Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 1-15)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { سَبَّحَ } نزَّه الله ومجَّده وقدَّسه { ٱلْعَزِيزُ } القوي الغالب على كلي شيء { ٱلأَوَّلُ } السابق على جميع الموجودات { ٱلآخِرُ } الباقي بعد فنائها { يَلِجُ } يدخل { يَعْرُجُ } يصعد { ٱلظَّاهِرُ } بوجوده ومصنوعاته وآثاره { ٱلْبَاطِنُ } بكنه ذاته عن إِدارك الأبصار له { ٱلْحُسْنَىٰ } المثوبة الحسنة والمراد بها الجنة { ٱنظُرُونَا } انتظرونا { نَقْتَبِسْ } نستضيء ونهتدي بنوركم { سُورٍ } حاجز بين الجنة والنار { ٱلْغَرُورُ } الشيطان وكل من خدع غيره فهو غار وغرور . التفسِير : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي مجَّد اللهَ ونزَّهه عن السوء كلُّ ما في الكون من إِنسان ، وحيوان ، ونبات قال الصاوي : والتسبيحُ تنزيهُ المولى عن كل ما لا يليق به قولاً ، وفعلاً ، واعتقاداً ، من سبح في الأرض والماءِ إِذا ذهب وأبعد فيهما ، وتسبيحُ العقلاء بلسان المقال ، وتسبيح الجماد بلسان الحال أي أن ذاتها دالة على تنزيه صانعها عن كل نقص ، وقيل بلسان المقال أيضاً { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإِسراء : 44 ] وقال الخازن : تسبيحُ العقلاء تنزيهُ الله عز وجل عن كل سوء ، وعما لا يليق بجلاله ، وتسبيحُ غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه ، فقيل : تسبيحه دلالته على صانعه ، فكأنه ناطق بتسبيحه ، وقيل : تسبيحه بالقول ويدل عليه قوله تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإِسراء : 44 ] أي قولهم ، والحقُّ أن التسبيح هو القولُ الذي لا يصدر إِلا من العاقل العارف بالله تعالى ، وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان : أحدهما : أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني : أن جميع الموجودات بأسرها منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء ، فإِن حملنا التسبيح على القول كان المراد بقوله { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } الملائكةُ والمؤمنون العارفون بالله ، وإِن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي ، فجميع أجزاء السماوات وما فيها من شمس ، وقمر ، ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبالٍ ، وبحار ، وشجر ، ودواب وغير ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله ، منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء ، فإِن قيل : قد جاء في بعض فواتح السور { سَبَّحَ للَّهِ } بلفظ الماضي ، وفي بعضها { يُسَّبح للهِ } بلفظ المضارع فما المراد ؟ قلت : فيه إشارة إِلى كون جميع الأشياء مسبحاً لله أبداً ، غير مختص بوقت دون وقت ، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي ، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي وهو الغالب على أمره الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء ، الحكيمُ في أفعاله الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة … ثم ذكر تعالى عظمته وقدرته فقال { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي هو جل وعلا المالك المتصرف في خلقه ، يحيي من يشاء ، ويُميت من يشاء قال القرطبي : يميتُ الأحياء في الدنيا ، ويحيي الأموات للبعث والنشور { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولفظُ { قَدِيرٌ } مبالغة في القادر لأن " فعيل " من صيغ المبالغة { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ } أي ليس لوجوده بداية ، ولا لبقائه نهاية { وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ } أي الظاهرُ للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده ، الباطنُ الذي لا تدركه الأبصار ، ولا تصلُ العقولُ إِلى معرفة كنه ذاته وفي الحديث " أنت الأولُ فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء " قال شيخ زاده : وقد فسَّر صاحب الكشاف " الباطن " بأنه غير المدرك بالحواسِ وهو تفسير بحسب التشهي يؤيد مذهبه من استحالة رؤية الله في الآخرة ، والحقُّ أنه تعالى ظاهرٌ بوجوده ، باطنٌ بكنهه ، وأنه تعالى جامعٌ بين الوصفين أزلاًَ وأبداً { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي هو تعالى عالمٌ بكل ذرةٍ في الكون ، لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي خلقهما في مقدار ستة أيام ولو شاء لخلقهما بلمح البصر ، وهو تحقيقٌ لعزته ، وكمال قدرته ، كما أن قوله { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ } تحقيق لحكمته ، وكمال علمه { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } استواءً يليق بجلاله من غير تمثيلٍ ولا تكييفٍ { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي يعلم ما يدخل في الأرض من مطر وأموات ، وما يخرج منها من معادن ونبات وغير ذلك { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي وما ينزل من السماء من الأرزاق ، والملائكة ، والرحمة ، والعذاب ، وما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة كقوله { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } أي هو جل وعلا حاضرٌ مع كل أحدٍ بعلمه وإِحاطته قال ابن عباس : هو عالمٌ بكم أينما كنتم قال ابن كثير : أي هو رقيبٌ عليكم ، شهيدٌ على أعمالكم ، حيث كنتم وأين كنتم ، من برٍّ وبحر ، في ليلٍ أو نهار ، في البيوت أو القفار ، الجميع في علمه على السواء ، يسمع كلامكم ويرى مكانكم ، ويعلم سرَّكم ونجواكم { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي رقيب على أعمال العباد ، مطلع على كل صغيرة وكبيرة { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } كرره للتأكيد والتمهيد لإِثبات الحشر والنشر أي هو المعبود على الحقيقة ، المتصرف في الخلق كيف يشاء { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أي إِليه وحده مرجع أمور الخلائق في الآخرة فيجازيهم على أعمالهم { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } أي هو المتصرف في الكون كيف يشاء ، يقلِّب الليل والنهار بحكمته وتقديره ، ويدخل كلاً منهما في الآخر ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار ، وأُخرى بالعكس { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي هو العالم بالسرائر والضمائر ، وما فيها من النوايا والخفايا ، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يُعبد سواه . . ثم لما ذكر دلائل عظمته وقدرته ، أمر بتوحيده وطاعته فقال { آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي صدِّقوا بأن الله واحد وأن محمداً عبده ورسوله { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } أي وتصدّقوا من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها ، فهي في الحقيقة لله لا لكم قال في التسهيل : يعني أن الأموال التي بأيديكم إِنما هي أموال الله لأنه خلقها ، ولكنه متَّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء فلا تمنعوها من الإِنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه ، والمقصود التحريضُ على الإِنفاق والتزهيد في الدنيا ولهذا قال بعده { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } أي فالذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والإِنفاق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم لهم أجر عظيم وهو الجنة قال أبو السعود : وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى ، حيث جعل الجملة اسمية { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وأعيد ذكرُ الإِيمان والإِنفاق { آمَنُواْ … وَأَنفَقُواْ } وكرر الإِسناد { لَهُمْ } وفخَّم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير { لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } استفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيُّ عذرٍ لكم في ترك الإِيمان بالله ؟ { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ } أي والحالُ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوكم للإِيمان بربكم وخالقكم ، بالبراهين القاطعة ، والحجج الدامغة { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } أي وقد أخذ الله ميثاقكم - وهو العهد المؤكد - بما ركز في العقول من الأدلة الدالة على وجود الله قال أبو السعود : وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقال الخازن : أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه ، وقيل : أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول ، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إِلى متابعة الرسول { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } شرطٌ حذف جوابه أي إِن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات فالآن أحرى الأوقات لقيام الحجج والبراهين عليكم … ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإِيمان فقال { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي هو تعالى الذي ينزّل على محمد القرآن العظيم ، المعجز في بيانه ، الواضح في أحكامه قال القرطبي : يريد بالآيات البينات القرآن وقيل : المعجزات أي لزمكم الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجزات ، والقرآنُ أكبرها وأعظمها { لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي ليخرجكم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان { وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم ، حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتكم ، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ؟ أيْ أيُّ شيءٍ يمنعكم من الإِنفاق في سبيل الله ، وفيما يقربكم من ربكم ، وأنتم تموتون وتخلّفون أموالكم وهي صائرة إِلى الله تعالى ؟ قال الإِمام الفخر : المعنى إِنكم ستموتون فتورثون ، فهلاَّ قدمتموه في الإِنفاق في طاعة الله ! ! وهذا من أبلغ الحث على الإِنفاق في سبيل الله { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة ، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة قال المفسرون : وإِنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة الإِسلام إِلى الجهاد والإِنفاق كانت أشد ، ثم أعز الله الإِسلام بعد الفتح وكثَّر ناصريه ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً { أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ } أي أعظم أجراً ، وأرفع منزلة من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا لإِعلاء كلمة الله قال الكلبي : نزلت في " أبي بكر " لأنه أول من أسلم ، وأول من أنفق ماله في سبيل الله ، وذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي وكلاً ممن آمن وأنفق قبل الفتح ، ومن آمن وأنفق بعد الفتح ، وعده الله الجنة مع تفاوت الدرجات { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي عالمٌ بأعمالكم ، مطلع على خفاياكم ونواياكم ، ومجازيكم عليه ، وفي الآية وعدٌ ووعيد { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ابتغاء رضوانه { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أي يعطيه أجره على إِنفاقه مضاعفاً { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي وله مع المضاعفة ثواب عظيم كريم وهو الجنة قال ابن كثير : أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة ، " ولما نزلت هذه الآية قال " أبو الدحداح الأنصاري " يا رسول الله : وإنَّ الله ليريد منا القرض ؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال أرني يدك يا رسول الله ، فناوله يده ، قال : فإِني قد أقرضت ربي حائطي أي بستاني وله فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه هي وعيالها ، فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح قالت : لبيك ، قال اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل ، فقالت : ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها " . ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الأبرار ، وما يتقدمهم من الأنوار وهم على الصراط فقال { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } أي اذكر يوم ترى أنوار المؤمنين والمؤمنات تتلألأ من أمامهم ومن جميع جهاتهم ليستضيئوا بها على الصراط ، وتكون وجوههم مضيئة كإِضاءة القمر في سواد الليل { بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي ويقال لهم : أبشروا اليوم بجنات الخلد والنعيم ، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبداً { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي الفوز الذي لا فوز بعده لأنه سبب السعادة الأبدية ، روي أن نور كل أحدٍ على قدر إِيمانه ، وأنهم متفاوتون في النور ، فمنهم من يضيء نوره ما قرب من قدميه ، ومنهم من يُطفأ نوره مرة ويظهر مرة قال الزمخشري : وإِنما قال { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . . ولما شرح حال المؤمنين يوم القيامة ، أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي انتظرونا لنستضيء من نوركم قال المفسرون : إِن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، ويترك الكافرين والمنافقين بلا نور ، فيستضيء المنافقون بنور المؤمنين ، فبينما هم يمشون إِذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة ، فبقوا في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم فيقولون للمؤمنين : انتظرونا لنستضيء بنوركم { قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } أي فيقول لهم المؤمنون سخريةً واستهزاءً بهم : ارجعوا إِلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هناك قال أبو حيان : وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإِنما هو إِقناطٌ لهم { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ } أي فضرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجزٍ له باب ، يحجز بين أهل الجنة وأهل النار { بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } أي في باطن السور الذي هو جهة المؤمنين الرحمةُ وهي الجنة ، وفي ظاهره وهو جهة الكافرين العذاب وهو النارُ قال ابن كثير : هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين ، فإِذا انتهى إِليه المؤمنون دخلوه من بابه ، فإِذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } أي ينادي المنافقون المؤمنين : ألم نكن معكم في الدنيا ، نصلي كما تصلون ، ونصوم كما تصومون ، ونحضر الجمعة والجماعات ، ونقاتل معكم في الغزوات ؟ { قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } أي قال لهم المؤمنون : نعم كنتم معنا في الظاهر ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق { وَتَرَبَّصْتُمْ } أي انتظرتم بالمؤمنين الدوائر { وَٱرْتَبْتُمْ } أي شككتم في أمر الدين { وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ } أي خدعتكم الأماني الفارغة بسعة رحمة الله { حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي حتى جاءكم الموتُ { وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } أي وخدعكم الشيطان الماكر بقوله : إن الله عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة : ما زالوا على خُدعةٍ من الشيطان حتى قذفهم الله في نار جهنم قال المفسرون : الغرور بفتح الغين الشيطان لأنه يغر ويخدع الإنسان قال تعالى { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ * إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [ فاطر : 5 - 6 ] { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي ففي هذا اليوم العصيب لا يقبل منكم بدلٌ ولا عوضٌ يا معشر المنافقين ، ولا من الكافرين الجاحدين بالله وآياته وفي الحديث " إن الله تعالى يقول للكافر : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟ ! فيقول : نعم يا ربّ ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسرُ من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم ، أن لا تشرك بي فأبيتَ إِلا الشرك " { مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي مقامكم ومنزلكم نار جهنم { هِيَ مَوْلاَكُمْ } أي هي عونكم وسندكم وناصركم لا ناصر لكم غيرها ، وهو تهكم بهم { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي وبئس المرجع والمنقلب نار جهنم . قال بعض العلماء : " السعيد من لا يغتر بالطمع ولا يركن إِلى الخدع ، ومن أطال الأمل نسي العمل ، وغفل عن الأجل " .