم - أيها الناس - أصنافاً وفرقاً ثلاث " أهل اليمين ، وأهل الشمال ، وأهل السبق " فأما السابقون فهم أهل الدرجات العُلى في الجنة ، وأما أصحاب اليمين فهم سائر أهل الجنة ، وأما أصحاب الشمال فهم أهل النار ، وهذه مراتب الناس في الآخرة قال ميمون بن مهران : اثنان في الجنة وواحد في النار ، ثم فصَّلهم تعالى بقوله { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } ؟ استفهام للتفخيم والتعظيم أي هل تدري أيُّ شيء أصحاب الميمنة ؟ من هم وما هي حالهم وصفتهم ؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم في أيمانهم ، فهو تعجيبٌ لحالهم ، وتعظيم لشأنهم في دخولهم الجنة وتنعمهم بها { وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } ؟ أي هل تدري من هم ؟ وما هي حالهم وصفتهم ، إنهم الذين يؤتون صحائفهم بشمالهم ، ففيه تعجيب لحالهم في دخولهم النار وشقائهم قال القرطبي : والتكرير في { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } و { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } للتفخيم والتعجيب كقوله { ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ } [ الحاقة : 1 - 2 ] وقوله { ٱلْقَارِعَةُ * مَا ٱلْقَارِعَةُ } [ القارعة : 1 - 2 ] وقال الألوسي : والمقصود التفخيم في الأول ، والتفظيع في الثاني ، وتعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل : فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال ، وأصحاب المشأمة في غاية سوء الحال { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } هذا هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة أي والسابقون إِلى الخيرات والحسنات ، هم السابقون إِلى النعيم والجنات ، ثم أثنى عليهم بقوله { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } أي أولئك هم المقربون من الله ، في جواره ، وفي ظل عرشه ، ودار كرامته { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } أي هم في جنات الخلد يتنعمون فيها قال الخازن : فإِن قلت : لم أخَّر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم على أصحاب اليمين ؟ قلت : فيه لطيفة وذلك أنَّ الله ذكر في أول السورة الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفاً لعباده ، فإِما محسنٌ فيزداد رغبةً في الثواب ، وإِمّا مسيء فيرجع عن إِساءته خوفاً من العقاب ، فلذلك قدَّم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا ، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا ، ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجدوا ويجتهدوا { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أي السابقون المقربون جماعة كثيرة من الأمم السالفة { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } أي وهم قليلٌ من هذه الأمة قال القرطبي : وسمُّوا قليلاً بالإِضافة إِلى من كان قبلهم ، لأن الأنبياء المتقدمين كانوا كثرة ، فكثر السابقون إِلى الإِيمان منهم ، فزادوا على عدد من سبق إِلى التصديق من أمتنا ، قال الحسن : سابقوا من مضى أكثر من سابقينا ثم تلا الآية وقيل : إِن المراد بقوله { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } أول هذه الأمة ، والآخرون المتأخرون من هذه الأمة ، فيكون كلا الفريقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } أي جالسين على أسرَّة منسوجة بقضبان الذهب ، مرصَّعة بالدر والياقوت قال ابن عباس : { مَّوْضُونَةٍ } أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا } أي حال كونهم مضطجعين على تلك الأسرَّة شأن المنعَّمين المترفين { مُتَقَابِلِينَ } أي وجوه بعضهم إلى بعض ، ليس أحد وراء أحد ، وهذا أدخل في السرور ، وأكمل في أدب الجلوس { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي يدور عليهم للخدمة أطفال في نضارة الصبا ، لا يموتون ولا يهرمون قال أبو حيان : وُصفوا بالخلد - وإِن كان كل من في الجنة مخلداً - ليدل على أنهم يبقون دائماً في سنِّ الولدان ، لا يتحولون ولا يكبرون كما وصفهم جل وعلا { بِأَكْوَابٍ } أي بأقداح كبيرة مستديرة لا عُرى لها { وَأَبَارِيقَ } جمع إِبريق أي وبأباريق لها عُرى تبرق من صفاء لونها { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أي وكأسٍ من خمرٍ لذة جارية من العيون قال ابن عباس : لم تعصر كخمر الدنيا بل هي من عيون سارحة قال القرطبي : والمعين الجاري من ماء أو خمر ، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون ، ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصرٍ وتكلف ومعالجة { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي لا تنصدع رءوسهم من شربها { وَلاَ يُنزِفُونَ } أي ولا يسكرون فتذهب بعقولهم فتذهب بعقولهم كخمر الدنيا قال ابن عباس : في الخمر أربع خصال : السُّكرُ ، والصُّداع ، والقيءُ ، والبول ، وقد ذكر تعالى خمر الجنة ونزَّهها عن هذه الخصال الذميمة { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أي ولهم فيها فاكهة كثيرة يختارون ما تشتهيه نفوسهم لكثرتها وتنوعها { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي ولحم طيرٍ مما يحبون ويشتهون قال ابن عباس : يخطر على قلب أحدهم لحم الطير فيطير حتى يقع بين يديه على ما اشتهى مقلياً أو مشوياً وفي الحديث " إنك لتنظر إِلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً " قال الرازي : وقدَّم الفاكهة على اللحم لأن أهل الجنة يأكلون لا عن جوع بل للتفكه ، فميلهم إِلى الفاكهة أكثر كحال الشبعان في الدنيا فلذلك قدمها { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي ولهم مع ذلك النعيم نساء من الحور العين ، الواسعات العيون ، في غاية الجمال والبهاء ، كأنهن اللؤلؤ في الصفاء والنقاء ، الذي لم تمسه الأيدي قال في التسهيل : شبههن باللؤلؤ في البياض ، ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه ، وحين " سألت " أم سلمة " رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه قال " صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي " { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي جعلنا لهم ذلك كله جزاءً لعملهم الصالح في الدنيا … ثم أخبر تعالى عن كمال نعيمهم في الجنة فقال { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } أي لا يطرق آذانهم فاحشُ الكلام ، ولا يلحقهم إِثمٌ مما يسمعون قال ابن عباس : لا يسمعون باطلاً ولا كذباً { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } أي إلا قول بعضهم لبعضٍ سلاماً سلاماً ، يُحيي به بعضهم بعضاً ويفشون السلام فيما بينهم قال في البحر : والظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم وقال أبو السعود : والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلّمون سلاماً بعد سلام ، أو لا يسمع كلٌ منهم إِلا سلام الآخر بدءاً أو ردّاً . . ثم شرع في تفصيل أحوال الصنف الثاني وهم أصحاب اليمين فقال { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } ؟ استفهام للتعظيم والتعجيب من حالهم أي ما أدراك من هم ، وما هي حالهم ؟ { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } أي هم تحت أشجار النبق الذي قطع شوكه قال المفسرون : والسِّدرُ : شجر النبق ، والمخضود الذي خُضد أي قُطع شوكه ، وفي الحديث " أن أعرابياً جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : إن الله تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ، فقال : وما هي ؟ قال : السدر فإِن له شوكاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليس اللهُ يقول { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } ؟ خضَدَ اللهُ شوكه فجعل مكان كل شوكةٍ ثمرة ، وإِن الثمرة من ثمره تفتَّق عن اثنين وسبعين لوناً من الطعام ، ما فيها لونٌ يشبه الآخر " { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } هو شجر الموز ومعنى { مَّنضُودٍ } أي متراكم قد نُضد بالحمل من أسفله إِلى أعلاه { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } أي وظل دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس ، لأن الجنة ظل كلها لا شمس فيها { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } [ الإِنسان : 13 ] وفي الحديث " إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } وقال الرازي : ومعنى { مَّمْدُودٍ } أي لا زوال له فهو دائم { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] أي دائم ، والظلُّ ليس ظل الأشجار ، بل ظل يخلقه الله تعالى { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } أي وماءٍ جارٍ دائماً لا ينقطع ، يجري في غير أخدود قال القرطبي : كانت العرب أصحاب بادية ، والأنهار في بلادهم عزيزة ، لا يصلون إِلىالماء إِلا بالدلو والرشاء ، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة وهي الأشجار وظلالها ، والمياه والأنهار وجريانها { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أي وفاكهةٍ كثيرة متنوعة ، ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم ، لا تنقطع كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء ، وليست ممنوعة عن أحد ، قال ابن عباس : لا تنقطع إِذا جُنيت ، ولا تمتنع من أحدٍ إِذا أراد أخذها وفي الحديث " ما قُطعت ثمرةٌ من ثمار الجنة إِلا عاد مكانها أخرى " { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي عالية وطيئة ناعمة وفي الحديث " ارتفاعها كما بين السماء والأرض ، ومسيرة ما بينهما خمس مائة عام " قال الألوسي : ولا تستبعد هذا من حيث العروجُ والنزولُ ، فالعالم عالم آخر فوق طور عقلك تنخفض للمؤمن إِذا أراد الجلوس عليها ثم ترتفع به ، والله على كل شيء قدير { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } أي خلقنا نساء الجنة خلقاً جديداً ، وأبدعناهن إِبداعاً عجيباً ، قال في التسهيل : ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقاً آخر في غاية الحسن بخلاف الدنيا ، فالعجوز ترجع شابة ، والقبيحة ترجع جميلة قال ابن عباس : يعني الآدميات العجائز الشمط خلقهن الله بعد الكبر والهرم خلقاً آخر { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } أي فجعلناهن عذارى ، كلما أتاهنَّ أزواجهن وجدوهنَّ أبكاراً { عُرُباً } جمع عروب وهي المتحببة لزوجها العاشقة له قال مجاهد : هنَّ العاشقات لأزواجهن المتحببات لهن اللواتي يشتهين أزواجهن { أَتْرَاباً } أي مستويات في السنِّ مع أزواجهن ، في سنّ أبناء ثلاث وثلاثين ، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً } فقال يا أم سلمة : هنَّ اللواتي قُبضن في الدنيا عجائز ، شُمطاً عُمشاً ، رُمصاً ، جعلهن الله بعد الكِبر أتراباً على ميلادٍ واحد في الاستواء " وفي الحديث " أن امرأة عجوزاً جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : أُدع الله أن يُدخلني الجنة ، فقال : يا أم فلان إِن الجنة لا تدخلها عجوز ، فولَّت تبكي ، فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، فإِن الله تعالى يقول { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } " { لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أي أنشأنا هؤلاء النساء الأبكار لأصحاب اليمين ليستمتعوا بهنَّ في الجنة ، ثم قال تعالى { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } أي هم جماعة من الأولين من الأمم الماضية ، وجماعة من المتأخرين من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال في البحر : ولا تنافي بين هذه الآية { وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } وبين الآية التي سبقتها وهي قوله { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } لأن الثانية في السابقين فلذلك قال { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } وهذه في أصحاب اليمين ولذلك قال { وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } … ثم شرع تعالى في بيان الصنف الثالث وهم أهل النار فقال { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } استفهام بمعنى التهويل والتفظيع والتعجيب من حالهم أي وأصحابُ الشمال - وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم - ما أصحاب الشمال ؟ أي ما حالهم وكيف مآلهم ؟ ثم فصَّل تعالى حالهم فقال { فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ } أي في ريح حارة من النار تنفذ في المسام ، وماءٍ شديد الحرارة { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي وفي ظلٍ من دخان أسود شديد السواد { لاَّ بَارِدٍ } أي ليس هذا الظل بارداً يستروح به الإِنسان من شدة الحر { وَلاَ كَرِيمٍ } أي وليس حسن المنظر يُسرُّ به من يستفيء بظله قال الخازن : إِن فائدة الظل ترجع إِلى أمرين : أحدهما : دفع الحر ، والثاني : حسن المنظر وكون الإِنسان فيه مكرماً ، وظلُّ أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار … ثم بيَّن تعالى سبب استحقاقهم ذلك فقال { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي لأنهم كانوا في الدنيا منعَّمين ، مقبلين على الشهوات والملذات { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } أي وكانوا يداومون على الذنب العظيم وهو الشرك بالله قال المفسرون : لفظ الإِصرار يدل على المداومة على المعصية ، والحنثُ هو الذنب الكبير والمراد به هنا الكفر بالله كما قاله ابن عباس { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } أي هل سنبعث بعد أن تصبح أجسادنا تراباً وعظاماً نخرة ؟ وهذا استبعادٌ منهم لأمر البعث وتكذيب له { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } ؟ تأكيدٌ للإِنكار ومبالغة فيه أي وهل سيبعث آباؤنا الأوائل بعد أن بليت أجسامهم وتفتَّتت عظامهم ؟ { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي قل لهم يا محمد : إِن الخلائق جميعاً السابقين منهم واللاحقين ، سيجمعون ويحشرون ليوم الحساب الذي حدَّده الله بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } [ هود : 103 - 104 ] { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } أي ثم إنكم يا معشر كفار مكة ، الضالون عن الهدى ، المكذبون بالبعث والنشور ، لآكلون من شجر الزقوم الذي ينبت في أصل الجحيم { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } أي فمالئون بطونكم من تلك الشجرة الخبيثة لغلبة الجوع عليكم { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ } أي فشاربون عليه الماء الحار الذي اشتد غليانه { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } أي فشاربون شرب الإِبل العطاش قال ابن عباس : الهيمُ الإِبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها وقال أبو السعود : إنه يسلط على أهل النار من الجوع ما يضطرهم إِلى أكل الزقوم الذي هو كالمُهل ، فإِذا ملأوا منه بطونهم - وهو في غاية الحرارة والمرارة - سُلِّط عليهم من العطش ما يضطرهم إِلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم ، فيشربونه شرب الهيم وهي الإِبل التي بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى { هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ } أي هذه ضيافتهم وكرامتهم يوم القيامة ، وفيه تهكم بهم قال الصاوي : والنُزُل في الأصل ما يهيأ للضيف أول قدومه من التحف والكرامة ، فتسمية الزقوم نُزلاً تهكم بهم .