Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 16-29)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى اغترار المنافقين والكافرين بالحياة الدنيا ، نبَّه المؤمنين ألا يكونوا مثلهم ، أو مثل أهل الكتاب بالاغترار بدار الفناء ، ثم ضرب مثلاً للحياة الدنيا وبهرجها الخادع الكاذب ، وختم السورة الكريمة ببيان فضيلة التقوى والعمل الصالح ، وأرشد المؤمنين إِلى مضاعفة الأجر والنور باتباعهم هدي الرسول صلى الله عليه وسلم . اللغَة : { يَأْنِ } يحن يقال : أني يأْني مثل رمى يرمي أي حان ، قال الشاعر : @ ألم يأنِ لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يُحدث الشيب المبينُ لنا عقلاً @@ { تَخْشَعَ } تذل وتلين { ٱلأَمَدُ } الأجل أو الزمان { يَهِيجُ } هاج الزرع إِذا جف ويبس بعد خضرته ونضارته { حُطَاماً } فُتاتاً يتلاشى بالرياح { قَفَّيْنَا } ألحقنا وأتبعنا { كِفْلَيْنِ } مثنى كفل وهو النصيب . سَبَبُ النّزول : لما قدم المؤمنون المدينة ، أصابوا من لين العيش ورفاهيته ، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزلت هذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } قال ابن مسعود : " ما كان بين إِسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إِلا أربع سنوات " . التفسِير : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } أي أما حان للمؤمنين أن ترقَّ قلوبهم وتلين لمواعظ الله ؟ { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي ولما نزل من آيات القرآن المبين ؟ { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ } أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل { فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم ، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة قال ابن عباس : { قست قلوبهم } مالوا إِلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن وقال أبو حيان : أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة والغرض أن الله يحذِّر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى حين قست قلوبهم لما طال عليهم الزمان { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله ، رافضون لتعاليم دينهم ، من فرط قسوة القلب قال ابن كثير : نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الزمن بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، ونبذوه وراء ظهورهم ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة ، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحيي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر ، ويخرج منها النبات بعد يبسها ، وهو تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر وتلاوة القرآن ، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث الهتان قال ابن عباس : يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتةً منيبة ، وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال في البحر : ويظهر أنه تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها ، ولتأثير ذكر الله فيها ، فكما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إِجدابها مخصبة ، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلةً يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ } أي وضحنا لكم الحجج والبراهين الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله ، والذين أنفقوا في سبيل الله وفي وجوه البر والإِحسان طيبة بها نفوسهم { يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي يضاعف لهم ثوابهم بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها ، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة قال المفسرون : أصل { ٱلْمُصَّدِّقِينَ } المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدّقين ، ومعنى القرض الحسن هو التصدق عن طيب النفس ، وخلوص النية للفقير ، فكأن الإِنسان بإِحسانه إِلى الفقير قد أقرض اللهَ قرضاً يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي صدَّقوا بوحدانية الله ووجوده ، وآمنوا برسله إِيماناً راسخاً كاملاً ، لا يخالجه شك ولا ارتياب { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } أي أولئك الموصوفون بالإِيمان بالله ورسله ، هم الذين جمعوا أعلى المراتب فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله فهو صدِّيقٌ وشهيد { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل ، والنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } أي والذين جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته أولئك هم المخلدون في دار الجحيم قال البيضاوي : فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار ، من حيث أن الصيغة تشعر بالاختصاص { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } والصحبة تدل على الملازمة . . ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ، ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ } أي اعلموا يا معشر السامعين أن هذه الحياة الدنيا ما هي إِلا لعبٌ يُتعب الناس فيها أنفسهم كإِتعاب الصبيان أنفسهم باللعب { وَلَهْوٌ } أي وشغل للإِنسان يشغله عن الآخرة وطاعة الله { وَزِينَةٌ } أي وزينة يتزين بها الجهلاء كالملابس الحسنة ، والمراكب البهية ، والمنازل الرفيعة { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } أي ومباهاة وافتخار بالأحساب والأنساب والمال والولد كما قال القائل : @ أرى أهل القُصور إِذا أُميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور أبوا إِلا مباهاةً وفخراً على الفقراء حتى في القبور @@ { وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ } أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد قال ابن عباس : يجمع المال من سخط الله ، ويتباهى به على أولياء الله ، ويصرفه في مساخط الله ، فهو ظلماتٌ بعضها فوق بعض { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } أي كمثل مطرٍ غزير أصاب أرضاً ، فأعجب الزُرَّاع نباتُه الناشىء عنه { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } أي ثم ييبس بعد خضرته ونُضرته فتراه مصفر اللون بعد أن كان زاهياً ناضراً { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } أي ثم يتحطم ويتكسر بعد يبسه وجفافه فيصبح هشيماً تذروه الرياح كذلك حال الدنيا قال القرطبي : والمراد بالكفار هنا الزُرَّاع لأنهم يغطون البذر ، ومعنى الآية أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إِليه لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً كأن لم يكن ، وإِذا أعجب الزراع فهو في غاية الحسن { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانٌ } أي والجزاء في الآخرة إِما عذاب شديد للفجار ، وإِما مغفرة من الله ورضوانٌ للأبرار { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } أي وليست الحياة الدنيا في حقارتها وسرعة انقضائها إِلا متاعٌ زائل ، ينخدع بها الغافل ، ويغتر بها الجاهل قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغُرور إِن ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إِذا دعتك إِلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة ، فنعم المتاع ونعم الوسيلة . . ولما حقَّر الدنيا وصغَّر أمرها ، وعظَّم الآخرة وفخَّم شأنها ، حثَّ على المسارعة إِلى نيل مرضاة الله ، التي هي سبب للسعادة الأبدية في دار الخلود والجزاء فقال { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي تسابقوا أيها الناس وسارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم قال أبو حيان : وجاء التعبير بلفظ { سَابِقُوۤاْ } كأنهم في ميدان سباق يجرون إِلى غاية مسابقين إِليها ، والمعنى سابقوا إِلى سبب مغفرة وهو الإِيمان ، وعملُ الطاعات { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي وسارعوا إِلى جنةٍ واسعة فسيحة ، عرضها كعرض السماوات السبع مع الأرض مجتمعة قال السدي : إِن الله تعالى شبَّه عرض الجنة بعرض السماوات السبع والأرضين السبع ، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها ، فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك وقال البيضاوي : إِذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول ، { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي هيأها الله وأعدها للمؤمنين المصدّقين بالله ورسله قال المفسرون : وفي الآية دلالة على أن الجنة مخلوقة وموجودة لأن ما لم يُخلق بعد لا يوصف بأنه أُعدَّ وهُيءَ { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي ذلك الموعود به من المغفرة والجنة هو عطاء الله الواسع ، يتفضل به على من يشاء من عباده من غير إِيجاب { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } أي ذو العطاء الواسع والإِحسان الجليل { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ } أي ما يحدث في الأرض مصيبةً من المصائب كقحطٍ ، وزلزلةٍ ، وعاهة في الزروع ، ونقصٍ في الثمار { وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } أي من الأمراض ، والأوصاب ، والفقر ، وذهاب الاولاد { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } أي إِلاَّ وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلقها ونوجدها قال في التسهيل : المعنى أن الأمور كلها مقدَّرة في الأزل ، مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون ، وفي الحديث " إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء " { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي إن إثبات ذلك على كثرته سهلٌ هيّنٌ على الله عز وجل وإِن كان عسيراً على العباد … ثم بيَّن تعالى لنا الحكمة في إِعلامنا عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر فقال { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } أي أثبت وكتب ذلك كي لا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } أي ولكي لا تبطروا بما أعطاكم الله من زهرة الدنيا