Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 61, Ayat: 1-9)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اللغَة : { سَبَّحَ } التسبيح تمجيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من صفات النقص { ٱلْعَزِيزُ } الغالب الذي لا يُغلب { ٱلْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء في مواضعها ويفعل ما تقتضيه الحكمة { مَقْتاً } بغضاً قال الزمخشري : المقتُ : أشدُّ البغض وأبلغه وأفحشه { مَّرْصُوصٌ } المتماسك المتلاصق بعضه ببعض قال الفراء : رصصتُ البناء إِذا لائمتُ بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة { زَاغُوۤاْ } مالوا عن الهدى والحق { ٱلْبَيِّنَاتِ } المعجزات الواضحات . سَبَبُ النّزول : روي أن المسلمين قالوا : لو علمنا أحبَّ الأعمال إِلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ! ! فلما فرض الله الجهاد كرهه بعضهم فأنزل الله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . التفسِير : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي نزَّه اللهَ وقدَّسه ومجَّده جميعُ ما في السماواتِ والأرض من مَلَك ، وإِنسان ، ونبات ، وجماد { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإِسراء : 44 ] قال الإِمام الفخر : أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السماوات والأرض { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي وهو الغالب في ملكه ، الحكيم في صنعه ، الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله لم تقولون بألسنتكم شيئاً ولا تفعلونه ؟ ولأي شيءٍ تقولون نفعل ما لا تفعلونه من الخير والمعروف ؟ وهو استفهام على جهة الإِنكار والتوبيخ قال ابن كثير : هذا إنكارٌ على من يَعِد وعداً ، أو يقول قولاً لا يفي به ، وفي الصحيحين " آية المنافق ثلاثٌ : إِذا وعد أخلف ، وإِذا حدَّث كذب ، وإِذا ائتمن خان " ثم أكَّد الإِنكار عليهم بقوله { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ } أي عظُم فعلكم هذا بغضاً عند ربكم { أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي أن تقولوا شيئاً ثم لا تفعلونه ، وأن تَعِدوا بشيء ثم لا تفون به قال ابن عباس : كان ناسٌ من المؤمنين - قبل أن يُفرض الجهاد - يقولون : لوددنا أنَّ اللهَ عز وجلَّ دلنا على أحبِّ الأعمال إِليه فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إِيمان بالله لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإِيمان ولم يقروا به ، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقَّ عليهم أمره فنزلت الآية وقيل : هو أن يأمر الإِنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به ، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه كقوله تعالى { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] ؟ ثم أخبرهم تعالى بفضيلة الجهاد في سبيل الله فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً } أي يحب المجاهدين الذين يصفُّون أنفسهم عند القتال صفاً ، ويثبتون في أماكنهم عند لقاء العدو { كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } أي كأنهم في تراصِّهم وثبوتهم في المعركة ، بناءٌ قد رُصَّ بعضه ببعض ، وأُلصق وأُحكم حتى صار شيئاً واحداً قال القرطبي : ومعنى الآية أنه تعالى يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء ، وهذا تعليمٌ من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم . . ولما ذكر تعالى أمر الجهاد ، بيَّن أنَّ موسى وعيسى أمرا بالتوحيد ، وجاهدا في سبيل الله وأوذيا بسبب ذلك فقال { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي } ؟ أي واذكر يا محمد لقومك قصة عبده وكليمه " موسى بن عمران " حين قال لقومه بني إِسرائيل : لمَ تفعلون ما يؤذيني ؟ { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ } أي والحال أنكم تعلمون علماً قطعياً - بما شاهدتموه من المعجزات الباهرة - أني رسولُ اللهِ إلِيكم ، وتعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة ؟ وفي هذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من كفار مكة { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي فلما مالوا عن الحقِّ ، أمال الله قلوبهم عن الهدى { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } أي واللهُ لا يوفق للخير والهدى من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله قال الرازي : وفي هذا تنبيهٌ على عظم إِيذاء الرسل ، حتى إِنه يؤدي إِلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى … ثم ذكر تعالى قصة عيسى عليه السلام فقال { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم } أي واذكر يا محمد لقومك هذه القصة أيضاً حين قال عيسى لبني إِسرائيل إِني رسول اللهِ أرسلت إِليكم بالوصف المذكور في التوراة قال القرطبي : ولم يقل " يا قوم " كما قال موسى ، لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه فإِنه لم يكن له فيهم أب { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } أي حال كوني مصدِّقاً ومعترفاً بأحكام التوراة ، وكُتب الله وأنبيائه جميعاً ، ولم آتكم بشيء يخالف التوراة حتى تنفروا عني { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } أي وجئت لأبشركم ببعثة رسولٍ يأتي بعدي يسمى " أحمد " قال الألوسي : وهذا الاسم الكريم علمٌ لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال حسان : @ صلَّى الإِلهُ ومن يحفُّ بعرشه والطّيبون على المبارك " أحمد " @@ وفي الحديث " لي خمسة أسماءٍ : أنا محمدٌ ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناسُ على قدمي ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب " ومعنى العاقب الذي لا نبيَّ بعده ، وروي أن الصحابة قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك ! فقال : دعوةُ أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أُمي حين حملت بي كأنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام { فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي فلما جاءهم عيسى بالمعجزات الواضحات ، من إِحياء الموتى ، وإِبراء الأكمه والأبرص ، ونحو ذلك من المعجزات الدالة على صدقه في دعوى الرسالة { قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي قالوا عن عيسى : هذا ساحرٌ جاءنا بهذا السحر الواضح ، والإِشارة بقولهم " سحر " إِلى المعجزات التي ظهرت على يديه عليه السلام ، قال المفسرون : بشَّر كلُّ نبي قومه بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإِنما أفرد تعالى ذكر عيسى بالبشارة في هذا الموضع لأنه آخر نبيٍ قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، فبيَّن تعالى أن البشارة به عمَّت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إِلى عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إِسرائيل { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ } استفهامٌ بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن يدعوه ربه إِلى الإِسلام على لسان نبيه ، فيجعل مكان إِجابته إِفتراء الكذب على الله بتسمية نبيه ساحراً ، وتسمية آياتِ الله المنزلة سحراً { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا يوفق ولا يرشد إِلى الفلاح والهدى من كان فاجراً ظالماً { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي يريد المشركون بأن يطفئوا دين الله وشرعه المنير بأفواههم قال الفخر الرازي : وإِطفاء نور الله تعالى تهكمٌ بهم في إِرادتهم إِبطال الإِسلام بقولهم في القرآن إِنه سحر ، شُبهت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ، وفيه تهكم وسخريةٌ بهم { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } أي واللهُ مظهرٌ لدينه ، بنشره في الآفاق ، وإِعلائه على الأديان ، كما جاء في الحديث " إنَّ الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإِن مُلك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها … " الحديث والمراد أنَّ هذا الدين سينتشر في مشارق الدنيا ومغاربها { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } أي ولو كره ذلك الكافرون المجرمون ، فإِنَّ الله سيعز شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين قال في حاشية البيضاوي : كان كفار مكة يكرهون هذا الدين الحق ، من أجل توغلهم في الشرك والضلال ، فكان المناسب إِذلالهم وإِرغامهم بإِظهار ما يكرهونه من الحق ، وليس المراد من إِظهاره ألا يبقى في العالم من يكفر بهذا الدين ، بل المرادُ أن يكون أهلهُ عالين غالبين على سائر أهل الأديان بالحجة والبرهان ، والسيف واللسان ، إِلى آخر الزمان { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ } أي هو جلَّ وعلا بقدرته وحكمته بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن الواضح ، والدين الساطع { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } أي ليعليه على سائر الأديان المخالفة له ، من يهودية ونصرانية وغيرهما { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } أي ولو كره ذلك أعداءُ الله ، المشركون بالله غيره قال أبو السعود : ولقد أنجز الله وعده بإِعزاز دين الإِسلام ، حيث جعله بحيث لم يبق دينٌ من الأديان ، إِلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام .