Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 57-96)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى الأشقياء المجرمين وأحوالهم في نار جهنم ، ذكر هنا الأدلة والبراهين على قدرة الله ووحدانيته في بديع خلقه وصنعه ، لتقوم الحجة على المنكر المكذب بوجود الله ، وختم السورة الكريمة بالتنويه بذكر أهل السعادة ، وأهل الشقاوة ، والسابقين إِلى الخيرات ، ليكون ذلك كالتفصيل لما ورد في أول السورة من الإِجمال ، والإِشادة بذكر مآثر المقربين في البدء والمآل . اللغَة : { تَفَكَّهُونَ } تفكَّه بالشيء تمتَّع به ، ورجلٌ فَكه منبسط النفس غير مكترث بشيء { ٱلْمُزْنِ } السحاب جمع مُزْنة قال الشاعر : @ ونحن كماء المُزن ما في نصابنا كَهَامٌ ولا فينا يُعدُّ بخيل @@ { تُورُونَ } أورى النار من الزناد قدحها { لِّلْمُقْوِينَ } المسافرين يقال أقوى الرجل إِذا دخل القواء وهو القفر ، والقوى الجوع قال الشاعر : @ وإِني لأختار القوى طاوي الحشا محافظةً من أن يُقال لئيم @@ { مُّدْهِنُونَ } المدهن : الذي ظاهره خلاف باطنة ، كأنه شُبّه بالدهن في سهولة ظاهره ومنه المداهنة { مَدِينِينَ } مجزيين ومحاسبين من الدين بمعنى الجزاء { فَرَوْحٌ } الرَّوح بفتح الراء الاستراحة { رَيْحَانٌ } الريحان : كل مشموم طيب الريح من النبات . التفسِير : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } أي نحن خلقناكم أيها الناسُ من العدم ، فهلاَّ تصدقون بالبعث ؟ فإِن من قدر على البدء قادرٌ على الإِعادة { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } أي أخبروني عمَّا تصبُّونه من المنيّ في أرحام النساء { أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } ؟ أي هل أنتم تخلقون هذا المنيَّ بشراً سوياً ، أم نحن بقدرتنا خلقناه وصوَّرناه ؟ ! قال القرطبي : وهذا احتجاج على المشركين وبيانٌ للآية الأولى والمعنى إِذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } أي نحن قضينا وحكمنا عليكم بالموت وساوينا بينكم فيه قال الضحاك : ساوى فيه بين أهل السماء والأرض ، سواء في الشريف والوضيع ، والأمير والصعلوك { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي وما نحن بعاجزين { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } أي على أن نهلككم ونستبدل قوماً غيركم يكونون أطوع لله منكم كقوله تعالى { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [ إبراهيم : 19 ] { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي ولسنا بعاجزين أيضاً أن نعيدكم يوم القيامة في خلقةٍ لا تعلمونها ولا تصل إِليها عقولكم ، والغرضُ أن الله قادر على أن يهلكهم وأن يعيدهم وأن يبعثهم يوم القيامة ، ففي الآية تهديد واحتجاج على البعث { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ } أي ولقد عرفتم أن الله أنشأكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً ، فخلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أي فهلا تتذكرون بأن الله قادر على إِعادتكم كما قدر على خلقكم أول مرة ؟ { أَوَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [ مريم : 67 ] ؟ ! { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } هذه حجة أخرى على وحدانية الله وقدرته أي أخبروني عن البذر الذي تلقونه في الطين { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } ؟ أي أأنتم تنبتونه وتنشئونه حتى يكون فيه السنبل والحبُّ أم نحن الفاعلون لذلك ؟ فإِذا أقررتم أن الله هو الذي يخرج الحبَّ وينبت الزرع ، فكيف تنكرون إِخراجه الأموات من الأرض ؟ { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } أي لو أردنا لجعلنا هذا الزرع هشيماً متكسراً لا ينتفع به في طعام ولا غيره قال القرطبي : والحُطام الهشيم الهالك الذي لا يُنتفع به في مطعم ولا غذاء ، فنبههم بذلك على أمرين : أحدهما : ما أولاهم به من النعم في زرعهم ليشكروه الثاني : ليعتبروا في أنفسهم فكما أنه تعالى يجعل الزرع حُطاماً إِذا شاء ، كذلك يهلكهم إِذا شاء ليتعظوا فينزجروا { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } أي فظللتم وبقيتم تتفجعون وتحزنون على الزرع مما حلَّ به وتقولون { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } أي إنا لمحمَّلون الغرم في إِنفاقنا حيث ذهب زرعنا وغرمنا الحبَّ الذي بذرناه { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي بل نحن محرومون الرزق ، غرمنا قيمة البذر ، وحُرمنا خروج الزرع { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ } أي أخبروني عن الماء الذي تشربونه عذباً فراتاً لتدفعوا عنكم شدة العطش { أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } أي هل أنتم الذين أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون له بقدرتنا ؟ قال الخازن : ذكَّرهم تعالى نعمته عليهم بإِنزال المطر الذي لا يقدر عليه إِلا اللهُ عز وجل { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } أي لو شئنا لجعلناه ماءً مالحاً شديد الملوحة لا يصلح لشرب ولا لزرع قال ابن عباس : { أُجَاجاً } شديد الملوحة وقال الحسن : مُرّاً زُعافاً لا يمكن شربه { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } أي فهلاّ تشكرون ربكم على نعمه الجليلة عليكم ؟ ! وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا شرب الماء قال " الحمد لله الذي سقانا عذباً فُراتاً برحمته ، ولم يجعله ملحاً أُجاجاً بذنوبنا " { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ } أي أخبروني عن النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } أي هل أنتم الذين خلقتم شجرها أم نحن الخالقون المخترعون ؟ قال ابن كثير : وللعرب شجرتان : إِحداهما المرخُ ، والأُخرى العُفار ، إِذا أُخذ منهما غصنان أخضران ، فحُك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار ، وقيل : أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار ، لما روي عن ابن عباس أنه قال : ما من شجرة ولا عود إِلا وفيه النار سوى العُناب { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } أي جعلنا نار الدنيا تذكيراً للنار الكبرى " نار جهنم " إِذا رآها الرائي ذكر بها نار جهنم ، فيخشى اللهَ ويخاف عقابه وفي الحديث " ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم ، فقالوا يا رسول الله : إِنْ كانت لكافية ! ! فقال : والذي نفسي بيده لقد فضّلت عليها بتسعة وتسعين جزءاً ، كلهن مثل حرها " { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } أي ومنفعةً للمسافرين قال ابن عباس : { المقوين } المسافرين ، وقال مجاهد : للحاضر والمسافر ، المستمتعين بالنار من الناس أجمعين قال الخازن : والمقوي النازلُ في الأرض القواء - وهي الأرض الخالية البعيدة عن العمران - والمعنى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسُفَّار ، فإِن منفعتهم أكثر من المقيم ، فإِنهم يوقدون النار بالليل لتهرب السباع ويهتدي بها الضال إِلى غير ذلك من المنافع وهو قولِ أكثر المفسرين … ولما ذكر دلائل القدرة والوحدانية في الإِنسان ، والنبات ، والماء ، والنار ، أمر رسوله بتسبيح الله الواحد القهار فقال { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي فنزِّه يا محمد ربك عما أضافه إِليه المشركون من صفات العجز والنقص وقل : سبحان من خلق هذه الأشياء بقدرته ، وسخَّرها لنا بحكمته ، سبحانه ما أعظم شأنه ، وأكبر سلطانه ! ! عدَّد سبحانه وتعالى نعمه على عباده ، فبدأ بذكر خلق الإٍنسان فقال { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } ثم بما به قوامه ومعيشته وهو الزرع فقال { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } ثم بما به حياته وبقاؤُه وهو الماء فقال { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ } ثم بما يصنع به طعامه ، ويصلح به اللحوم والخضار وهو النار فقال { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ } فيا له من إله كريم ، ومنعمٍ عظيم ! ! ثم شرع بالقسم على جلال القرآن ورفعته ، وعلو شأنه ومنزلته ، وأنه تنزيل العزيز الحكيم فقال { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } اللام لتأكيد الكلام وتقويته ، وزيادة " لا " كثير في كلام العرب ومشهور قال الشاعر : @ تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابةٌ وكادَ نياطُ القلب لا يتقطَّع @@ اي كاد يتقطع قال القرطبي : " لا " صلة في قول أكثر المفسرين والمعنى " فأقسم " بدليل قوله بعده { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ } أي فأقسم بمنازل النجوم وأماكن دورانها في أفلاكها وبروجها { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي وإِن هذا القسم العظيم جليل ، لو عرفتم عظمته لآمنتم وانتفعتم به ، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة ، وكمال الحكمة ، وفرط الرحمة ، ومن مقتضيات رحمته تعالى أن لا يترك عباده سُدى { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } هذا هو المقسم عليه ، والمعنى أقسم بمواقع النجوم إِن هذا القرآن قرآن كريم ، ليس بسحرٍ ولا كهانة وليس بمفترى ، بل هو قرآن كريم مجيد ، جعله الله معجزة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو كثير المنافع والخيرات والبركات { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } أي في كتاب مصونٍ عند الله تعالى ، محفوظ عن الباطل وعن التبديل والتغيير قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ ، وقال مجاهد : هو المصحف الذي بأيدينا { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } أي لا يمس ذلك الكتاب المكنون إِلا المطهرون ، وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث ، أو لا يمسُّه إِلا من كان متوضئاً طاهراً قال القرطبي المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا وهو الأظهر لقول ابن عمر " لا تمسَّ القرآن إلا وأنت طاهر " ولكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وألاَّ يمسَّ القرآن إِلا طاهر " { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي منزَّل من عند الله جل وعلا … ثم لمَّا عظم أمر القرآن ومجَّد شأنه وبخ الكفار فقال { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } أي أفبهذا القرآن يا معشر الكفار تكذبون وتكفرون ؟ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون برازقكم ، وهو المنعم المتفضل عليكم ؟ { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } أي فهلاَّ إِذا بلغت الروح الحلقوم عند معالجة سكرات الموت { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } أي وأنتم في ذلك الوقت تنظرون إِلى المحتضر وما يكابده من شدائد وأهوال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } أي ونحن بعلمنا واطلاعنا أقرب إلى الميت منكم ولكنْ لا تعلمون ذلك ، ولا تبصرون ملائكتنا الذين حضروه لقبض روحه قال ابن كثير : ومعنى الآية ملائكتنا أقرب إِليه منكم ولكن لا ترونهم كما قال تعالى { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أي فهلاَّ إِن كنتم غير مجزيين بأعمالكم كما تزعمون { تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي تردون نفس هذا الميت إِلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم قال ابن عباس : { غَيْرَ مَدِينِينَ } أي غير محاسبين ولا مجزيين قال الخازن : أجاب عن قوله { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } وعن قوله { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } بجوابٍ واحد وهو قوله { تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ومعنى الآية : إِن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث ولا حساب ، ولا إِله يجازي ، فهلاّ تردون نفس من يعزُّ عليكم إِذا بلغت الحلقوم ؟ وإِذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إِلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به … ثم ذكر تعالى طبقات الناس عند الموت وعند البعث ، وبيَّن درجاتهم في الآخرة فقال { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } أي فأما إِن كان هذا الميت من المحسنين السابقين بالدرجات العلا ، فله عند ربه استراحة ورزق حسن وجنة واسعة يتنعم فيها قال القرطبي : والمراد بالمقربين السابقون المذكورون في أول السورة { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أي وأما إِن كان المحتضر من السعداء أهل الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أي فسلامٌ لك يا محمد منهم ، لأنهم في راحةٍ وسعادة ونعيم { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } أي