ونعيمها قال المفسرون : والمراد بالحزن الحزنُ الذي يوجب القنوط ، وبالفرح الفرحُ الذي يورث الأشر والبطر ، ولهذا قال ابن عباس : " ليس من أحدٍ إِلا وهو يحزن ويفرح ، ولكنَّ المؤمن يجعل مصيبته صبراً ، وغنيمته شكراً " ومعنى الآية : لا تحزنوا حزناً يخرجكم إِلى أن تهلكوا أنفسكم ، ولا تفرحوا فرحاً شديداً يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ، ولهذا قال بعض العارفين : " من عرف سرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب " وقال عمر رضي الله عنه : " ما أصابتني مصيبة إِلا وجدت فيها ثلاث نعم : الأولى : أنها لم تكن في ديني ، الثانية : أنها لم تكن أعظم مما كانت ، الثالثة : أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 155 - 157 ] { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي لا يحب كل متكبر معجبٍ بما أعطاه الله من حظوظ الدنيا ، فخور به على الناس … ثم بيَّن تعالى أوصاف هؤلاء المذمومين فقال { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } أي يبخلون بالإِنفاق في سبيل الله ، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ويرغبوهم في الإِمساك { وَمَن يَتَوَلَّ } أي ومن يعرض عن الإِنفاق { فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } أي فإِن الله مستغنٍ عنه وعن إِنفاقه ، محمودٌ في ذاته وصفاته ، لا يضره الإِعراض عن شكره ، ولا تنفعه طاعة الطائعين ، وفيه وعيدٌ وتهديد { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد بعثنا رسلنا بالحجج القواطع والمعجزات البينات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ } أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية التي فيها سعادة البشرية ، وأنزلنا القانون الذي يُحكم به بين الناس ، وفسَّر بعضهم الميزان بأنه العدلُ وقال ابن زيد : هو ما يُوزن به ويُتعامل { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } أي ليقوم الناس بالحق والعدل في معاملاتهم { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد ، لأن آلات الحرب تُتخذ منه ، كالدروع ، والرماح ، والتروس ، والدبابات وغير ذلك { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي وفيه منافع كثيرة للناس كسكك الحراثة ، والسكين ، والفأس وغير ذلك وما من صناعةٍ إِلا والحديدُ آلة فيها قال أبو حيان : وعبَّر تعالى عن إيجاده بالإِنزال كما قال { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تُلقى من السماء جعل الكل نزولاً منها ، وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله الجمهور { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } عطفٌ على محذوف مقدر أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ويجاهدوا لإِعلاء كلمة الله ، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة مؤمناً بالغيب قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه ، ثم قال تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه ، عزيزٌ أي غالب لا يُغالب فهو غني بقدرته وعزته عن كل أحد قال البيضاوي : أي قويٌ على إِهلاك من أراد إِهلاكه ، عزيزٌ لا يفتقر إِلى نصرة أحد ، وإِنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا الثواب وقال ابن كثير : معنى الآية أنه جعل الحديد رادعاً لمن أبى الحقَّ وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة تُوحى إِليه السور ، ويقارعهم بالحجة والبرهان ، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله ، شرع الله الهجرة وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب ، ولهذا قال عليه السلام " بُعثت بالسيف بين يدي الساعة ، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي ، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم " ثم قال تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي هو قوي عزيز ينصر من شاء من غير احتياج منه إِلى الناس ، وإِنما شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } لما ذكر بعثة الرسل ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام ، وأبا الأنبياء إِبراهيم عليه السلام وبيَّن أنه جعل في نسلهما النبوة والكتب السماوية أي وباللهِ لقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم وجعلنا النبوة في نسلهما ، كما أنزلنا الكتب الأربعة وهي " التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن " على ذريتهما ، وإِنما خصَّ نوحاً وإِبراهيم بالذكر تشريفاً لهما وتخليداً لمآثرهما الحميدة { فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي فمن ذرية نوح وإِبراهيم أناس مهتدون ، وكثيرٌ منهم عصاةٌ خارجون عن الطاعة وعن الطريق المستقيم { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا } أي ثم أتبعنا بعدهم برسلنا الكرام ، أرسلناهم رسولاً بعد رسول ، موسى ، وإِلياس ، وداود ، وسليمان ، ويونس وغيرهم { وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } أي وجعلناه بعد أولئك الرسل لأن كان آخر الأنبياء من بني إِسرائيل { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } أي وأنزلنا عليه الإِنجيل الذي فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي وجعلنا في قلوب أتباعه الحواريين الشفقة واللين قال في التسهيل : هذا ثناء من الله عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي ورهبانيةً ابتدعها القسسُ والرهبان وأحدثوها من تلقاء أنفسهم ، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها قال أبو حيان : والرهبانيةُ رفضُ النساء وشهوات الدنيا ، واتخاذ الصوامع ومعنى { ٱبتَدَعُوهَا } أي أحدثوها من عند أنفسهم { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } أي ما أمرناهم إِلا بما يرضي الله ، والاستثناء منقطع والمعنى ما كتبنا عليهم الرهبانية ، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي فما قاموا بها حقَّ القيام ، ولا حافظوا عليها كما ينبغي قال ابن كثير : وهذا ذمٌ لهم من وجهين : أحدهما : الابتداع في دين الله ما لم يأمر به اللهُ والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إِلى الله عز وجل ، وفي الحديث " لكل أمة رهبانية ، ورهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله " { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ثوابهم مضاعفاً { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله كقوله تعالى { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 34 ] { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ } أي يا من صدقتم بالله اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ودوموا واثبتوا على الإِيمان { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أي يعطكم ضعفين من رحمته { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } أي ويجعل لكم في الآخرة نوراً تمشون به على الصراط { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم المغفرة واسع الرحمة { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ } أي إِنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم ، فلا في قوله { لِّئَلاَّ } زائدة والمعنى ليعلم قال المفسرون : إن أهل الكتاب كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا ، والكتابُ والشرع ليس إِلا لنا ، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين ، فردَّ الله عليهم بهذه الآية الكريمة { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي وأن أمر النبوة والهداية والإِيمان بيد الرحمن يعطيه لمن يشاء من خلقه { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } أي والله واسع الفضل والإِحسان . البَلاَغَة : تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي : 1 - الطباق بين { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } وبين { ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ } وبين { ٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ } . 2 - المقابلة بين { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } [ الحديد : 4 ] وبين { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [ الحديد : 4 ] . 3 - رد العجز على الصدر { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } [ الحديد : 6 ] وهو وما سبقه من المحسنات البديعية . 4 - حذف الإِيجاز { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ } [ الحديد : 10 ] حذف منه جملة " ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل " وذلك لدلالة الكلام عليه ويسمى هذا الحذف بالإِيجاز . 5 - الاستعارة اللطيفة { لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ الحديد : 9 ] أي ليخرجكم من ظلمات الشرك إِلى نور الإِيمان ، فاستعار لفظ { ٱلظُّلُمَاتِ } للكفر والضلالة ولفظ { ٱلنُّورِ } للإِيمان والهداية وقد تقدم . 6 - الاستعارة التمثيلية { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ الحديد : 11 ] مثَّل لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الله مخلصاً في عمله بمن يُقرض ربه قرضاً واجب الوفاء بطريق الاستعارة التمثيلية . 7 - الأسلوب التهكمي { مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ } [ الحديد : 15 ] أي لا ولي لكم ولا ناصر إِلا نار جهنم وهو تهكم بهم . 8 - المقابلة اللطيفة بين قوله { بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ } [ الحديد : 13 ] وقوله { وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [ الحديد : 13 ] . 9 - التشبيه التمثيلي { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً … } لأن وجه الشبه منتزع من متعدد . 10 - الجناس الناقص { أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } لتغير الشكل وبعض الحروف . 11 - السجع المرصَّع كأنه الدر المنظوم { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } وقوله تعالى { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [ الحديد : 13 ] وهو كثير في القرآن .