وأما إِن كان المحتضر من المنكرين للبعث ، الضالين عن الهدى والحق { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أي فضيافتهم التي يُكرمون بها أول قدومهم ، الحميمُ الذي يصهر البطون لشدة حرارته قال في التسهيل : النُزل أول شيءٍ يُقدم للضيف { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي ولهم إِصلاءٌ بنار جهنم وإِذاقة لهم من حرها { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } أي إِن هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من جزاء السابقين ، والسعداء ، والأشقياء لهو الحقُّ الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب ، وهو عين اليقين الذي لا يمكن إِنكاره { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي فنزِّه ربك عن النقص والسوء ، وعمَّا يصفه به الظالمون ، لما نزلت هذه الآية الكريمة قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } قال صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في سجودكم " . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - جناس الاشتقاق { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [ الواقعة : 1 ] والجناس الناقص في قوله { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } . 2 - الطباق بين { ٱلْمَيْمَنَةِ … و ٱلْمَشْأَمَةِ } وبين { ٱلأَوَّلِينَ … وَٱلآخِرِينَ } وبين { خَافِضَةٌ … رَّافِعَةٌ } وفي إِسناد الخفض والرفع إِلى القيامة مجاز عقلي ، لأن الخافض والرافع على الحقيقة هو الله وحده ، يرفع أولياءه ويخفض أعداءه ، ونسب إِلى القيامة مجازاً كقولهم " نهاره صائم " . 3 - التشبيه المرسل المجمل { حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } [ الواقعة : 22ـ23 ] أي كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفائه ، حذف منه وجه الشبه فهو مرسل مجمل . 4 - التفخيم والتعظيم { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } [ الواقعة : 27 ] كرره بطريق الاستفهام تفخيماً . 5 - التفنن بذكر أصحاب الميمنة ثم بذكر أصحاب اليمين ، وكذلك بذكر المشئمة وذكر أصحاب الشمال { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } [ الواقعة : 8 ] { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } [ الواقعة : 27 ] . 6 - تأكيد المدح بما يشبه الذم { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [ الواقعة : 25 - 26 ] لأن السلام ليس من جنس اللغو والتأثيم ، فهو مدح لهم بإِفشاء السلام ، وهذا كقول القائل " لا ذنب لي إِلا محبتُك " . 7 - التهكم والاستهزاء { هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ } [ الواقعة : 56 ] أي هذا العذاب أول ضيافتهم يوم القيامة ففيه سخرية وتهكم بهم لأن النزل هو أول ما يقدم للضيف من الكرامة . 8 - الالتفات من الخطاب إِلى الغيبة { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 51 ] - ثم قال بعد ذلك ملتفتاً عن خطابهم { هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ } [ الواقعة : 56 ] وذلك للتحقير من شأنهم ، والأصل هذا نزلكم . 9 - الجملة الاعتراضية وفائدتها لفت الأنظار إِلى أهمية القسم { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } جاءت الجملة الاعتراضية { لَّوْ تَعْلَمُونَ } بين الصفة والموصوف للتهويل من شأن القسم . 10 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مما يزيد في رونق الكلام وجماله مثل { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 28 - 30 ] ومثل { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } [ الواقعة : 54 - 55 ] ويسمى هذا بالسجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية . لطيفَة : المناسبة بين المقسم به وهو النجوم وبين المقسم عليه وهو القرآن { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أن النجوم جعلها الله ليهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر ، وآيات القرآن يُهتدى بها في ظلمات الجهل والضلالة ، وتلك ظلمات حسية ، وهذه ظلمات معنوية ، فالقسم هنا جاء جامعاً بين الهدايتين : الحسية للنجوم ، والمعنوية للقرآن ، فهذا وجه المناسبة والله أعلم .